آراء

تحليل .. محاكمة نشطاء حراك الريف بين القانوني والسياسي

أثارت حملة الاعتقالات الواسعة التي شنتها الدولة مؤخرا في صفوف نشطاء الحراك الشعبي الريفي موجة واسعة من الانتقادات الحقوقية، همت بالأساس الخروقات المواكبة لهذه الحملة الأمنية التي اتسمت بغياب أبسط معايير المحاكمة العادلة، وفقا لما هو متعارف عليه في الصكوك الدولية لحقوق الإنسان، الأمر الذي جعل الجميع يدق ناقوس الخطر ويشهر في وجه الدولة التاريخ الأسود للمحاكمات السياسية التي طبعت مشهد العدالة ببلادنا إبان سنوات الرصاص.

وكأن هذا التاريخ ينتفض من حرزه ليعيد نفسه من جديد بنفس الأدوات ونفس الصيغ والآليات وإن اختلفت الأزمنة والعقليات، ليبقى العنوان البارز لوصف هذا المشهد المؤلم هو العودة إلى عهد وسيناريو المحاكمات السياسية، حيث يسلط سياط السياسة على منطق القانون، وكالعادة يراد للقضاء أن يكون في المحك للفصل بين مصالح ترى الدولة أنها مشروعة من جهة وبين آمال وطموحات أفراد في التغيير السلمي لسياسات الدولة تجاه منطقة الريف، في إطار رفع لائحة مطالب في وجه الدولة .

فإذا كان القانون الجنائي هو مجموعة من الأحكام التي تنهى عن القيام بأفعال معينة، وتعاقب على إتيانها، والمحاكمة هي الإجراءات التي يقوم القضاء بموجبها بالفصل في الاتهام الذي يتم توجيهه لشخص بمخالفة تلك الأحكام، فإن طبيعة التهم الموجهة لناشطي حراك الريف، والتي يشكل المس بأمن الدولة الداخلي عنوانها البارز، ستقودنا لمحاكمات تعرض فيها مسائل سياسية، لأن الاعتقال أصلا مبني على دوافع سياسية لإسكات صوت الحراك وإقبار تجربة احتجاجية فريدة نوعيا..فهل سينتصر صوت العدالة ومنطق القانون على الدافع السياسي ويحول كل ذلك دون تحويل مسار المحاكمة من محاكمة قانونية إلى محاكمة سياسية؟ ويعنى ذلك بصفة أساسية أن يتم الفصل في المحاكمة القانونية وفقاً للقانون، بواسطة قضاء محايد سياسيا، رغم ما يمكن أن يقود إليه حكمه من تأثير على مجريات الحياة السياسي..

الجواب على ذلك يقودنا إلى التعرض لموضوع المحاكمة السياسية ومحاولة تحديد مفهومها وطبيعتها، وكذا الحدود الفاصلة بينها وبين المحاكمة القانونية. ولن يتأتى لنا ذلك إلا بتعزيز مقالنا ببعض النماذج التاريخية لأشهر المحاكمات السياسية في العالم .

المحاكمة السياسية تعني المحاكمة التي تكون فيها المحكمة أداة سياسية، تهدف إلى تنفيذ سياسة السلطة القائمة. وهذا يعنى أن المحاكمة السياسية ليست محاكمة على الإطلاق، لأنها ليست فصلاً في خصومة قانونية، تتحدد نتيجتها بما يقدم فيها من بينات، بل هي فصل في خصومة سياسية تتحدد نتيجتها وفقاً للرغبات السياسية للحكام. المحاكمة السياسية تقوم على تطبيق قانون ينتصر لأهداف سياسية خاصة، أو تطبيق إجراءات خاصة، أو يجريها قضاة ينحازون إلى عقيدة سياسية محددة، أو خليط من كل ذلك. وبالتالي فإن ما يميز المحاكمة السياسية عن المحاكمة القانونية هو أن الأولى نتيجتها معروفة سلفاً، لافتقادها للحياد.

يذكر نيلسون مانديلا في دفاعه الأسطوري المعروف برجل أسود في محكمة بيضاء: “بعد إجراء مشاورات مع المحامي الخاص بي رأيت أن أقوم بتولي الدفاع عن نفسي، مع الاحتفاظ به لإبداء النصح لي. إن هذه الدعوى هي محاكمة لآمال الشعب الأفريقي، ولذلك فقد قررت أن أتولى الدفاع فيها بنفسي”.

وهذا الموقف من مانديلا يكشف فهما عميقا لطبيعة المحاكمة السياسية، من حيث أن دور المحامي فيها محدود جداً، لأن القاضي غير محايد، ولأن القانون غير منصف. وقد أشار إلى مانديلا بوضوح عندما ذكر: “إنني أدفع بعدم اختصاص هذه المحكمة بمحاكمتي لسببين: الأول هو أنني لا أجد نفسي ملزماً سواء من الناحية القانونية أو الأخلاقية أن أطيع قانونا أصدره برلمان ليس لي حق التمثيل فيه، ومن الناحية الأخرى فإنني لن أحظى بمحاكمة عادلة، لأنه في مثل هذه المحاكمة السياسية التي تتعارض فيها آمال الشعب الإفريقي، مع مصالح الرجل الأبيض، فإن محاكم البلاد بتكوينها الحالي لا تكون محايدة ومنصفة، لأن الرجل الأبيض في مثل هذه الدعوى هو خصم ذو مصلحة، ومهما كانت درجة التزامه بالحياد والإنصاف فإنه لا يجوز له أن يفصل في دعوى تخصه”.

ويلاحظ هنا أن مانديلا لم يستخدم تعبير الرجل الأبيض بمعنى عنصري، بل بمعنى سياسي، وقد ذكر شرحاً لذلك: “لا بد أن أشير إلى أنني في خطابي لكم الآن سأشير إلى الرجل الأبيض. وأريد أن أؤكد أنني لست عنصرياً، بل أكره العنصرية، لأنني أعتقد أنها شعور بربري، سواء أتت من رجل أبيض أو أسود.. ولكن هذا التعبير مفروض على بطبيعة الظروف التي نعيشها”.

التمييز بين المحاكمة السياسية والمحاكمة القانونية

هناك فروق أساسية تميز بين المحاكمة السياسية، والمحاكمة القانونية، الأول أن المحاكمة القانونية حتى ولو كانت متعلقة بنشاط سياسي لا تكون متصلة بالمبدأ السياسي للمتهم، أو المدعي عليه، بل بما قام به من أفعال تؤدي إلى مساءلته قانونياً أو مدنياً، وهي مساءلة تطال أي شخص لو قام بذلك الفعل، بغض النظر عن لونه السياسي .

والمسألة الثانية هي أن القانون الذي يطبق في المحاكم القانونية على نشاط ذي طبيعة سياسية هو قانون لا يقصد حماية السلطة السياسية القائمة، وإنما يقصد حماية المصالح المشروعة للدولة، والفرق بين الاثنين هو الفرق بين القوانين التي تصدر عن أنظمة ديمقراطية، والقوانين التي تصدر عن أنظمة سلطوية. ونقصد بالحكومة السلطة السياسية القائمة في فترة محددة؛ في حين تعنى الدولة الأجهزة الدائمة التي تمارس بواسطتها الحكومة القائمة في زمن معين السيادة على الشعب والإقليم؛ فأجهزة الدولة المختلفة يجب أن تتميز بحياد تجاه الحكومات المتعاقبة من جهة، وتجاه التكوينات السياسية القانونية داخل الوطن من الجهة الأخرى. لذلك فإن القانون يمنع القائمين على أجهزة الدولة، كالقضاة وأعضاء القوات المسلحة والخدمة المدنية، من ممارسة العمل الحزبي ضماناً لذلك الحياد؛ في حين يجيز ذلك للقائمين على أجهزة الحكومة، كرئيس الحكومة والوزراء، ما يجعل معارضة الحكومة جزءا طبيعيا من العمل السياسي، لا أثر له على الدولة، التي تحتفظ بحيادها تجاه الحكومات التي تتعاقب عليها. وبالتالي فليس في معارضة الحكومة ما يستوجب التجريم، ولكن معارضة أجهزة الدولة ومنعها من أدائها لواجباتها فيه ما يستوجب ذلك. ولذلك فالقاضي في المحاكمة القانونية لا أثر لعقيدته السياسية، إذا كانت لديه عقيدة سياسية، على حكمه، فقاعدة الفصل في الخصومة تظل أبداً قانونية وليست سياسية.

محاكمة الملك تشارلس الأول

أول محاكمة، في ما نعلم، لرأس دولة عن الأفعال التي قام بها أثناء توليه المنصب هي محاكمة الملك تشارلس الأول في يناير عام 1649م. بدأت الأحداث التي أدت إلى سقوط تشارلس الأول حين احتل الجنود التابعين لكرومويل البرلمان وطردوا 180 عضواً، واعتقلوا خمسة وأربعين آخرين، حتى يضمنوا ولاء البرلمان لما يريدون. وهكذا قام البرلمان الناقص، أو عجز البرلمان RUMP PARLIAMENT كما يطلق عليه في التعبير الدستوري الإنجليزي، بتعيين محكمة خاصة لمحاكمة تشارلس الأول. تمت محاكمة تشارلس الأول بموجب قانون يؤكد خضوع الملك للقانون، ولكن ذلك القانون نفسه لم يكن قانوناً عادلاً، لأنه قانون شُرِّع خصيصاً لمحاكمة شخص واحد، وهو تشارلس الأول، وأول خصائص القانون أنه قاعدة عامة مجردة، فإذا كان القانون يُعنى بشخص بعينه، دون غيره من الناس، فإنه لا يكون قانونا. وهكذا تحققت القاعدة الأولى في المحاكمة السياسية، فقد تمت المحاكمة بموجب قانون غير منصف. تم تعيين ثمانين مفوضا من أعدى أعداء الملك تشارلس لمحاكمته، وهكذا كان على تشارلس الأول أن يواجه قضاة غير محايدين. رفض تشارلس الأول أن يجيب على التهمة لأنه رأى أن المحكمة ليس لديها سلطة شرعية لمحاكمته، وذكر: “إذا كان يمكن لسلطة لا تستند إلى قانون أن تصدر قوانين، وأن تعدل القوانين الأساسية للمملكة، فلا أدري كيف يمكن لأي شخص في إنجلترا أن يكون آمنا على حياته، أو على ممتلكاته. أنا لا أحفل بصحيفة الاتهام، ولكنى أسجل هذا الموقف دفاعاً عن حرية شعب إنجلترا”.

لم يكن تشارلس، في واقع الأمر، يدافع عن شعب إنجلترا، والذي كان قد أذاقه الأمرين حين حكمه حكماً مطلقاً، بدعوى أنه يستمد سلطاته من الله، والذي أصبح خاضعاً لحكامه الجدد، بدعوى أنهم يستمدون سلطاتهم من الأمة، دون أن يكون له أو لهم أي شرعية سوى الغلبة .

قررت المحكمة كما هو متوقع إعدام الملك تشارلس الأول، واقتيد فوراً إلى ساحة الإعدام، حيث تم تنفيذ الحكم بالفأس. وكان علينا أن ننتظر قرناً آخر لنتبين سخافة فكرة المحاكمة السياسية.

محاكمة لويس السادس عشر

ظل الملك لويس السادس عشر محتفظاً بعرشه، بعد استيلاء الثوار على السلطة في فرنسا عقب سقوط الباستيل، حيث كوِّنت “الجمعية الوطنية”، على غرار البرلمان الإنجليزي، وظل الملك يحتفظ ببعض السلطات، أهمها سلطة الاعتراض على القوانين، وعندما استخدم هذه السلطة في رفض إجازة القوانين المعادية للكاثوليكية، تم عزله في أغسطس 1792م، وكان ذلك إيذاناً بقيام حكم الإرهاب الدموي على يد الثوار المتطرفين (اليعاقبة) بقيادة مكسميليان روبسبيير، (غير القابل للإفساد) كما كان يطلق عليه أنصاره .

تم تكوين لجنة برلمانية تحت اسم لجنة الشرطة والأمن العام، خُوِّلت سلطة القبض على أي شخص، واقترح روبسيير منحها سلطة الإدانة والحكم على الناس؛ “لأنه بغير ذلك سننتقص من حق الشعب في الانتقام بدون داع”. وحالما تم قبول اقتراح روبسير تمت إقامة مقصلة في ساحة الكونكورد، أمام متحف اللوفر. وكانت المحاكم الثورية التي أقيمت عقب ذلك مثلاً صارخا لانتهاك العدالة؛ فكان احتجاج الحضور كفيلا بإبدال حكم البراءة إلى حكم بالإدانة. وهكذا بدأت مجازر سبتمبر كما عُرِفت في التاريخ، إذ كان الاتهام يعني الإدانة، والإدانة تعني الإعدام. وكما يذكر تشارلس ديكنز، فإن شعار الحرية والإخاء والمساواة أو الموت الذي أطلقته الثورة لم تحقق منه سوى الموت.

التناقض في فكرة المحاكمة السياسية

في الحمى الثورية التي عقبت انتخاب المؤتمر في 30/9/1792م، ارتفعت الأصوات المطالبة بمحاكمة الملك لويس السادس عشر، وكانت العقبة أمام ذلك أن الدستور كان يتضمن نصاً يمنح الملك حصانة مطلقة، ولكن الأغلبية لم تكن ترى لذلك النص قيمة، لأن السيادة للأمة، ولها أن تفعل ما تشاء؛ وبالتالي فقد وجدت المطالبة بمحاكمة الملك شعبية كبيرة، ولكن فكرة المحاكمة العادلة اختفت كلياً.

يشرح ميرلان دي تونجفيل أي محكمة يريد: “الآن وقد قررنا إلغاء الملكية، علينا أن نعلن أن الملك المخلوع ليس مواطناً، وأنه يجب أن يخر صريعاً تحت سيف الأمة. يتوجب عليكم أن تكونوا بالنسبة له ممثلي الاتهام، والقضاة في الوقت نفسه”. ولكن فقط غلاة اليعاقبة رأوا سخافة فكرة المحاكمة السياسية، وهو ما دفع سانت جوست لرفض المحاكمة تماماً: “أيها المواطنون إذا أردنا محاكمة قانونية، فإن لويس هو الذي سيحاكمنا. بالنسبة لي لا أرى حلاً وسطاً، هذا الرجل إما أن يسود أو يموت. القانون هو علاقة عادلة، ولكن هل يمكن أن تكون هناك علاقة عادلة بين الأمة والملوك؟ مهما غطت الملكية نفسها بالأوهام، والتقاليد، فإنها تبقي جريمة، يحق لكل شخص أن يقف ضدها. أي ملك هو متمرد على الأمة، ومغتصب لسلطاتها”.

ولكن روبسبيير بما عًرِف عنه من ذكاء وقاد، أوضح أكثر هذه الفكرة، حين قال مخاطباً النواب: “من السخف إجراء محاكمة جنائية للملك، فلويس ليس متهماً، وأنتم لستم بقضاة. أنتم رجال دولة، وممثلو شعب، وليس لكم أن تصدروا حكماً له، أو ضده، بل عليكم أن تأخذوا تدبيراً لحماية الأمة، وأن تمارسوا سلطتها”.

لقد كان منطق روبسبيير في هذا أن “الأمة بالفعل قد عزلت الملك، لتآمره عليها، ولكنها لا تستطيع أن تحاكمه، لأن المحاكمة تفترض براءته، وافتراض براءته يفترض جرم الأمة التي عزلته”، وقال مذكراً زملاءه: “إن الدستور يمنع ما قمتم به، والذين يطالبون بمحاكمة وفقاً لذلك الدستور عليهم أن يخروا أمام لويس طالبين العفو منه”. وأنهى روبسبيير خطابه قائلاً: “يجب أن يموت لويس، لأن الوطن يجب أن يحيى”.

وبعد نقاش مستفيض لم تجد فكرة روبسبيير قبولا لدى المؤتمر، وفاز الرأي المطالب بمحاكمة الملك، بزعم أنه يجب أن يُوفّر له ما لم يوفره هو لمواطنيه، وهو الحق في أن يُحاكم محاكمة عادلة، ولم يكن في إمكانهم أن يروا ما رآه روبسبيير، وهو استحالة توفير محاكمة سياسية عادلة. وكانت المزاعم الكاذبة عن إمكانية محاكمة سياسية عادلة هي التي سنراها تكتسب قبولاً على يد أنظمة سياسية ثورية، تحت مسمى الشرعية الثورية، مع أنه لا يمكن أن تكون هنالك أي شرعية لمحاكمة غير عادلة. حوكم لويس السادس عشر أمام الجمعية الوطنية (البرلمان) بعد صياغة لائحة اتهام بواسطة لجنة من 21 عضوا. طلب لويس أن يُمثل بمحام، وبعد نقاش طويل تمت الموافقة على ذلك. في مرافعته الختامية، أوضح المحامي دي سيز أن محاكمة لويس السادس عشر تخالف الدستور، لأنه يحاكم على أعمال قام بها أثناء توليه المنصب، مع أن الدستور يمنحه حصانة حتى يتم عزله لأحد الأسباب الواردة في الدستور، ورد على ادعاء الاتهام بأنه طالما أنه لا يوجد قانون يحاكم لويس، فإنه يجب محاكمته بموجب أحكام القانون الطبيعي، لأن القانون الطبيعي يتضمن قواعد المحاكمة العادلة. وقد ختم مرافعته البليغة مخاطباً أعضاء البرلمان قائلاً: “أيها المواطنون، إنني أبحث عن القضاة بينكم فلا أجد إلا ممثلي اتهام”. وكما هو متوقع حوكم لويس بالإعدام.

لقد كان غلاة اليعاقبة أول من رأوا أن المحاكمة إما أن تكون قانونية أو لا تكون، وأن المحاكمة السياسية تفتقد أي أساس قانوني أو منطقي؛ ولكن ما لم يروه هو أن سيادة الأمة لا تمنح شرعية لعقاب خارج إطار المحاكمة القانونية. وكان على سان جوست وروبسبيير أن يدفعا حياتيهما ثمناً لذلك الخطأ. ففي 27 يوليو 1794، أي في أقل من عام على إعدام لويس السادس عشر، اقتيد سان جوست وروبسبيير في معية عشرة من أنصارهما إلى المقصلة التي طالما اقتادوا إليها الآخرين، دون أي محاكمة، حين قرر ممثلو الأمة، في تطبيق لنظريتهما، أنهما يجب أن يموتا لتحيى الأمة.

*محام بهيئة الرباط

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *