آراء

المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ملزم بنقل نخبته المحافظة إلى “تين بوكتو”

كلما تحدثنا عن الأمازيغية بالمغرب إلا ويكثر القيل والقال إلى درجة أن البعض من أولئك الذين يعتبرون أنفسهم أمازيغ ليسوا في الحقيقة سوى متاجرين باسم الأمازيغية، وتنطبق عليهم قولة “أمازيغ السربيس”.

ولعلي أكتب على هذا الموضوع لعدة اعتبارات سنقتصر فيها على ما يروج اليوم من بناء توافقات جديدة وفبركة خريطة نخبوية تستجيب لتطورات المرحلة الراهنة بهدف تعيينها في المؤسسات والمجالس التي ستعنى مستقبلاً بالشأن الأمازيغي.

ونظراً لكون مثل هذه التدابير والعمليات التفاوضية غالباً ما تعرف شدّ وجدب ولا يسمع عنها الكثير، بل يتم تداولها في الكواليس وفي الصالونات المغلقة للعاصمة الرباط، كما هي عادة محترفي المطبخ السياسي بعيداً عن الرأي العام الوطني، ومادام أن الاستمرار على هذا النهج أصبح غير مقبول البثة نظراً لعدة اعتبارات؛ ومنها: استقبال الملك محمد السادس لقادة الحركة الوطنية لتحرير أزواض بمراكش دون حضور ممثلي المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، يقتضي إعادة النظر في وظائف هذه المؤسسة وأهدافها والتي توضح أنها تحت التأثير المباشر للتعليمات البيروقراطية وهيمنة الأطقم الإدارية على حساب هيأة الباحثين مما أدى إلى الشلل شبه التام للعمل الثقافي والإنتاج الفكري المواكب لتطورات القضية الأمازيغية وتنظيماتها الجمعوية والسياسية والحقوقية.

فكلنا يتذكر كيف تأسست هذه المؤسسة، وتمثيليتها السياسية للجهات على علاّتها وما وصلت إليه اليوم مما تشكله من نفور للمدافعين عن الأمازيغية؛ هذا دون الحديث عن الفشل الذريع لإدارة المؤسسة في التدبير السياسي لملف تدريس الأمازيغية وإدماجها في كافة مناحي الحياة العامة.

فهذه المؤسسة بفقهائها ومريديها أصبحت جامدة لا ترقى إلى تطلعات الأمازيغ المسكونين بهاجس المأسسة الحقيقية والتدبير السياسي للقضية الأمازيغية خاصة بعد دسترتها. هذا فضلاً عن الميزانية المتواضعة أصلاً المخصصة للمعهد يتعامل معها بوكوس والمجاهد بعقلية العصور الغابرة حين القيام بإرجاع الملايير إلى خزينة الدولة رغم أن الأمازيغية والمبدعين والباحثين في أمس الحاجة إليها. فالأمازيغية اليوم تقتل من طرف من يفترض فيهم أنهم أبنائها.

ألا يعرف بوكوس والمجاهد أن المؤسسات الاستشارية الأخرى لا أحد يتحدث عن ارجاعها للأموال للدولة رغم أن ملفاتها لا تقارن أمام حجم القضية الأمازيغية. مند تولية حكومة الإسلاموي ابن كيران دواليب الحكومة بالمغرب لم نسمع أي شيء عن المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ولا بأنشطته وتصدره للمشهد الثقافي الوطني رغم حجم ومكانة القضية الأمازيغية، وكان حرياً به أن يصرف ميزانيته في تأطير النقاش العمومي حول الأمازيغية في بعدها السياسي والدستوري والقانوني والإجرائي والثقافي وغيرها.

لكنه، للأسف، فضل التخصص في المهرجانات الثقافوية الفرجوية والتي وصلت إلى أقاصي الجبال والوديان، وكذلك تمويل جمعيات السهول والهضاب والقناطر وتربية الماعز لأنها موالية له مطيعة لتعليمات إدارييه وتقنوقراطييه مع تهميش الجمعيات الجادة والمعروفة بالنضال لصالح القضية الأمازيغية.

ومن تلك الجمعيات من لا تعنيها الأمازيغية إطلاقاً حسب ما يتداول لدى الفاعلين الأمازيغيين؛ بل يُسجل على المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية أنه المساهم الفعلي في اقبار الفن الأمازيغي الملتزم بالمغرب نظراً لتمييعه من طرف بعض الجمعيات التي لا تربطها بالثقافة الأمازيغية إلا ما تستفيد منه من مال بعدما كان هذا الفن مرتبط بالإنسان وبعوائده وتقاليده ووجوده.

فاليوم لم يعد الفن كما كان في السابق حيث يزرع المودة والتراحم والتضامن والتآزر بين الناس وتحول الآن إلى ماركة مسجلة تحتكرها بعض الجمعيات المطيعة للإملاءات الفوقية. وأغلب الخدمات التي يقدمها اليوم المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، في جانبها الجمعوية المرتبط بالدعم، تركز اهتمامها على مناطق محسوبة على نفوذ الأطقم الإدارية ولها علاقة بالنفوذ العائلي والشبكات الأخطبوطية، حيث تصرف الأموال لجمعيات محسوبة على أطراف النفوذ المخزني وغيرها.

وهي إستراتيجية الهدف من ورائها تعزيز فكرة أن الأمازيغية لكل المغاربة، والحقيقة أنها أصبحت لكل المحترفين وتجار الدين والأخلاق والمتطفلين الجدد. وحتى لا أطيل، ولكي لا تمر كواليس صناعة وفبركة خريطة جديدة، والتمهيد لتسطير خطط لإبقاء جنرالات الأمازيغية في المؤسسات العمومية ومنها “الايركام” لابد من التذكير من أن السياسة الجهوية من منظور الأمازيغ تقتضي إشراك الفاعلين السياسيين والذين لهم دراية بالأبعاد والرهانات السياسية للأمازيغية.

فالأمازيغ اليوم في كل بقاع “تموزغا” لم يعودوا في حاجة إلى من يردّ ميزانيات للدولة في الوقت الذي أعلنت فيه الدولة نفسها عن دسترتها، ويحتمي بالعائلات المتسلطة خلال مراحل التاريخ المغربي الحديث، بل أكثر من ذلك يعتمد على ثقافة الأوامر والإملاءات الإدارية المسطرية العتيقة. فالأمازيغية اليوم، وبعد استقبال الملك للحركة الوطنية لتحرير أزواض تحتاج الى روادها وأوفيائها ومناضليها الميدانيين والذين لهم علاقة بتنظيماتها، ولا مكانة فيها لتجار الدين الجدد والذين يتقنون ثقافة عام البون ويحتكرون الأنشطة من أجل الاسترزاق وملء الأرصدة على حساب شعب تمازغا وثقافته وفنونه.

فالتجربة المغربية من خلال الإيركام الحالي باتت قاب قوسين أو أدنى من الفشل الذريع نتيجة السياسة التقزيمية للتيار الأكاديموي والتقنوقراطي المستعينين بفقهاء المساجد؛ وباتت بذلك هذه المؤسسة، تبعاً لتلك السياسة، بمثابة “أخربيش”. أي ذلك المكان الخاص بحفظ آيات بينات من الذكر الحكيم من التعليمات والرقابة الذاتية المبالغ فيها.. فمثل هؤلاء كان يجب، بل لا زال الوقت، أن يكون مصيرهم إعادة التكوين على شاكلة ما قام به الصيني موتسي تونغ في معاقبته للنخبة “les mondariens” عندما فطن أنهم لا يصلحون للجد والمثابرة وتحقيق المأمول وألزمهم بالذهاب إلى جبال شنغاي العالية ببلاده الصين، حتى يفهموا معنى الحياة ما دموا يبالغون في تكديس الثروة والفساد وتلويث أجواء العمل داخل المؤسسات وخارجها، وهو الأمر الذي يجب ان يطبق على هؤلاء الإركاميين ما دام أن جيلاً جديداً من الشباب الباحثين مقموعون ولا أحد يستمع لهم.

وهنا لابد من استيعاب الرهانات الإقليمية المطروحة اليوم أمام الشأن الأمازيغي، بل ويستدعي الأمر التمحيص في نقطتين اثنتين هما: أولاً: أن يذهب هؤلاء الذين اغتنوا من الأمازيغية الى شمال مالي وفتح معاهد للأمازيغية لإخوانهم الأزواد خاصة منهم أنصار الدين، كيف لا وعدد كبيرُ منهم فقهاء ويأتمرون بأوامر الحركات الدينية والدعوية.

وقد سبق للملك محمد السادس أن دعى إلى تكوين أمثالهم لنشر تعاليم الإسلام بمالي. وبذلك يمكن تحقيق المقايضة بهؤلاء الفقهاء وتجار الدين باسم الأمازيغية هذه المرة. ثانياً: هو أن التمثيلة في مثل معهد بهذا الحجم تحتاج اليوم إلى خبرة السياسيين وامتداداتهم المجتمعية ومؤهلاتهم الفكرية بما يتيح بلورة تصورات سياسية تهم حاضر ومستقبل القضية الأمازيغية أكثر مما تتوفر عليها الأطقم الإدارية والتكنوقراطية التي يعجّ بها المعهد.

إن استحضار معطيات المحيط الإقليمي والجهوي بما في ذلك الموقع الجديد للأمازيغ في شمال افريقيا برمتها وكذلك المصالح الاقتصادية في علاقتها بالرهانات السياسية يقتضي إعادة النظر في دور ووظيفة محبي الكراسي وذوي المصالح العائلية والفئوية الضيقة. فحذار من الاخلال بالتوازنات الأمازيغية، سيّما وأن هناك أطراف دولية وإقليمية قد تكون خير مساند للمهمشين والمقصيين، وأكبر مؤشر على ذلك استقبال الحركة الوطنية لتحرير أزواض من طرف الملك محمد السادس بغية تحقيق السلام من خلال العملية التفاوضية في كل أطراف الصحراء؛ وكل ذلك يحتاج الى دعم سياسي أمازيغي ومن نخبة مؤهلة سياسياً وليس من خلال المدخل الثقافوي المؤطر بشعار “أخربيش”.

وفي الختام نقول؛ إنّ الحسابات الإقليمية والتفاعلات العميقة التي تعرفها القضية الأمازيغية لن ترض بالتأكيد مناوئيها وهم منشغلون للانقضاض عليها من الداخل. وستبذل الحركات الدينية والدعوية قصارى جهودها لتحويل مسار وخصوصية الأمازيغ في شمال أفريقيا. وهذا ما يجب أن يفهمه التيار الأكاديموي والتقنوقراطي الإركامي المتحالف حالياً مع الفقهاء والخاضعين لتأثير الحركات الدعوية. فمستقبل الأمازيغية يجب أن يكون في أيدي أبنائها البررة وليس بيد من يتعيّش فيها ويفكر بأفكار مشروع الوهابية والسلفية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *