مجتمع

محمد أبزيكا قبل ربع قرن .. أكادير مدينة بلا ثقافة وجوزةٌ داسها الجمل

في مقال له، نشره الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي (العدد 158) بتاريخ 7 دجنبر 1986، تحدث المثقف ابن مدينة آيت ملول محمد أبزيكا عن الوضع الثقافي بأكادير، واصفا المدينة بأنها منسلخة عن الفضاء الأصلي الذي تجسده مدن مثل تارودانت وتيزنيت وإيليغ وغيرها من الحواضر السوسية التي تعتبر منارة العلم والثقافة بالمغرب.

فأكادير حسب ابزيكا مدينة بلا وجهة وتصدم المثقف، فهي ليست مدينة يجتمع إليها المثقفون ويتناقشون فيها شؤونهم، بل إنها مدينة عبور لا غير، فلا شيء يغري المثقف أو الباحث عن التثقيف بأن يأتي لهذا الفضاء، وهو ما يجعل المثقف “الأكاديري” يجد نفسه في حرج عندما يتحدث غيره كم المثقفين عما يوجد بمدنهم، فيما لا يجد هو ما يفاخر به أمامهم.

في هذا المقال الذي نعرضه بين أيدكم بمناسة الذكرى الأربعينية لوفاته، ستقرؤون لواحد من أهم المثقفين الذي نشؤوا بفضاءات أكادير، ويحكي بصدق عن واقع الثقافة بهذه المدينة الفتية .. واقع يُوصف بدون مواربة أنه بئيس، فهي ليست إلا مدينة بدون ثقافة .. هكذا بدون نفاق.

أكادير .. الجوزة التي داسها الجمل

محمد أبزيكا

سأحاول أن أساهم في تقديم صورة عن “مدينتي” انطلاقا من التجربة الذاتية التي يمكن تلخيصها في هذه اللعبة الكلامية : لن أتكلم عن أكادير بقدر ما تتكلمني أكادير ؛ حتى لا أتورط في الادعاء بمعرفة فضاء مجزأ الى فضاءات لا يجمع بينها غير اسم أكادير، ومن فضائي الخاص – الذي لست واحدا فيه – انطلق في تقديم هذه الصورة :

1 – الوجه الثقافي – من قبل:

ما هو الوجه الثقافي لأكادير؟ سؤال تسعف في الاجابة عنه مسلمة القرن: ذوبان الحدود بين مدن العالم المتوأمة تلقائيا، بين مدن الراية الواحدة، بين المدن والقرى .. تمرد المدن على الأسوار وزحفها الحثيث نحو المطلق، وحدة النموذج صناديق الخرسانة، علب تؤوي النازح ليلا وتلفظه نهارا إلى غابة الاسمنت والضجيج والدخان والتيه والحظ والشارد .. هذا جواب مبدأ. إلا أن التفاصيل وخزات تفرض تغيير اتجاه السير من المطلق إلى النسبي، من التشابه إلى الاختلاف من العام إلى الخاص.

الحديث عن الخصوصي أصبح – بحكم وحدة النموذج – سريا في تجاويف الذاكرة؛ لا يأبه له الواقع المتجنس بالنموذج الواحد. وعندما تشتغل الذاكرة بهذا الحديث تمارس إعادة تشكيل ملامح شيء – هم اسمه الثقافة. أنحن أمام ثنائية ضدية طرفاها الذاكرة والواقع؟ الثقافة واللاثقافة؟ إنه سؤال ينبثق رغم كبريائنا من السؤال الأول.

فمن قبل كان يقال إن لكل مدينة مغربية وجهها الثقافي، أما أكادير التي لم تكن مدينة بمعنى الكلمة في القاموس الحضاري للمغرب القديم، فمن ورائها سوس العريضة حيث تزنيت وتارودانت وأكلو وتنالت وإيليغ وإيغيلالن وآلما … الخ مشكلة فضاء ثقافيا محدد الأبعاد والملامح. لكن بمجرد الدخول إلى أكادير اليوم من بوابتها الشمالية أو الشرقية أو الجنوبية تستقبلك مدينة منسلخة عن الفضاء الأصلي، مدينة يقولون عنها أنها بلا وجه. أي بلا ثقافة. وأمامك اختيارات أمام هذه الصدمة: الاندماج مع هذا اللاوجه. أو تعاند الواقع وتلتجئ الى المرجع محاولا ان تستعيد الوجه وتثقف المدينة ان الصدمة لا تقتصر على النازح من بادية سوس الى عاصمته، بل تشمل النازح من خارج سوس. أو ما يسمى عند السوسيين الى عهد قريب الشمال. يجد ابن البلد الذي “تثقف” وتنمدج في احدى فضاءات الشمال: مراكش ، فاس، الرباط، .. نفسه متنهدا بنفس العبارة التي يتنهد بها مثقف ساقه الحظ الميكانوغرافي الى أكادير: “مدينة بلا ثقافة” غير أن الأخير يعمق التنهيدة وهو يحدثك باحتجاج مصوغ من الشفقة والحنين عن فقدان الحرارة البشرية، زحمة الشوارع، تلاصق البيوت، طقوسه الطواف بين اضلع المدينة ، رائحة النعناع والشفنج واللبن والبغرير والكباب وملامح الأعراس والهدية والغيطة وعاشوراء … ويختم التنهيدة طالبا ” التسليم” لهذه المدينة التي “بلا قلب” ومع ان تعبير “مدينة بلا قلب ” يميز عادة المثقفين المنحدرين الى المدينة من فضاء البادية، والذين يعانون صدمة الانسلاخ عن فضاء البادية، والذين يعانون صدمة الانسلاخ عن الفضاء الأم والاندماج القسري في فضاء الأم البديل، فإن صدوره عن مثقفين مغاربة ينحدرون من مدن كمكناس او مراكش يؤكد أن أكادير فضاء يصدم “المديني والعروبي” معا.

ان لقاء بين مثقفين أحدهما ” أكاديري “والاخر ” شمالي ” على طاولة مقهى، لابد ان تكون هذه العقدة احد عناصر جدول الكلام المقهوي، وقد يساير المثقف المحلي ضيفه في غياب المدينة، وقد يتلمس الاعذار لمدينته : مدينة جديدة لم تكتسب بعد تقاليد المدن المغربية المختلفة عنها، اقتصادها السياحي، عدم وجود ” أبناء البلد” بالمفهوم التقليدي في المدن العريقة ، الكل ضيف عابر يبحث عن موقع قدم قد يجده وقد لا يجده؛ فإن وجد هذا الموقع تخلى عن السؤال والعتاب واندمج في الواقع- اللاثقافة سواء كان سوسيا أو خارج سوسي؛ وان لم يجده يعش على حنين الهجرة الى الشمال …

2 – ومن بعد ؟

لنطو صفحة ” من قبل ” ونفتح صفحة جديدة كي نقرأ الفضاء قراءة جديدة نستلهم قواعدها من قاعدة وحدة النموذج كي يتسنى لنا التحرر من الحماس والحنين والانفعال والتعصب والوقوف مع أو ضد هذه المدينة أو تلك تاركين جانبا بطاقة الهوية المدينية . مستعملين بطاقة الهوية الوطنية كي تتأتى الرؤية الواضحة غير الملوثة بالهلوسات القبلية والعشائرية والحسب والنسب والأصل والفرع والقاع والباع … ولا بد هنا من إجراء فلاش باك سريع لا لتكريس الذاكرة ، وإنما يرسم بدايات الانقطاع ومنافذ الخروج من المتاهة ، فلقد وجدنا على ألسنة آبائنا قسمة جاهزة أطرافها الفاسي والسوسي والدكالي ، للأول العلم ، وللثاني التجارة ، وللثالث الفلاحة ، ( وللباقين ماذا ؟ ) أعتقد أن لهذه القسمة تأثيرا سيكولوجيا – على الأقل – في تحديد ملامح الوجه الاكاديري ، رغم أن أكادير لم تعد تدعي تمثيلية سوس، ورغم أن سوس عالمة بشهادة أحد مثقفيها الراحلين. الذي تندرج جهوده الثقافية – على ما أعتقد – في اطار الدعوة الى إعادة النظر في القسمة المذكورة . لقد اصطدمت – ولم أصدم – ببعض رواسب القسمة المذكورة عندما كنت طالبا في عاصمة العلم في الشمال .ففي حفل جماعي ضم مجموعة من الطلبة، وفي سياق التعارف سألتني زميلة مستغربة : ” إنتنا سوسي وجاي ثقرا ؟ ” ورد زميل مكناسي على السؤال ، سوسي مقطع عاصي. خلا المال وثبع الحروف ” وضحكنا جميعا . ورغم ان الضحك بالنيات، فاني لم أصدم امام السؤال لاعتقادي ان صاحبة السؤال كانت بريئة في الاستغراب. ولم تكن ناوية التهكم . وانما كانت ضحية الانطباع – الحكم القبلي الذي وجدته بدورها جاهزا ضمن القسمة المذكورة .

عندما عدت الى أكادير صاحبني الشعور بأنني شبيه ببطل موسم الهجرة الى الشمال. فقد كان التصميم على المشاركة في تكوين الوجه الثقافي لآكادير، بعد التحرر من ” عقدة الشمال ” هو الزاد الوحيد الذي حملته معي من الشمال الى الجنوب. وكان توقيت العودة ( نهاية السبعينات ) مساعدا على الاندفاع والحماس لتنفيذ التصميم. فالهيمنة الثقافية بالمدينة كانت لصالح الاتجاه التقدمي – بالرغم من اختلاف التفاصيل – وكان نادي 2000 الذي اشتغلت فيه خلال هذه الفترة أكبر جمعية ثقافية من الناحية العددية ( 300 الى 500 عضو )، ومنبرا ثقافيا تتوحد فيه تلقائيا أغلب الجمعيات المحلية المتواجدة، والتي تصل آنذاك الى عشرين جمعية . وقد تميزت الفترة بصعود مد الثقافة الشعبية الذي توج بالمهرجان الأول والأخير للجامعة الصيفية . وقد تميز نشاط الجمعيات الثقافية بالحركية والتوع الذي كاد يغطي جميع الاهتمامات المألوفة : مسرح ، سنيما ، موسيقى ، أغنية ، محاضرات، كشفية ، رحلات ، إضافة الى الجمعيات المهنية : نقابة المحامين، ج مدرسي اللغة العربية ، ج مدرسي التاريخ والجغرافيا ، ج مدرسي اللغة الفرنسية ج الشؤون الاجتماعية والتربوية …

ومع ذلك ظل الحكم السابق ساريا على أكادير: مدينة لا ثقافية . و لايصدر الحكم عن الأفراد العاديين .بل عن مسؤولين عن قطاعات حيوية في المدينة . هذا الحكم أصبح منذ سنتين بمثابة شارة تلصق على وجه المدينة بدون تحفظ، وبدون أن يكلف الملصقون انفسهم مجرد استرجاع فترة التألق الثقافي في السبعينات حيث كان كثير من المثقفين الزائرين يفاجأون بصورة معاكسة للصورة المرجعية التي ترسخت في اذهانهم عن اكادير السياحية لا الثقافية. وقتها كانت المدينة فخا لذلك النوع من المحاضرين الذين يزورونها لمجرد ان يتكلموا ويتمتعوا بامتيازات الضيافة والكرم السوسي المتدرج من ثلاثة نجوم الى خمسة نجوم. وقتها كان بعض هؤلاء الزوار يشترط على الجمعيات الثقافية أو الهيآت المضيفة ان يتكلم و لا يناقش خوفا من متاعب الجمهور الذي ارغم كثيرا من هذا الصنف من الزوار على التنازل عن الكبرياء العلمي ليعيد النظر في بعض قناعاته…

ماذا تبقى الان ؟ ثلاث جمعيات من أصل عشرين تتحدى القحط باحلام جامع وامكانيات محدودة. نادي 2000 يخشى ان يلتحق بغيره من الأندية قبل عام 2000؛ الجمهور لم يعد مهتما ” أو لم يعد مفهوما ” .

تطل في الافق بدائل من الصعب التكهن بمدى قدرتها على صيانة الوجه الثقافي : المجلس البلدي مستعد للتنسيق مع الجمعيات الجادة . لكن هذا الاستعداد محفوف بالتحفظ لأن المجلس لا يريد أن يكون لحد الساعة بديلا للجمعيات. الجامعة المحلية، خصوصا كلية الآداب، تضع ضمن أهدافها الاشعاع الثقافي بالمدينة والجهة، ولكن التجارب المسجلة لحد الساعة تكشف عن وجود عقبات في وجه هذا الطموح لعل أبرزها الموقع الجغرافي، فلقد ظهر في اخر تظاهرة علمية – هي الأولى من نوعها في أكادير من حيث تعدد المحاور- قامت بها كلية الاداب ( أبريل 86) ان الاشعاع العلمي والثقافي للكلية الرابضة في أقصى شرق المدينة يصطدم بالرياح الغربية التي تعمل من أجل دفعه نحو الجبل… وتتحرك في هذا الظرف بدائل اخرى خارج أكادير .آتية من الشمال محاولة أن تخترق الأطلس الكبير المعروف في الدروس الجغرافية أنه سد طبيعي في وجه السحب الممطرة الاتية من الشمال . غير أن هذا القادم من الشمال يطرح لأول مرة برنامجا ثقافيا يخرج عن المفهوم المرجعي للثقافة. فهو يتحدث عن التنمية الاقتصادية الى جانب العمل الثقافي. المال والفكر . والانطباع الأول حول هذا المشروع هو أن المثقف الى جانب رجل الأعمال لن يكون سوى لوحة زيتية أو تحفة صامتة في مكتب رجل الأعمال، هذا انطباع – على كل حال – انطباع الاخرين الذين تمكنوا – والعهدة عليهم – من استطلاع أفاق هذا البديل. على أن أهم ما يلفت النظر في هذا البديل هو أن مشروعه الثقافي بني على أساس ما يعتقد أنه الوجه الحقيقي للمدينة : المال ثم الثقافة : وهذا الترتيب يبين غلبة الطرف الأول وتبعية الثاني . وبما أن الثقافة هي جوهر الكائن الانساني . فان هذا الترتيب يجعل وجود الانسان ثانويا. وبذلك يقلب المعادلة الطبيعية المفروض ان تجعل الانسان مركزا لا هامشا .

سأسمي الطرفين تسمية اخرى . انسجاما مع توجهات هذا المقال : سأتحدث عن وجهين لأكادير : الوجه الثقافي بالمعنى المرجعي للكلمة والذي ينطبق على فترة الازدهار في السبعينات والوجه العطالي اللاثقافي – الشارة المذكورة سابقا والذي تهيمن ملامحه على وجه المدينة الآن . يمكن تسمية الوجه الأخير : السنوبيزم – الاستهلاك ، ولكن العطالة – رغم قسوة التسمية – أحسن معبر عن حالة يكون فيها الناس لآهتين خلف حاجيات قبثقافية ، حيث الخطاب يقتصر على السيارة والشقة والقطعة الأرضية والفيلا والقرض والفيديو وتسهيلات الأبناك والطرق نحو الناس اللي فوق هذا في الجزء الغربي عاليا ، أما في الجزء الشرقي فالخطاب يتضمن اللوطو والتيرسي والتسلل الى خارج الوطن ومتابعة حركة المحظوظين من موقع الاعجاب أو الحسد واستهلاك القليل من الخبز والكثير من ثقافة التلفزيون . والنعناع المحرم ( الذهب الأخضر ) والحلم بمستقبل تصنعه كرة القدم و لا تصنعه المدرسة و لا التربية و لا حتى هجرة الى الخارج . ويبقى المسمون مثقفين نادبي الحظ الذي ساقهم الى الرزق المحدود . خصوص اذا كان رزق التعليم . لذلك لا عجب ان كثيرا من هؤلاء ينقلبون الى عدوانية واحتقار لكل ما هو ثقافي ولكل من يشغل نفسه بـ “الوهم الثقافي”.

هل تختلف مدينة أكادير عن غيرها من مدن المغرب اليوم في هذه الوضعية ؟ لا أعتقد فما يشكوه مثقف هنا يتكرر على لسان مثقف حتى في المدن المعروفة بأنها مراكز لتجميع النشاط الثقافي . وما حدث هنا لا يجد تفسيره الا فيما يحدث في المغرب كله ؛ وحتى لا أتحدث عن المغرب كله أسوق هذه الملاحظة في صيغة تساؤل : هل من الصدفة أن يكون ممثلو السكان سواء في الجماعات المحلية أو البرلمان بأكادير الكبرى من أيت ملول حتى أنزا أغلبية مثقفين خصوصا من قطاع التعليم ؟ هل من الصدفة أن يكون الممثلون البرلمانيون لأكادير الكبرى : صحافي شاعر ، أستاذ فلسفة ، معلم مجاز في القانون ؟ أليس هذا إنتاج مرحلة ارتفاع صوت الثقافي ليس في أكادير وحدها بل في المغرب كله ؟ و الان . ماهو الصوت المرتفع في الساحة هنا وهناك؟

لا أجد جوابا أحسن من تلك القولة التي رددها الناس سنة 1960 يوم زلزال أكادير والتي ينسبونها الى س . عبد الرحمان المجذوب “أكادير تلكركاعت ئيبج ءورام ” وهو عنوان هذه الخواطر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *