آراء

الحراكة

مشكلة سيدي افني ليست في كون عربة السياسة معطلة فحسب، وإنما في اتفاق “الشوافر”، و ووفائهم لممارسة السياسة نفسها التي تسببت في الكثير من الاعطاب، والتي ان الاوان تداركها قبل أن يستدعي الأمر “أون بان” سياسي قد يطول أمده.

والحقيقة الماثلة أمام عيون الرأي العام المحلي، الذي أصبح عاجزا عن التهام “الوجبات السريعة” التي تُطبخ في مقرات الاحزاب عند كل “وجبة” انتخابية قبل عرضها للاستهلاك، هي أن لا أحد يبدو مستعدا للاعتراف بأخطائه المتراكمة، وهو الأمر الذي وإن دل على شيء فإنما يدل على غياب أي أمل في تغيير الامور في المستقبل المنظور.

ولعل أفضل شيء قام به المخزن، طيلة هذه العقود الماضية، هو أنه منح حبل الخلاص كي يعلق عليه كل عابر فشله و يخرج على الناس شاهرا لسانه، متبرأ من مسؤولياته التي قبل تحملها حبا و طواعية.

وهكذا وحين توصل قواعد اللعبة أحدهم الى كرسي السلطة، فإنه يستحلي ذلك، دون أن يفوت فرصة التأكيد على أن شرعية وصوله جاءت ثمرة إرادة شعبية لا تقهر و عكست أجواء الديمقراطية والشفافية، لكن، وبمجرد أن تسير الامور نحو محطة المحاسبة، التي تعتبر جزء من قواعد اللعبة نفسها، فإن “الشيفور” يفضل أن يخرج عن الطريق ويبدأ في اجترار خطاب البكائيات وتشنيف أسماع الرأي العام بما لذ وطاب من وجبات التخدير، ورفض “المؤامرة” وهلم جرا من تلك الخطابات التي لا تقدم الجواب الحقيقي على كثير من الاسئلة المعلقة.

و لعل مشكلة رئيس المجلس البلدي لسيدي افني هي هذه بالضبط، فلو أنه حافظ على بيته الداخلي و تفادى إشعال الحرائق في غرفة القيادة، و التزم ببنود “قانون السير”، كما هو متفق عليه، لما زارته أي لجنة. والمعروف أن المجلس الجهوي للحسابات، وبموجب الميثاق الجماعي، يأتي لمباشرة عمله بعد رفض الحساب الاداري، و دون انتظار أي اشارة من أحد. ما يعنيه هذا الكلام أن قصة المخزن، و الحالة هذه، لا علاقة لها بهذا القدوم، عكس ما تحاول بعض “النقافات” ترويجه بقلم الصحافة.

وبقليل من التفكير نصل الى أن الذي استدعى اللجان في الحقيقة ليس سوى الرئيس نفسه، لأنه، وببساطة، اعتقد أن بإمكانه القيام بما يحلو له، كما لو كنا نعيش في عهد “السيبة”، وليس في بلد يحكمه القانون.

ولهذا وجب التحذير أن الطريق الوحيد للنجاة من محطة المحاسبة ليست من خلال وضع “بلاكة” طريق منحرف، قبل الخروج عن الطريق القانونية، ولا حتى بمحاولة إلهاء الرأي العام بحكايات سخيفة، وإنما عبر ترك قيادة عربة المسؤولية بالمرة، هذه الاخيرة التي تتطلب قدرة كبيرة على استشراف وتجنب “الدورة” التي غالبا ما تكون في الانتظار.

وأعتقد جازما أن الكثير من السياسيين الذين يقبلون بالمشاركة في اللعبة السياسية، بقواعدها المنصوص عليها في القانون، هم أكثر خطورة على الاستقرار من أي تيار اخر مهما كانت درجة تشدده. لأن من يُعبر عن أفكاره، ويرفض العمل من داخل المؤسسات المنتخبة انسجاما مع قناعاته يستحق على الاقل الاحترام على شجاعة التعبير عن موقفه، عكس بعض الجبناء الذين ما أن يستشعروا قدوم يوم “الفاكتورة” حتى يسارعوا إلى خلق عدو وهمي واتهامه بالوقوف وراء إفلاسهم المكشوف.

وهو الأمر الذي يسيء للسياسة كما لأصحابها و يجعلهم بعيدين عن موقع تحمل المسؤولية التي تقتضي امتلاك الشجاعة و الاعتراف بالخطأ، والاستعداد لدفع الثمن مهما يكن غاليا.

إن هذا الوضع غير المريح هو ما جعل من السياسة هنا مجالا مستباحا من قبل “الحراكة” الذين لا يترددون في اللجوء إليها كلما تهددهم خطر القانون، وقد سبق أن كتبت عن بعض المهنيين في قطاع النقل، مثلا، مشيرا إلى أن أول شيء يخطر ببالهم، أمام أول إدانة بالتقصير أو في حال ضبطهم بخرق ما، هو الانحراف عن جادة الصواب، و الاحتجاج على مرور القانون في الاتجاه المعاكس لمصالحهم. بمعنى أو باخر، فان الامور، بالنسبة اليهم، بخير وعلى خير طالما أن سيف القانون بعيد عن أعنقاهم التي تشرئب من حين لأخر في بحث حثيث عن أضواء “تسياسيت” لعلها توفر الغطاء لهروب امن.

و نتيجة لهذا “الحريك” السياسي انطفأت جذوة الابداع الثقافي والفني في مدينة تملك ما يكفيها من الطاقات والمواهب لدفع عجلة التنمية في مختلف المجالات، وصارت البيانات، عوضا عن ذلك، أقرب عنوان للجوء، و شهادة عجز عن اتخاد زمام المبادرة.

لهذا وجب الوقوف بصرامة أمام هذا الانحراف الخطير، و توجيه رسالة تقريع لكل الاطراف كي تستجيب لنداء الضمير و تتوقف عن ممارسة هذه اللعبة السمجة، لأنها وبصراحة لم تعد تصلح على أرضية ملعب يستدعي الاحتراف اكثر من أي وقت مضى، وأن ما مضى من زمن الفرص الضائعة قد أثقل كاهل المدينة بضريبة بلا قيمة مضافة.

ومن أجل هذا الهدف المشروع يجب على جميع الاحزاب السياسية، و بدون استثناء، أن تستحضر شيئا من التواضع من أجل القطع النهائي مع ماض يطفح بالعبث الى حد التآمر على مصلحة المواطن، إنه “الخيار الثوري” الذي ولابد أن يرى النور بعد مخاض التجارب الفاشلة التي لم تمتلك من برنامج سوى الحماس الزائد عن الحدود.

واذا كانت الاحزاب السياسية تسمح بالتوقيع الى جانب بعض “البراهش”، الذين يصعب عليهم التفريق بين الألف والباء دون أن تختفي معالم الخجل لديهم، و تقرر مقابل ذلك الاستقالة من موقع المسؤولية في التأطير اليومي الضروري لبناء مجتمع مدني حقيقي، مستعيدة بذلك مساحتها و حقها الطبيعي في ممارسة السياسة، فمن الطبيعي أن يستمر الرأي العام في مقاطعة مسلسل “المهاضرات” والمهاترات الذي يبدو أن اخر حلقاته استهوت “حراك” اخر ترك واجب الموعظة من منبر الدين، وفضل منح “شهادة” الزور في كل مرة يطل فيها من نافدة السياسة.

لذا فعلى كل طرف أن يدافع، وبشراسة، عن مياهه الاقليمية كي لا يحولها هؤلاء “الحراكة” الجدد الى مياه عكرة توفر المجال الملائم لاصطياد المزيد من فرص تخريب امال سيدي افني في رؤية مستقبل افضل.

وكم كان المفكر المغربي، عبد الله العروي، صادقا حين قال : “اذا طغت السياسة على الكل، جرت الكل الى الحضيض” وها نحن اليوم في الحضيض نبكي حال مدينة قيدتها السياسة حتى استحال معها انطلاق أي حراك ثقافي وفني يملأ فراغا تزداد هوته مع الايام اتساعا.

فهل ستتحرك المبادرات الحقيقية لتصحيح الواقع وتخليص سيدي افني من قيود الماضي الصدئة، أم أن جولة اخرى من سياسة “لا! هاد العام غادي يكون زوين” هي التي يُراد لها أن تغذي أمل الإفناويين الذين باتوا ينظرون لكل شيء بعين الريبة دون أن يغلقوا العين الاخرى على “المنزلة” لعلها تأتي بأمواج مناسبة لـ “الحريك”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *