آراء

مسلسل “العراف” .. قراءة نقدية تأويلية شارِحة

نادرا ما تُتحفنا السينما العربية بعمل سينمائي راق له أبعاد فكرية واجتماعية وسياسية، تمس في الصميم الواقع العربي، وتعالج قضايا المواطن ومشاكله، وتعري الواقع تعرية احترافية بأسلوب سينمائي نقدي من المستوى العالي.

كذلك فعل مسلسل (العـــرّاف) الذي انفردت به كالعادة السينما المصرية، واختارت لبطولته شخصية لا يماري أحد في كفاءتها المهنية وقدرتها العجيبة على إتقان الأدوار بل والتفنن في تمثيلها إلى حدود الدهشة والانبهار.

لم يكن اختيار عادل إمام لبطولة سلسلة العرّاف اختيارا اعتباطيا، ولكنه جاء تتويجا لأرشيف مليء وزاخر بالأعمال التي قدمها عادل إمام للسينما المصرية خاصة والعربية بشكل عام، ولعل أكثر ما رشح عادل إمام للعب دور البطولة في هذا المسلسل (العرّاف) تميزه بميوله التام نحو الطبقة الكادحة المسحوقة، وإحساسه القريب من المواطن البسيط، الغلبان، المقهور والمسحوق.

صحيح أن عادل إمام كممثل في الميزان المالي الفني قد حقق ثروة كبيرة ، ومستوى عيش يصنف على أنه عيش النخبة، أو إن صح القول عيش البرجوازية . فإن موهبة عادل إمام الفنية ظلت مرتبطة بالأدوار القريبة من المواطن العربي المحاط بأسوار القهر وأسلاك البطش وحبال العذاب، وهذا ملحوظ في كل أعمال عادل إمام السينمائية ، إذ هي في معظمها إن لم نقل كلها تقريبا، تصوَّر وتمثّل في أحياءٍ فقيرة وسط القاهرة أو في هوامش الإسكندرية أو حتى خارج المدن الصاخبة في الصعيد والجيزة والأقصر ..، كما أن الأدوار التي كان يكلف بتأديتها، لها طابعين لا ثالث لهما، فإما أن يكون عادل إمام ذلك المواطن المنحرف قانونيا المتزن فكريا المحبوب في محيطه المنبوذ من طرف المؤسسة الرسمية، الحامل لقضية عادلة ، المبتكر لوسائل غريبة لتحقيقها، المكسر لكل الأعراف السائدة، الكاره للتملق، أو نجده ذلك القيصر أو الملك أو الزعيم أو القدوة الذي يحكم وقف هواه الكاره للرسميات والبروتوكولات، الممثل لرأس النظام والكاره له في نفس الوقت، المحلل للأمور بنقيضها، الحكيم والفيلسوف والمجنون…

إن عفوية عادل إمام وسخريته الوقحة كما يحب البعض أن يسميها لا يمكن أن تصلح إلا لأدوار كهذه، ونحن هنا لسنا بصدد التعريف بشخصية معروفة وذائعة الصيت، بقدر ما يهمنا الوقوف على مجمل الأفكار والحيثيات التي جاء بها مسلسل العراف، كنوع أو كنتيجة طبيعية لهامش الحرية التي تتمتع به السينما المصرية أو القطاع السمعي البصري في مصر بشكل عام، باعتباره كيانا شبه مستقل تعتاش منه شركات كبيرة في الإنتاج والتسويق السينمائي والإعلامي، خلافا للحالة العامة للقطاع السمعي البصري سواء أكان إعلاما أو سينما في باقي الأقطار العربية، التي مازالت العقلية البدائية هي المرجع الأساس لهذا القطاع والمتمثلة في وزارة الداخلية.

يأتي عنوان مسلسل (الـعــــرّاف) بحمولة استفزازية وبتأويلات نقدية غزيرة الدلالة، عميقة المعنى وبعيدة التوقع، وسنحاول هنا أن نقوم بإدماج بسيط للأدب السردي المكتوب بالأدب السينمائي المصور للخروج بنقطة التقاء، علما أن السينما والأدب، ينبعان من مشكاة واحدة، ونقصد هنا بالأدب، الأدب المكتوب أي كل ما ينضوي تحت مفهوم البلاغة واللفظ والمعنى والدلالة والتأويل والجمالية و…

هذه المفاهيم حاضرة دائما في السينما، لأن السينما قبل أن تكون أدبا مصورا، فهي في الأصل كانت سيناريوهًا مكتوبا بلغة أدبية مشكولة ومصححة ومنقحة، تراعي البعد الدلالي المنسجم مع الصورة المراد تمثيلها

ــ تحيل لفظة العرّاف التي جاءت معرفة بـ “الـ” التي تفيد التعيين والتقييد مع التخصيص ، وتعني في المعجم الوسيط : المنجّم ، والطبيب ، والكاهن.

في حين وردت في معجم المصطلحات الفقهية بمعنى : المنجّم والطبيب .

وجاء معنى العرّاف في بقية المعاجم العربية العامة، على أنه الدجال، والكذاب المبالغ في الكذب والتمويه.

وكل هذه المعاني حاضرة في شخصية بطل مسلسل العرّاف، فهو النصّاب، الدجال، الكذاب، المحتال الطبيب، المنجم، والكاهن، والفقيه، .. وهو الشخص الحرباء المتلون.

ظهرت شخصية العرّاف منذ الحلقة الأولى بكاريزما خاصة تتمثل في الوثوق التام بالنفس، والتجول بكل حرية وجرأة في محيط واسع جدا، يمتد على رقعة مصر الكبيرة، حيث تدور أحداث المسلسل، وتتعداه إلى دول أوروبا كما ذكر في سياقات حوارية مختلفة خلال حلقات المسلسل ( إيطاليا ـ اليونان ) وسنأتي على ذكر البعد النقدي لهذه الدول الأوروبية ودلالتها العميقة في المسلسل.

استطاعت كما قلنا شخصية البطل أن تكسر المألوف وتتحدى الممنوع، وتكسر حاجز الخوف بطريقة فيها من الرعونة ما فيها ، رغم كونها شخصية لا تتوفر على هوية أو إثبات يسمح لها بتحقيق هذا القدر من الثقة والآمان.

تحتمل شخصية البطل عددا لا متناهيا من الألقاب والمسميات، بحسب المحيط الذي تحرّك فيه البطل وعدد الأماكن التي مارس فيها نشاطا من نشاطاته المشروعة وغير المشروعة، لكن المسلسل رصد لنا أربعة أسماء للبطل وهي : (أبو الحجاج المصري ـ عبد الحميد البكري ـ مصطفى شوقي زهران ـ صبحي أبو الفضل …) هذه الأسماء امتدت على طول حلقات المسلسل كونها تمثل القاسم المشترك بين البطل وأبنائه من جهة، وبين البطل والنظام من جهة ثانية والمتمثل في القضاء والقانون الذي يلاحقه بتهم كثيرة .

ــ شخص واحد بأسماء مستعارة كثيرة ، وبقضايا نصب واحتيال وخروقات جمى، شخص متشنج العلاقة مع كل ما له علاقة بالمؤسسة الرسمية (الدولة)، وبالخصوص مع وزارة الداخلية !!

شخص مجرم وخطير يجب سجنه في نظر القانون الصوري الذي لا تلتزم به حتى الدولة نفسها، والتي تطبقه على ضعاف المواطنين !!

رغم أن المسلسل حاول أن يظهر لنا وجها شريفا ومشرقا للنظام والمتمثل في اللواء المتقاعد المدعو سامح سيف الدين، الذي جسد طيلة حلقات المسلسل، صورة رجل الأمن المخلص والمتفاني والساعي بكل الوسائل لإحقاق القانون، واعتقال المجرم النصّاب، ويكرس هذه الفكرة بشكل جلي حبكة السيناريو التي اعتمدت شخصا متقاعدة من المنظومة الأمنية، لتكريس فكرة أن السعي وراء إحقاق الحق ورصد المجرمين ، هي مبدأ راسخ عند الشرفاء من رجال الأمن والقانون، ولا يفنيه تقاعد ولا ينسيه منصب.

ــ تتميز شخصية البطل النصّاب بكونها شخصية جذّابة ومثيرة للاهتمام، قريبة من القلوب ، صعب كرهها، فالبطل المحتال شخص محبوب لدى جميع البسطاء، ومقبول لدى جميع أطياف المجتمع (المصري نموذجا) ، ومؤثر في الجميع ، ومساعد للمحتاج، شخص كريم فاعل للخير، ومنفق بسخاء ، شخص يسرق مليونا وينفق منه ثمانمائة ألفٍ على المحتاجين والمحرومين والفقراء ، الشيء الذي ساعده في خلق تابعين ومقربين مخلصين يرون أن هذا الشخص يستحق الخدمة والتضحية، ولا يُسْلِمونه أبدا .

شخصية البطل كذلك ، تبرر أفعالها غير القانونية من نصب واحتيال وانتحال على أنها الطريقة المثلى للتعامل مع مافيا المال وكبار لصوص الدولة الذين يسرقون هم كذلك بطريقة راقية و(قانونية) .

جاء في إحدى حلقات المسلسل ما يمكن أن نسميه، الدوافع الواقعية لانحراف الشخصية البطلة، صحيح أن الباطل باطلٌ مهما كانت الأسباب وراء اقترافه ، إلا أن تحليل الظاهرة وتشريح المعطيات والوقوف على لب المشكل، يفيدنا من ناحيتين اثنتين.

الإفادة الأولــى: تمكننا من معرفة بنية المجتمع، معرفة علمية يصح معها الإسقاط ، أي إسقاط الواقع المعيش سواء كان مقبولا أو سيئا أو شديد الرداءة أو حتى ميؤوسا منه، باعتبار أن البنية الفوقية هي نتاج مباشر لحالة البنية التحتية، ونحن هنا نقصد بالبنية التحتية كلٌ من النمو الديمغرافي والاقتصادي ومدى مساهمتهما في التنمية البشرية . (الحالة العامة للمواطن).

الإفادة الثانية: تتمثل في كون هذا السلوك المنحرف أصبح محورا دائريا مقررا ومعمولا به، ومتعارفا عليه، يُبتدأ منه ويُنتهى إليه، ليُبتدأ منه مجددا، وهكذا دواليك …!

ــ حالة من الضياع والتيه ، وجد البطل نفسه فيها بمجرد أن وعى نفسه ومحيطه ، لم يعرف له أبا أو أما أو عائلة، كان مقطوعا من أي نسب، وكان منبوذا من الكل، إلا من أولئك الذين تشابه حالتهم حالته، كان حجم الفراغ الذي يعانيه كبيرا جدا، وكذا حجم الحرمان الذي ينتابه كبير أيضا، كلما رأى طفلا أو يافعا يمسك بيد والده أو أمًّا تربت على كتف ابنها ، هذه الحالة المشحونة والكثيفة والصعبة ، جعلت من البطل يسعى لأي شيء يقرّب ود الناس إليه ، ومستعدا لفعل أي شيء يجعل الناس يعيرونه ولو قليل اهتمام.

من هنا بدأت قصة البطل مع انتحال الصفات وتزوير الشهادات وأوراق الثبوت.

ــ يصور لنا المسلسل في مجمل حلقاته نجاح البطل في عمليات النصب والاحتيال، نجاحا يفسر على أنه الطريقة الوحيدة والمثلى التي يمكن من خلالها إثبات الذات وتحقيق قدر كبير من التوازن المادي والعاطفي والاستقرار الأسري، هذا التفسير مرده إلى أن العالم العربي مازال يعيش حالة من الانبهار بالمظاهر ، مجتمع أدمن الكذب ولا يستطيع أن يعيش أو يتعايش إلا في بوثقة كبير من الكذب، وأن الصدق والصراحة والمواجهة في عالمنا المتأخر، ما زالت تُفسَّر على أنها نوع من الضعف واللوم وطلب الاستعطاف والرحمة، كما أن السلسلة تشير لنا إشارة مباشرة حول عقلية الفقير والمحتاج في عالمنا العربي، وهي عقلية التقدير والإعجاب باللص الثري والتقرب منه وخدمته طالما يعطي بكرم والسخاء،.

لقد لامس المسلسل هذه القضية ملامسة وافية، وكانت الفكرة جلية وواضحة في إبراز هذه النقطة، ولا يماري أحد في صدقيتها، فنحن بحق مجتمع منافق تغريه المظاهر، مجتمع يتملّق لكسب ود المنافقين.

ـ الطبيب والسفير ومدير الأمن والمحامي والأستاذ و… ، وكل الوظائف الرسمية الأخرى وغير الرسمية تقريبا يمكن لمزاوليها إذا لم يكن لهم وازع إيماني، وضمير مهني أن يجعلوها مطية لهم وسترة وحجابا للنصب على الناس وابتزاز البسطاء وخداع السذّج .

إن مزاولة هذه الوظائف من طرف البطل، لم تكن بفضل كفاءته العلمية ، وإنما تسلل إليها عن طريق الجاه والمال الذي جمعه من مهنة النصب، النصب بتزوير الوثائق وكذا بالمظهر الذي كان مغرٍ بشكل كبير، مع كثير من الأبهة والبذخ التي أوقعت كثيرا من الطماعين في شرك النصب، ومن خلال هذه التيمات الدالة نستشف التالي:

بخلاف الدول المتقدمة المثقفة و الواعية التي تحترم نفسها والتي تعتبر مهنة سفير أو مدير أمن أو محامي أو ….. هي التزام وميثاق غليظ يخول لصاحب المنصب أداء واجب مقابل أجر متفق عليها سلفا ، وتبقى يد العدالة طويلة وممتدة إلى كل من سولت له نفسه تعدي الحدود، واستغلال النفوذ.

بينما نجد في الدول المتخلفة أو ما يسمى بالدول السائرة في طريق الهلاك، أن السلم الوظيفي كلما علا إلا وأصبح صاحبه محميا بالقانون من القانون نفسه، وأنه ممكن أن ينصب على الناس كيف شاء دون أن تطاله يد العدالة.

ما زالت هذه النزعة التملّكية والسلطوية الثأرية، هي المقياس المهيمن والعقلية السائدة في عالمنا العربي وللأسف الكبير، حيث يعتبر الوصول إلى رتبة أو مكانة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية في عالمنا الثالث، بمثابة شهادة براءة وإعفاء من المساطر القانونية ، وأن أي تصرف مشين بعدها مقبول ومسموح، بل ويعبر حقا مشروعا .

الشعب العربي، أو لنقل المجتمع العربي، مجتمع كذّاب، ويحب من يكذب عليه.

هذه باختصار شديد بعض دلالات الوظائف والمناصب التي عرضها المسلسل بحس سينمائيّ نقدي راقٍ جداً .

ــ تصور لنا سلسلة ( العـــّراف ) أبناء البطل على أنهم نسيج مختلف تماما ، لقد استطاع كاتب السيناريو أن يبدع إلى درجة كبيرة في ابتكار هذه الحالة الفريدة ، أب له أربعة أبناء أشقّاء وأخت ، لهم انتماءات ومرجعيات ليست فقط مختلفة وإنما متناقضة تماما، وهي انعكاس صريح لحالة المجتمع العربي عموما والمصري بشكل خاص باعتباره العينة النموذج.

هذه الأفكار والمرجعيات تحيل في مدلولها العميق على الأيديولوجية والمعتقدات والأفكار النمطية السائدة في مجتمعنا العربي، فالابن البار الملتحي الحاج عبد الله أبو الحجاج المصري، يجسد طابع التدين الإسلامي، والالتزام شكلا ، وتصورا وتصرفا كذلك، والمفارقة العجيبة والغريبة تكمن في التقرب المهادنة التي أحدثها المسلسل بين شخصية عادل إمام العدو اللدود للتيار السلفي في مصر والمعادي والساخر من كل ما له علاقة بالفكر الإخوان أو السلفي، وهذا معروف ومشهور عن عادل إمام، بل وجسده في كثير من أعماله السينمائية ، وإن كانت علاقته ساخرة كذلك من الإسلاميين في هذا المسلسل (العــرّاف) إلا أنها اتسمت كذلك بالحب والود والتعاطف الكبير، خاصة وأن علاقة البطل هذه المرة بالإسلاميين طغت بشكل كبيرة ، بدأ بابنه الملزم، وصولا إلى علاقته بالمعتقلين الإسلاميين في السجن، وتأثره بهم والتزامه بالتردد على مسجد السجن انتهاء بتقمصه لهيئة الملتزم (اللحية والقميص)، وإن كانت هي الأخرى مجرد طريقة من طرق البطل الكثيرة في النصب والاحتيال، إلا أن مدلولها العميق يوحي بنوع من المهادنة وتقبل الآخر…

هذه الحالة تبدو أنها نتاج طبيعي للحالة التي آلت إليها مصر بعد الثورة، والمتمثلة في وصول المعارضة الإسلامية إلى السلطة ، وكذا الحالة المحتقنة نوعا ما في مصر، والتي تتسم بهامش كبير من الحرية التي استحالة إلى ما يشبه الفوضى، فقد قرر كاتب السيناريو وكذا المخرج أن يقيم اعتبارا للغالبية الإسلامية في هذه الظرفية الحساسة.

الابن، السيد العربي الكعكي، صورة طبق الأصل للأب البطل (النصاب)، تحيل هذه الشخصية على النمطية المسلم بها، وهي : إذا كان رب البيت للدف ضارب **فشيمة أهل البيت كلهم الرقصُ.

محمد مصطفى زهران، يحيل على الواقع المفارق والمتناقض لحالة المجتمع العربي، والمتمثلة في مستوى العيش الموازي، ونقصد به الخط العلوي، أو المستوى البرجوازي المترف المسرف والمبدّر ، هذه الطبقة تعيش في انعزال كامل وقطيعة شاملة مع الخط الموازي الآخر، وتتركز في نطاقات معزولة وبعيدة تماما عن العينة الثانية، وتسمى هذه النطاقات بفضاءات الفخامة.

الخط الموازي الثاني: وهو ما يسمى بالخط السفلي، وهي الطبقة المسحوقة، والتي ينضوي تحتها الفقراء والمعوزين ومتوسطي الدخل و…، ولا يوجد بين هذين الخطين مستوى وسطا ، وإن كان، فهو لا يمثل طبقة بمفهومها العلمي، أي طبقة متوسطة تعادل أو تقارب الطبقتين ، وإنا تُصنف على أنها حالة شاذة يمثلها عدد كبير من الأشخاص (يتم تحديد التعداد بمعايير ديمغرافية إحصائية، وبنسب مئوية) لكن لا ترقى إلى مستوى الطبقة ، نتجت لأسباب أو لأخرى.

الابن حسام، شخصية صلبة ظاهريا، تتسم بالصرامة المعهودة في رجال الأمن والجيش، شخص يخاف على سمعته، ويبدل المستحيل لطمس كل ما له علاقة بوالده (البطل) بسبب ماضيه السيئ، ومحكومياته العديدة وفراره من العدالة.

في المقابل تبرز لنا شخصية حسام، حب الابن الفطري لأبيه، وتعلقه به.

في الصورة الشمولية للموضوع يُحيل الابن حسام على المواطن العربي (المصري) بغض النظر عن انتمائه أو رتبته أو منصبه أو ..، وحبه الدفين والكامن والثاوي لبلده (مصر). ويحيل الأب (البطل) على البلد (مصر) رغم كل ما فيها من متناقضات وعيوب ومشاكل وظلم وفساد و…، إلا أن الأب لا يمكن في الأخير إلا أن يكون أبا، وإن كان اللقب المشهور على مصر هو لقب الأم، (مصر أم الدنيا) .

البنت قمر، تيمتها الدالة واضحة جدا في المسلسل، وهي رمز الضعف والحنان والأحلام، تمثل قمــر تلك الإنسانة المغلوبة على أمرها، الإنسانة التي لا تملك قرارها ، الجناح الأضعف المدعوم دائما من أبيها، قد نقول إن هذه الصورة تحيل على واقع المرأة العربية، إلا أن المسلسل عرض أيضا نموذجا مقابل لشخصية قمــر، وهي الصحفية حنان، التي ظهرت خلال المسلسل كله بشخصية قوية جدا وصارمة، ومستعدة للمواصلة والصمود والتحدي إلى أبعد الحدود.

ــ لم يأتي المسلسل على ذكر دول أوروبية بعينها إلا في سياقات خاصة نذكر منها:

لـــــنـــــدن: كانت وجهة أحد كبار رجال الأعمال، بعد أن كشفت ملفات فساده ونصبه على الدولة والمواطن على حد سواء .

الــيـــونـــــان: الدولة التي اشترى أو شيد فيها بطل المسلسل قصرا منيفا بالثروة التي جمعها خلال حياتها بالنهب والسلب والنصب حينا، وبالعمل الشريف بهويات مزورة أحيانا أخرى، هذا القصر الذي أراد أن يكون عش العائلة ومجمع شملها.

وكذلك اليونان هي الدولة التي اقترحها الأب (بطل المسلسل) كوجهة يقضي فيها ابنه حسام شهر العسل ، وبالضبط في القصر الذي بناه أو اشتراه هناك في اليونان، وهنا تبرز مرة أخرى مسألة الفردوس والنعيم المفقود، الموجودا دائما وأبدا خلف البحر، الراحة والرفاهية التي لا ينشدها المواطن العربي إلا خارج بيئته ، وبعيدا عن بلده.

تحيل اليونان على وضعها الأسطوري ، باعتبارها مهد الفلسفة ومبدأ الحضارة وعالم المُثل والمدينة الفاضلة كما نظـّر إلى ذلك فيلسوفها الكبير آريسطو، وبالتالي تم اعتمادها في المسلسل كبرِّ أمان ٍ واستقرار، إنها الفردوس المنشود ونهاية لكل تلك الألآم والمعاناة التي يعيشها البطل (نموذجا).

إيطـــاليـــــا : ذكرت في المسلسل على أنها الدولة التي سجن فيها البطل، وقد اعترف أنه تعرض فيها للتعذيب ، لكن اعترافه كان ساخرا جدا، وكأنه يقول أنه تلقى في سجون إيطاليا معاملة حسنة، الشيء الذي لم يجده في سجون بلده الذي ولد فيه وعجن بترابه وتربى فيه وترعرع.

المفارقة القاسية والفكرة التي تمرّرها اللقطة هنا ، هي أن في بلد كمصر وهي نموذج فقط لكل الدول العربية تقريبا، أن الإنسان البسيط الفقير المعدم يجتاز كل أطوار حياته بين الفقر والحرمان وقسوة الواقع، إلى السجن والحبس وقسوة السجّان وسوط التعذيب والسحل و… !!!

ــ تركز صورة المخرج على باب السجن وعلى لافتته المكتوب عليها (سجن ليمان)، واسمه سجن ليمان أبو زعبل، يقع في منطقة سجون أبي زعبل، وهو من السجون المغلقة حيث تمنع فيه الزيارات، ومعظم نزلائه من المنتمين للجماعات الإسلامية المتشددة، يعتبر سجنا سياسيا، وهو الثاني من حيث التصنيف، بعد سجن طرّة.

يعتبر السجن في المسلسل نسخة مصغّرة عن السجن الكبير الذي هو الوطن الوطن العربي (مصر) نموذجا، وأغلب نزلاء السجون العربية هم، أصحاب الآراء والأفكار المخالفة للنظام.

وفي المقابل نجد أن الدول التي تحترم الإنسان، تخطت ثقافة بناء السجون بأشواط كثيرة، وأصبحت تبني المدارس بدل المعتقلات، والجسور بدل الأسوار. وهنا نستحضر القولة الشهيرة للأديب الفرنسي الكبير (فيكتور هوغو) الذي قال: مقابل كل مدرسة تبنى في مكان ما ، يُغلق سجن في مكان ما.

ــ إن أبرز فكرة تضمنها المسلسل في قضية ترشح البطل لرئاسة الجمهورية ، مختزلة في الحوار القصير الذي دار بين البطل (عبد الحميد البكري) ومسؤول كبير في الدولة، هذا الحوار دار حول الحلول الممكنة لتنازل البطل عن خوض غمار الانتخابات الرئاسية، وتمثلت الفكرة الأساس فيما قاله المسؤول النافذ، في كون رئيس البلاد جاهز لاستلام القصر الجمهوري، وأن الفائز معروف سلفا حتى قبل إجراء الانتخابات.

هذا التلميح الصريح، يحيلنا مباشرة إلى الواقع السياسي والديمقراطي المتردي الذي يعيشه الوطن العربي، واقع تُملأ فيه الصناديق قبل الاقتراع، وتمنح فيه مفاتيح المكاتب قبل الانتقاء، ويسود فيه السفيه الغر الغمر على الكفء والمستحق .

ـ أروع ما في المسلسل هي لقطة النهاية، (سرقة البنك المركزي، وامتهان النصب والاحتيال من جديد).

نستنتج مباشرة من هذه اللقطة، أن العالم العربي (المصري) نموذجا بعيد التعافي من مرض الكذب، وإدمان تصديق الكذب، بعيد التعافي من النفاق وإدمان تصديق المنافقين، بعيد التعافي من الانبهار بالمظاهر والشكل وإدمان تصديق المغريات والانبهار بها ، بعيدُ التعافي طالما مازال يصدق أن كأس ليمون بالنعناع يحقق الثراء الفاحش، بعيدُ التعافي من ……!!!

أمام العالم العربي أشواط طويلة، وعمل جبار ، إن هو أراد الالتحاق بالركب، والخروج من مستنقع التخلف، وأول خطوة، تكمن في التعلم الذاتي والتربية الأسرية، التربية على الحقيقة، قولا وفعلا وممارسة . وإلى أن نضع الخطوة الأولى على درب تربية الإنسان، تمهيدا لاستثماره في التنمية الحقيقية. تقبلوا مني أسمى عبارات الود والتقدير والاحترام،

ودمتـم سالمين.

* الحسين بشوظ: كاتب وصحفي علمي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *