المغرب الكبير

أزمة قطر..هكذا قاومت الدول المغاربية “غوايةَ” المال الخليجي

المسافة التي تحرص العواصم المغاربية على إبدائها إزاء أطراف الأزمة الخليجية، قد تفسرها الجغرافيا، لكن الحضور الخليجي في البلدان المغاربية في واقع الأمر أكثر تعقيدا، وهوما يجعلها تحت وطأة ضغوط قد تزداد كلما طال أمد الأزمة.

استثمارات وتجارة وأدوار ديبلوماسية وسياسية وعلاقات بين الأسر الحاكمة، أوراق عديدة استخدمتها دول الخليج الثلاث على إمتداد عقود في علاقاتها مع العواصم المغاربية، حتى تحول الأمر إلى نفوذ سياسي مستدام داخل كل بلد مغاربي. ولذلك فإن قراءة تحليلية في موقف”الحياد” – المشترك ودون تنسيق فيما يبدو- المعلن من قبل العواصم المغاربية الثلاث: المغرب والجزائر وتونس، قد تقود إلى الإستنتاج بأن الأمر مجرد نأي بالنفس عن الخوض في صراعات بين أعضاء “الأسرة” الخليجية.

بيد أن الأمور تنطوي على تعقيدات أكثر، هذه التعقيدات تأخذ مدى أمني وعسكري في ليبيا التي تعتبر مسرحا مفتوحا للصراع بين أطراف الأزمة الخليجية، وهو ما يرصده المراقبون من خلال مظاهر الإنقسام بين الحكومة المؤقتة (مقرها البيضاء في شرق البلاد) المدعومة من الجنرال المتقاعد خليفة حفتر والتي أعلنت تأييدها لقرار السعودية والإمارات والبحرين ومصر، وحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا، التي يرأسها فايز السراج وتدعمها المليشيات المسيطرة على طرابلس والغرب، وهذه الأخيرة أقرب إلى قطر وتركيا. أما موريتانيا فهي تعتبر بمثابة الحلقة الأضعف في المنطقة المغاربية، وقد أعلنت مقاطعتها لقطر.

لكن من يتابع مواقف العواصم المغاربية الثلاث الرباط والجزائر وتونس، يرصد محاولات لالتزام موقف حياد من الأزمة ومحاولات التوسط، تحت وقع ضغوط ملحوظة من أطراف الصراع في الأزمة القطرية، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة. وإذا طالت الأزمة “لسنوات” كما يتوقع ذلك أنور قرقاش وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، خلال زيارته أول أمس إلى باريس، فقد تزيد معها “آلام” الدول المغاربية الممسكة بموقف”الحياد” كمن يمسك بالجمر.

هل جازف المغرب بموقف”الحياد البنَّاء”؟

 بحكم قربه من الملكيات والأسر الحاكمة في دول الخليج، وشراكاته الاقتصادية والاستراتيجية معها، مُنح المغرب صفة عضو مراقب في مجلس التعاون الخليجي. وتكتسي علاقات الرباط بالدول الخليجية طابعا أكثر تعقيدا من أي عاصمة مغاربية أخرى، ولذلك فقد بدا موقف “الحياد البنَّاء” الذي أعلنت عنه مفاجئا للبعض ممن كانوا يتوقعون اصطفاف المغرب إلى السعودية والإمارات والبحرين الذين تربطهم به علاقات أقوى من علاقاته بقطر. فالمغرب يعتبر حليفا أمنيا وعسكريا للدول الثلاث وشارك بقواته تاريخيا في الدفاع عن السعودية خلال حرب الخليج الأولى ضد العراق الذي كانت تربطه به آنذالك علاقات متينة، ويشارك المغرب بقوات في “التحالف العربي” الذي تقوده السعودية حاليا في اليمن، وتعتبر حربا موجهة ضد النفوذ الإيراني. ويعتمد المغرب اقتصاديا بشكل كبير على الاستثمارات والمساعدات الخليجية، وهي تقدر بعشرات من المليارات.

وبالمقابل فان علاقات الرباط بالدوحة رغم أنها متينة وتقوم على مصالح إقتصادية، الا أنها لم تخل خلال السنوات الأخيرة من اضطرابات، وأقدمت الرباط منذ خمس سنوات على إغلاق مكتب قناة الجزيرة واتهمتها بالإنحياز والتحريض في ملف الصحراء الذي يعتبره المغرب “خطا أحمر” في سياسته الداخلية والخارجية.

ولذلك اعتبرت بعض وسائل الإعلام العربية أن المغرب قد جازف عندما أعلن موقف الحياد من الأزمة الحالية، ولكن الخارجية المغربية سارعت إلى التوضيح بأن إرسال مساعدات غذائية إلى قطر له طابع “تضامني.. ولا علاقة له بالجوانب السياسية للأزمة القائمة بين دولة قطر ودول شقيقة أخرى”. كما أكدت أن حياد المغرب “البنَّاء” نابع من خشيته من “منزلق مقلق بين دول شقيقة”.

وتحدثت بعض وسائل إعلام مغربية عما أسمته “ابتزازا سعوديا إماراتيا للمغرب في قضية الصحراء”.

بيد أن الاستقبال الذي خُصص لوزير الخارجية المغربي في الرياض من قبل الملك سلمان يبعث على إشارات تدل على إنصاتها لدور الوسيط المغربي الذي يُنظر له في الرياض وأبو ظبي والمنامة على أنه حليف”موثوق”.

كما تدرك العواصم الخليجية أن الملك محمد السادس الذي لم يشارك في قمة الرئيس الأمريكي ترامب مع زعماء دول عربية وإسلامية في الرياض، يقوم بدور وساطة قد تكون منسقة مع الشركاء الأوروبيين، وخصوصا فرنسا التي أعلنت بدورها وعلى لسان الرئيس إيمانويل ماكرون إثر لقائه الأسبوع الماضي في الرباط مع العاهل المغربي الملك محمد السادس، بأنها تجري مشاورات مع طرفي الأزمة وفي محاولة للتوسط بينهما.

حياد تونس كمن “يمسك بالجمر”

إعلان الرئيس باجي قايد السبسي موقف الحياد من الأزمة، بدا منسجما مع تراث مُلهمه الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة الذي طالما نآى ببلده الصغير عن صراعات منطقة الشرق الأوسط. لكن تونس الآن مختلفة كثيرا، فسياستها شديدة التأثر بالغليان والاضطرابات من حولها عربيا. فتونس التي بالكاد تتعافى من أحداث الإرهاب التي أعقبت الثورة، يحتاج إقتصادها أكثر من أي وقت مضى لرؤوس الأموال الخليجية، التي وصلت منها هذا العام 1,25 مليار دولار من قطر و800 مليون دولار من السعودية، بينما لوحظ تردد إماراتي.

وبقدر حاجة تونس إلى استثمارات الدول الخليجية إلا أن سياستها الداخلية والخارجية تبدو شديدة الحساسية بالمتغيرات التي تجري في منطقة الخليج. فأبوظبي التي دعمت وصول الرئيس الباجي قايد السبسي وحزبه”نداء تونس” إلى الحكم، لا تخفي من حين لآخر انزعاجها من وجود حزب النهضة الإسلامي في الائتلاف الحاكم بتونس، وتلوح باستخدام ورقة المساعدات الاقتصادية والاستثمارات، حيث تنشر صحف محلية في تونس تقارير حول ضغوط على “قصر قرطاج” في هذا الصدد، في إشارة إلى مقر الرئيس التونسي، الذي يحاول مسك العصا من الوسط وعدم إثارة غضب الجانب الإماراتي، الذي يُؤمِّن تأييدا موصولا من حزب “حركة مشروع تونس” المنشق عن “نداء تونس”، بزعامة محسن مرزوق الطامح إلى خلافة الرئيس التسيعيني قايد السبسي.

وبالمقابل يميل الشريك في الحكم، حزب النهضة، إلى تأييد موقف قطر في الأزمة. ورغم حذره في هذا الصدد وحرصه على الدعوة إلى”حل الأزمة في إطار الحوار” إلا أن الحزب الإسلامي “يرفض الحصار والمقاطعة المفروضة على قطر”، ويظل الحزب الإسلامي مدينا للراعي القطري، في حين يصطف حزب “حراك تونس الإرادة” (معارضة) الذي يتزعمه الرئيس السابق منصف المرزوقي، صراحة إلى جانب قطر والتي لعبت دورا استراتيجيا في دعم الحزبين إثر الثورة عندما كانا شريكين في حكومة “الترويكا”.

وتنشر صحف محلية تونسية انتقادات سياسيين ونشطاء من المجتمع المدني لدور “المال السياسي” القطري، وتطال تلك الإنتقادات دور الدوحة في دعم جمعيات “خيرية” و”إجتماعية” تثار حولها شبهات بتمويل متطرفين وجهاديين.

كما تحاول تونس أن لا يؤدي موقف الحياد إلى إثارة غضب السعودية التي تعتبر مستمثرا رئيسيا في البلاد. وما تزال السعودية تحتفظ لديها بالدكتاتور السابق زين العابدين بن علي، لكنها لم تقم بدور مشابه لما قامت به في مصر عبر دعم حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي والإطاحة بجماعة الإخوان المسلمين. وخلال العام الماضي سارع رئيس الحكومة التونسية إلى إقالة وزير الشؤون الدينية عندما اتهم السعودية بتشجيع التطرف.

وتراقب تونس بحذر شديد تطورات الصراع في ليبيا وتداعياته المباشرة على ميزان القوى في الجارة المضطربة. كما تخشى تونس من أن تتفاقم تفاعلات هذه الأزمة على المعادلة السياسية الداخلية في البلاد، وهي معادلة صعبة تقوم على قاعدة التوافق الوطني الذي استطاعت بفضله أن تنجو من الاضطرابات التي أصابت دول الربيع العربي الأخرى.

حياد الجزائر “متحرر من المال الخليجي”

 

الجزائر هي البلد المغاربي الذي كان أول من بادر بإعلان موقف الحياد من الأزمة الخليجية. ويعتبر صانع القرار الجزائري أكثر تحررا من المال الخليجي، بحكم غنى البلد وسياسته الخارجية التي كانت تاريخيا ضمن جبهات إقليمية مناوئة للتوجه الخليجي المحافظ، منذ زمن الحرب الباردة ووصولا إلى أزمات الخليج الأولى والثانية ووصولا إلى الأزمة السورية حيث عارضت الجزائر عزل نظام الأسد. كما ربطت الجزائر بإيران علاقات متواصلة منذ زمن الثورة الإيرانية.

ويعتبر الجزائريون أن النفوذ الوهابي السعودي كان من أسباب تغذية التيار الإسلامي بالجزائر خلال الثمانينات والتسعينات، إلا أن علاقات البلدين حافظت تقليديا على شعرة معاوية.

وللجزائر خيوط تواصل مع طرفي الأزمة، فالرئيس بوتفليقة الذي أقعده المرض مدين تاريخيا في وصوله إلى قصر المرادية، إلى أبو ظبي التي احتضنته أيام المنفى، قبل أن يعود لحكم البلاد سنة 1999. وتقيم الجزائر علاقات تشاور وتنسيق مع قطر بشأن ليبيا، التي تعتبرها الجزائر إمتدادا استراتيجيا في خاصرتها الجنوبية، وتحاول من حين لآخر استمالة الجنرال حفتر المدعوم من مصر والإمارات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *