آراء

حداد يكتب..ثقافة “الشعب” بين مثالية الرومانسيين ومنظري “الوعي الشقي”

هل للشعب روح؟ هل هناك حقيقة “أسطورية” تعلو على حقيقة الأفراد يختصرها البعض في “الشعب” والبعض الآخر في “الجماهير الشعبية”؟ هل “الوطن” واقع حديث أو وجود سرمدي كما يقول الوطنيون والقوميون؟ هذه مفارقة تحدث عنها بينديكت أندرسون إلى جانب مفارقات كون “الوطن” يقدم على أنه ذي أبعاد كونية رسمية بينما هو في الحقيقة بناء ثقافي اجتماعي ذي أبعاد متخيلة، ومفارقة كون “الوطنية” أو “القومية” تنتج سلطة سياسية رغم فقرها من الناحية الفلسفية والمفاهيمية.

هذه أسئلة فلسفية ابستمولوجية شغلت دارسي مقولات الشعب، والوطن، والقومية، خصوصا مفكرين أمثال إدوارد سعيد وإريك هوبسباوم وهومي بابا وبنيدكت أندرسون. كل هؤلاء ينطلقون من كون خطاب “الوطن” هو بناء متخيل لمجموعة متخيلة وحتى ل”جغرافيات متخيلة” (كما يقول إدوارد سعيد) يتم نسجه عبر التاريخ الحديث من خلال الأدب والثقافة العالمة والشعبية وأساطير الأصول وذلك لتحقيق أهداف سياسية أو قومية أو استراتيجية أو دينية أو إثنية. لم يقتنع هؤلاء لا بالتفسير الماركسي ولا بالتفسير الليبرالي لمقولة “الوطن” لذا ركزوا على إعطاء تفسير حديث وتاريخاني ينظر “للوطن” من خلال وظائفه الخطابية والسياسية.

وماذا عن الشعب؟ وماذا عن مفهوم الشعب والثقافة في فضاء الحداثة المغربية؟ كيف تم بناء مقولة “الشعب” على أنه مصدر “حقيقة الوطن” و “كنه الوطن”؟ كتبت عن تفكيك خطاب القومية في مناسبات سابقة؛ ما يهمني ها هنا هو علاقة مفهوم “الشعب” بالفعل الثقافي في منظور دارسي الظواهر الثقافية لمغرب ما بعد الاستقلال.

في الحقيقة “الشعب” ليس مفهموما سوسيولوجيا أو علميا محضا بقدر ما هو مقولة تطورت مع ظهور الدولة القومية في أوربا، خصوصا في ألمانيا وإيطاليا اللتان كانت نخبهما تتوق لظهور كيان يجمع شتات الإمارات الإيطالية من جهة وكذا شتات اللاندر الألمانية من جهة أخرى. وفي الحقيقة، فإن المفكرين الألمان أمثال هيجل وهيردر وشليجل والإخوة كريم هم من طوروا مقولة “الشعب” لتصبح مركزية في الخطاب القومي للقرن التاسع عشر، قبل أن تتبناه الحركات اليسارية والوطنية و التحررية في القرن العشرين.

حسب هيردر فالشاعر هو “صانع الوطن الذي يعيش فيه، فهو يعطي للناس عالما ينظرون إليه ويحمل أرواحهم بين يديه ليقودهم إلى ذلك العالم” (مقتطفات من رسائل حول الشاعر أوسيان وأغاني الشعوب القديمة, 1773). هكذا فالشعر الفلكلوري الألماني القديم بالنسبة لهيردر يحتوي على نقاوة وقوة تميز أصل الوطن قبل التحضر. شرح هيجل هذا الأمر عبر مقولة “روح الشعب” وهي نوع من الإحساس (الشبه ثقافي) يبقى دائما موجودا رغم التغيرات المجتمعية (محاضرات حول فلسفة التاريخ، 1805). الاهتمام ب”روح الشعب” الذي خلقه هيردير وهيجل وهامبولت وشليجل هو ما دفع الأخوين كريم إلى جمع متن هائل من القصص الفلكلورية ستمكن الألمان من استلهام هذه الروح الضامرة وراء التشتت، روح الوطن الدي سيأتي لأنها دائما موجودة قبل الكلمة، قبل اللغة، قبل الثقافة. ولكن اللهجة والقصص الشعبية ستقربها أكثر لأن هذه شاهدة على نقاوة الأصل.

رومانسية “روح الشعب” التي قال بها المفكرون الألمان في القرن التاسع عشر هي التي أسست لنمو الإيمان بسمو حقيقة الشعب في القرن العشرين خصوصا لدى الحركات اليسارية وحركات التحرر الوطني. ولكن هذا النمو أخذ مسارين: مسار الحركات الوطنية، التي تقول بضرورة التقاء مصير الوطن بمصير الشعب أو ضرورة ممارسة الشعب لسيادته فوق الوطن: أي التقاء المجموعة المتخيلة بالجغرافيا المتخيلة (اذا حاولنا التركيب بين إدوارد سعيد وبنديكت أنرسون)؛ والماركسيون الذين حدوا حدو جورج لوكاتش وقالوا بأن التاريخ لا يكتمل إلا حين يلتقي وعي البروليتاريا بدورها التاريخي في خلق الثورة المنشودة التي ستحرر المجتمع بأكمله. وحين لا يقع هذا التلاقي تكون النتيجة هي وعي شقي، مظاهره استيلاب مجتمعي، أي أن الطبقات العاملة تلعب أدوارا غير أدوارها التاريخية، وتشيؤ العمل والعلاقات الإنسانية والاجتماعية وتحويلها إلى سلع لها قيمة في السوق (لوكاش، التاريخ ووعي الطبقات، 1923).

على المستوى الثقافي هذا يعني أن الحركات القومية والتحررية ترى في الانتاجات العفوية للشعب خصوصا الفلكلور والحكايات الشعبية والشعر العفوي الجماعي والأمثال والحكم والقصص الغرائبية تعبيرا عن “روح الشعب” التواقة للانصهار في بوتقة الوطن الممكن، هذه الذات السرمدية التي تتمظهر في مظاهر متعددة تدل على استمرار روح المجموعة، بطريقة هيجلية ساحرة؛ بينما يرى أتباع لوكاتش ومنظري الوعي الطبقي الثقافة على أنها إما تعكس تلاقي الوعي والتاريخ كما هو الحال عند غوركي وبريخت وغيرهم أو تعكس وعيا شقيا يدرك المعاناة ولكنه لا يعبر عنها إلا عبر أنماط وسرديات تظهر اسيتلابه وتشيوء حياته، خصوصا عبر تركيزها على الرغبة المادية والروحية التي لا تجد ضالتها. القوميون يتيهون في غياهب رومانسية قوامها متخيل ينشد زواجا مثاليا بين الشعب والوطن، بينما ينخرط الماركسيون اللوكاشيون في سيكولوجيا للوعي الجماعي (الطبقي) غير مبرر لا من الناحية العلمية ولا من الناحية التاريخية (حيث أن قراءة متأنية للثورات -خصوصا الفرنسية والبولشفية–لا تبدي تمظهرا واضحا لوعي طبقي يتموقع على فوهة بركان التاريخ).

في مغرب ما بعد الاستقلال سيطر الهاجسان معا على النقد الثقافي خصوصا في علاقته مع الثقافة الشعبية. وهذان الهاجسان يعكسان إيديلوجيتين مختلفتين ومتقاطعتين نشأتا مع منتصف القرن الماضي وهيمنتا على الصراع الثقافي لفترة ما بعد الاستقلال: من جهة، إيديولوجية شبه محافظة مزجت بين التقليدانية الاجتماعية وفكر وسطي ذي توجه إصلاحي يقتبس قيمه من التفسير السلفي للدين ومن نظرة عروبية ل”لشعب” و “الوطن”؛ ومن جهة أخرى، إيديولوجية بورجوازية صغيرة تختزل نظرتها للمجتمع في إعادة النظر في تركيبة السلطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وإعادة تقسيم وسائل الإنتاج في إطار إيمان قوي بحتمية التطور التاريخي والدور الريادي لما يسميه روادها “الجماهير الشعبية” في التعجيل بموعدها مع هذا التاريخ. كلاهما رومانسي في تصوره لحركية التاريخ، وكلاهما يترجم هموم طبقة معينة ترى تطابقا تاريخيا ما بين مصالحها ومصالح الوطن.

نقاد الثقافة تأرجحوا بين هاذين الإيديولوجيتين (بل ومزجوا بينهما) في تفسيرهما لظواهر ثقافية ميزت التجربة المغربية. لهذا كان النقد الثقافي يحكمه هاجس الإيديولوجيا أكثر مما يحكمه هاجس الثقافة في حد ذاتها. وأضح نقد الإنتاجات الثقافية (خصوصا الشعبية منها لأن العالمة تنطلق في أغلبها من هذه النظرة أو تلك) يختزل في معان وتصورات يتم إسقاطها على التعبيرات لتقول أكثر مما تحتمل أو تترجم معان هي في أصلها غير واردة إلا في ذهن الناقد.

هكذا يتأرجح الناقد الثقافي في تفسيره للظاهرة الغيوانية وغناء المجموعات بين الإقرار بثوريتها أحيانا لأنها تقدم تمثلات حية لمعاناة وجودية يترجمها الناقد إلى معاناة سياسية في إطار صراع على السلطة، وبين الإقرار بنزعتها الميتافزيقية والتي تنم عن وعي شقي مفترض يحول دون المساهمة في التعجيل بموعد الشعب والجماعير الشعبية مع التاريخ. قليل هم الذين كلفوا أنفسهم عناء فهم ظاهرة المجموعات في إطار نسق يأخذ بعين الاعتبار الدور الناشيء للشباب (عالميا ومحليا) في التحولات الثقافية، وصدمة الحداثة وكيف دفعت بالكثير لسبر أغوار التراث لخلق حوار بينه وبين قوالب أدائية جديدة، في إطار تناص يؤسس خطاباته على تناقضات صارخة بين الواقع والحلم، وبين الرغبة واللغة، وبين الواقع والمتخيل.

هناك من نظر للعيطة على أنها فن قوامه التعبير عن وعي “وطني” ناشيء تم تشويهه بفعل الفعل الكولونيالي. حميد بوحميد مثلا كان يرى أن فن العيطة نشأ مغربيا ذي نزعة وطنية، طاهر اللغة والمعنى، وتم “تدنيسه” بعبارت ومجازات ذات طبيعة جنسية للتقليل من زخمه الثوري في الفترة الاستعمارية. هذا إسقاط صارخ لتصور غائي لنشأة الوطن ودور المجتمع بكل مجموعاته للمساهمة في كينونته وصيرورته. قليل ممن رأى في العيطة بقايا فن تربى في حضن فيودالية قايدية (نشأت على أنقاض ضعف المخزن المركزي في أواخر القرن التاسع عشر) وعلى أنه تعبير عن علاقة متوترة يحكمها الجنس والسلطة والتسلط والنوع الاجتماعي. من هذا المنظور فالتركيز على الخيل والتبوريدة والحركة والأولياء هي تتبيث لسلطة ذكورية شبه فيودالية في قصائد العيطة؛ بينما ظهور الجسد والجنس في البعض من هذه القصائد هو تعبير عن تيمات مضادة تقوض أخلاقيات العيطة الظاهرة وتفكك عناصرها. التناقض هو تناقض فقط لمن يريد خلق إسقاطات إيديولوجية على النصوص.

“الجذبة” و”الحال” نالت حظا وافرا من الاهتمام من طرف المبدعين والنقاد على حد سواء. السؤال الذي كان يؤرق الكثير كيف يمكن للجذبة أن تكون رفضا لواقع مأساوي وهي مغرقة في جلد الذات وميتافزيقا المعنى؟ لهذا تأرجحت التفسيرات ما بين الجسد الثائر، والوعي الشقي، وخلق عوالم متخيلة بديلة، و “الذاكرة الموشومة”… كربانزانو في دراسته حول “حمادشة” (1973) رأى فيها نوعا من العلاج النفسي السريري في علاقته مع مكونات إثنية ثقافية لها علاقة باللغة والولي الصالح والآلات المستعملة في الغناء والإيقاع. هذا مدخل مهم لدراسة الجذبة في حد ذاتها ولكن حتى كرابانزانو سقط في نوع من الإسقاط لثقافة التداوي النفسي السريري الغربية على ظاهرة يتداخل فيها النفسي والجسدي والديني والاجتماعي في علاقتهم مع أنساق ونماذج وطقوس غنائية معينة. مداخل قرائية تكمن في سبر أغوار سلطة المقدس وعلاقته بالجسد، الجسد كمشترك صعب للجنس والمقدس، و كيف أن الصراع يخلق حالات الجذبة والهذيان، خصوصا في بيئة اجتماعية معقدة.

يمكن أن نستمر في سرد الأمثلة عن النقد الإيديولوجي للفعل الثقافي المغربي. ما يهم هنا هو أن الظاهرة الثقافية تم تغييبها في حد ذاتها، في تناقضاتها، وفي تناصها، لأن ما كان يهم هو البحث عن حقيقة الشعب الضائعة، عن مصير الوطن، عن الموعد المنتظر مع التاريخ. أزمة الثقافة صارت أكثر تعقيدا حين توارى
البحث عن “حقيقة الوطن” إلى الوراء ووجد المبدعون ودارسو الثقافة أنفسهم أمام تراكمات كمية هي سياسية وإيديولوجية في حد ذاتها أكثر منها ثقافية ونقدية. لهذا فالنقد الثقافي التاريخي الصحيح (بالمعنى الدي أعطاه له أدوارد سعيد) لم يلتمس بعد طريقه إلى الوجود لإعطاء نفحة تفسيرية جديدة ومتجددة للفعل الثقافي (خصوصا في شقه الشعبي) في المغرب. هذا أمر يسائل الجميع: جامعة، واتحاد كتاب المغرب ودور النشر وإعلام…دون أن ننسى الكتاب والمبدعين.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *