آراء

هزيمة الزمن العربي ضرورة أم مصادفة؟

هناك نقطة تتعلق بوعي وإدراك الجماهير العربية لهزيمة الزمن العربي أمام الضغط المتواصل والجبروت الصهيوني (الصهيوني المتشعب بكل معنى الكلمة) أي بين أن نعَي الهزيمة وعياً سطحياً فننظر إليها على أنها حدث عسكري وأخطاء سياسية، أو أن نعيها وعياً شمولياً فننظر إليها بوصفها هزيمة زمن عربي بكامله، أو هزيمة مجتمع سياسي بكل قواعده ومرتكزاته. وأخطر من الهزيمة العربية أن يتواصل هذا الزمن إلى مرحلة ما بعد ما يُسمى السلام، وهذا ما تساعد عليه بكل أسف العوامل التالية:

أولاً: إنّ شريحة كبيرة من المجتمع العربي ما زالت مستلبة وإرادتها مصادرة بالمفاهيم ذاتها التي كانت وراء إنتاج الهزيمة، وهذه الشريحة لا يرتبط جمودها أو تطورها ببقاء السلطات والأنظمة السياسية أو زوالها. فلهذه الشريحة وجود تاريخي تعود بداية تشكله إلى مراحل تاريخية قديمة لا يمكن تحديدها زمنياً، ولا يمكن أن نقول أن مؤشراته بدأت تظهر مع بداية تراجع الحضارة العربية – الاسلامية، ومع ضمور حركة الإبداع والنمو والتطور في هذه الحضارة. ومن سمات هذه الشريحة الجمود وإنكارها لضرورات النقد والتنوع والصيرورة، وحق الاختلاف، ونكرانها مرجعية العقل، لذلك فإن وعي هذه الشريحة قاصر عن ربط الهزيمة إلاّ بأسبابها المباشرة، وبالتالي فهو وعي لا يجرؤ على نقد ذاته وتجديدها. ولا يؤمن أساساً بالعلاقة بين نظام الوعي العام وبين ما يُصيبه من هزائم أو انتصارات. ويصعب على هذه الشريحة أن تنظر إلى السلام المنشود بوصفه مؤشراً لسقوط زمن عربي بكامله، وليس لخسارة حرب أو حروب مع إسرائيل، أو لخسارة فرصة إنتصار أو صمود في المفاوضات. في كامب ديفيد كان يمكن تلافيها من خلال بعض التعديلات التكتيكية أو الاستراتيجية في إستعدادتنا وفي خططنا أو تحالفاتنا.

ثانياً: ومن العوامل التي تساعد هذا الزمن العربي المهزوم على الاستمرار في مرحلة ما بعد السلام عامل إستمرار بقاء مؤسسات السلطة (في البلدان العربية) واستمرار إمكاناتها غير المحدودة في ضخ روح الإنهزامية التي تعيد إنتاج زمن الهزيمة بوصفه الزمن الملائم لبقاء هذه السلطات والأنظمة. وهذا القصور في الوعي يدعمه نظام لأداء السلطة يُلامسه وينبثق عنه نظام إعادة البرمجة السياسية. فمسألة حل القضية الفلسطينية نظرية لا هدف لها سوى إمتصاص الغضب والنقمة وهذا مظهر من مظاهر الإنهزام. ومن آليات عمل هذا الإنهزام الذي تضخه السلطة (السلطات العربية) بحكمة ودراية وتوظفه في إعادة إنتاج زمن الهزيمة وتكريسه في مرحلة ما بعد التسوية. فالتسوية هنا وفق هذا المنظور ليست مؤشراً لنهاية زمن يجب أن يُخلي مكانه لزمن جديد وإنما هي مجرد ضرورة عابرة في زمن مقيد.

ثالثاً: ومن العوامل المؤثرة تأثيراً فاعلاً في إمتداد زمن التسوية (الانبطاح الكامل للنظام العربي الرسمي) وما قبله إلى ما بعده النظم والشركات الغربية وفي مقدمتها النظام الاميركي ومصالحه القديمة والمتجددة في الوطن العربي. فعلى الرغم من شعارات الديمقراطية والتنمية وحقوق الانسان التي يطرحها الغرب والغرب الأميركي بوصفها معايير معتمدة لدى الغرب في تقييم الأنظمة والحكومات في العالم ومنه عالمنا العربي. إلاّ أن السياسة الفعلية الأميركية خصوصاً هي سياسة إعتماد للأنظمة ودعمها وهذا أمر معلوم وواضح كل الوضوح فالغرب واميركا ونظام المصالح والشركات التابعة لهما كلها تدرك أن هذه الأنظمة هي أفضل من يحمي هذه المصالح وإن فرض تمردها على السياسة الاميركية أقل بكثير من الفرص المحتملة لتمرد الأنظمة الديمقراطية المنتخبة من شعوبها. وهذا إستنتاج صحيح وبديهي فالثروات العربية في ظل أنظمة ديمقراطية معنية بالتنمية وحقوق الانسان لن يبقى منها شيء يصبّ في خزائن أميركا والدول الطامحة، والسلام من هذا المنظور في جزء أساسي من إستراتيجتها المتبناة أميركياً يُراد له أن يُتيح لإسرائيل أن تكسب حصتها من ثروات الوطن العربي بالوسائل المباشرة. وهذا ما يُضاعف حجم الإفتراضات الأميركية المالية فقط تجاه إسرائيل دون أن يؤثر على حجم المصالح الأميركية في المنطقة.

إذاً، هذه ثلاثة عوامل رئيسية تواجه المجتمع العربي للدخول إلى زمن ما بعد مرحلة التسوية. وهي التي تجعل من التسوية زمناً يُحاصر الأمل المنشود للخروج منها. والملاحظ هنا في سرد هذه العوامل أنه أخذ بالتركيز وبشكل متعمد على عنصر الوعي العربي بوصفه المجال الحيوي المستهدف بما يعني التبني الأكيد لمعركة شرسة على جبهة الوعي بوصفها المعركة الحاسمة أو شبه الحاسمة في مواجهة زمن التسوية المشؤومة عربياً وإعاقته من دون الدخول في عصر عربي جديد. ولكن بالطبع لن يكون بالإمكان تناول أي دراسة تغرق في تحليل مكونات الوعي العربي الراهن الذي يُتهم بإنتاج هذه التسوية وصنع الهزائم التي سبقتها (الساحات العربية الآن أكبر دليل) فتلك مهمة لا بد من الإطّلاع عليها فالأولوية هي للصراع على جبهة الصراع على امتداد الأمة، وعلى جبهة العقل العربي، فالذين ينادون بالسلام على الجانب الفلسطيني وعلى رأسهم الرئيس محمود عباس يطالبون به مشروطاً بعدالته وتحقيق مصالح في الاستقلال وعودة اللاجئين وإزالة الاستيطان والسيادة على القدس. والشعب الفلسطيني يقف مع قيادته في الصف المعارض لعملية التسوية ضمن الشروط والمصالح الأميركية الصهيونية. ورغم التعارض بين المروّجين والمعارضين لعملية التسوية للصراع العربي الصهيوني فإن السجال لم يستطع أن يُثير جدلاً سياسياً وفكرياً عميقاً وديمقراطياً في البنية السياسية العربية ولم يتجاوز سطح هذه البنية أي بما يُشبه الدوائر التي يُحدثها الحجر عندما نطلقه في بحيرة الماء دون أن يخضّ أعماقها البعيدة.

وهنا نطرح أسس المقاربة والهدف المنشود هو إطلاق تجليات من الوعي المختلف عن الوعي السائد في مُقاربة هذه العناوين من الواقع.

أ‌- التسوية بذاتها: هناك من ينظر إلى هذه التسوية بذاتها على أنها حل ضروري للصراع العربي الصهيوني ويذهب بعيداً في رؤية رايات التسوية الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية كما هو الآن في جميع الدول العربية (دول ما يُسمى بالجامعة العربية) وهي ترفرف في سماء المنطقة ويراهن على المستقبل المباشر للتعاون والتكامل بين العرب والصهاينة. وفي الاتجاه الآخر هناك من يرى هذه التسوية على أنها جريمة ترتكب بحق الأمة وتاريخها ومستقبل أجيالها لأنها تغلق وإلى أمد غير منظور أبواب الصراع مع الاحتلال العنصري في الوقت الذي تملك فيه الأمة العربية كل المقومات التي تمكنها من متابعة هذا الصراع لصالحها ويكاد هذا الاتجاه يحصر فرص الصرع مع الكيان الصهيوني بالوسائل العسكرية وحدها سواء كان ذلك بوسيلة المقاومة المشتتة بعيدة عن المركزية أو وسيلة الحرب النظامية وهناك شواهد على خمس حروب نظامية مع الكيان الصهيوني لم تأتِ إلاّ بمزيد من الهزائم للقضية الفلسطينية.

بالمقابل لا بد من التأكيد أن التسوية على هذا الموّال هي محصلة منطقية للهزائم العربية على امتداد العشرات من السنين وهي أيضاً محصلة لإخفاقات الفكر السياسي للمجتمع العربي وأقرب دليل على ذلك الاتفاق غير المسمّى لعقد القمم العربية دون نتائج جادة على مستوى القضية الفلسطينية وتهويد القدس والأقصى أو على مستوى التحديات مع مواقف خجولة تجاه القضايا المصيرية. ومن المفارقات الغريبة أن الأسئلة التي هي في الأساس التحديات الأهم كان يتم إرجاؤها غالباً. بل دائماً بحجة الموجبات التي تفرضها المعركة مع الكيان الصهيوني أي أن الإداء العربي العربي الرسمي ومعه شريحة كبيرة من الشارع السياسي النخبوي كان يفصل بين وجهين لا ينفصلان لمعركة الأمة العربية وكأن الأنظمة السياسية تستفيد من هذا الفصل وتتخذه ذريعة لبرمجة الوضع الداخلي سياسياً واجتماعياً على نحو سلبي أي لتعطيل كل الجوانب الحيوية في المجتمع العربي التي يستحيل التعويض عنها لا بالجيوش ولا بالتحالفات الدولية لأن تعطيل هذه الجوانب هو نفي للأمة وعزل لها وانسحاب قسري لها من ميدان المعركة مما يجعل هزائمها ضرورة مجانية ومقررة سلفاً لذلك فإن التسوية الراهنة التي تنهي الصراع بيننا وبين الكيان الغاصب قادت الصراع القاتل والمميت داخل الأقطار العربية بلا استثناء مستقبلاً لا تقل خطورة عن تلك التي طرحت خلال الصراع ولم تستطع الأنظمة الإجابة عليها أن التسوية يمكن أن تكون حقيقية لا جداراً أصم عندما ننظر إليها من الزاوية الأساسية لمسألة الصراع العربي الصهيوني ألا وهي الحل العادل والشامل للقضية الفلسطينية بمفهومها التاريخي وبوصفها سلاماً أبدياً.

ب-التطبيع: والمقصود هنا شعار مقاومة التطبيع كما طرحته بعض النخب السياسية والثقافية العربية بصورة خاصة فقد جاء هذا الشعار بمثابة براءة ذمة لكثير من هذه النخب التي أرادت أن تتفادى مغبة الاعتراض والصدام مع السلطات الحاكمة التي أبرمت اتفاقيات سلام مع الاحتلال.

لذلك فإن معركة الثقافة والمثقف العربي ليس مجالها التهم والتهم المضادة بين المثقفين. إن معركة المثقف في مقاومة التطبيع هي جزء من معركته ضد الذين همشوا دور المثقف وما زالوا وما أكثرهم متوغلين في تهميشه أكثر عندما يحددون له مجال عمله ضمن دائرة مقاومة التطبيع الثقافي ويمنعونه من الخوض في إدانة هذا التطبيع السياسي والاقتصادي ما لم يتم التوصل إلى اتفاق للحل الشامل بالمفهوم التاريخي.

ج-التسوية والعولمة: إذا كان ثمة محاذير من قيام عصر العولمة ونحن ما زلنا نرى مشاهد منه في مختلف أنحاء العالم فإن بعض هذه المحاذير يتجه نحو الخصوصيات. خصوصيات الشعوب والأمم. والحذر هو من إجتياح هذه الشعوب والأمم لصالح العولمة. وبالعولمة نفسها وهي عصر ما بعد التسوية عربياً (تفتيت الوطن العربي إلى إمارات ودويلات فارغة) على وزن كل واردها فإن الدفاع عن خصوصيات الهوية والخصوصيات الضرورية لنمو عربي سياسي واجتماعي وثقافي وهو أمر بديهي بل هو جزء لا يتجزأ من حركة النهوض للمجتمع العربي وتحوله.

العصر العربي الجديد وشروط العولمة وتحدياتها التي تحتاج العالم لا بد أن تترافق مع إعادة الاعتبار إلى مرجعية العقل والعقل العربي تحديداًُ إزاء مرجعية النظرية. وهذا الشرط ينسجم مع توجهات العولمة ولا يصطدم معه وهو يُحقق للمجتمع العربي القاعدة الأصلب لمواجهة تحديات العولمة الأخرى وفي مقدمتها إلغاء خصوصيات الشعوب دون أن ننسى أن مرجعية العقل أن نفكر عربياً هي شرط التواصل الحيوي والمبدع مع العقيدة بعد أن حلت النظريات محل العقائد الكبرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *