آراء

هجوم الحقيقة

“يجب على الحقيقة أن تنتقل الى الهجوم حين تبدو ضعيفة لدرجة العجز عن الدفاع”.

برتولت بريشت

مستلقين، في يأس، على هامش الشارع السياسي، يجد بعض”الشماكرية” الجدد ما يكفيهم من الوقت ويزيد لحشر أنوفهم داخل “ميكة” الفيسبوك المخدرة أملا في “الرفيع”، والابتعاد قدر الامكان عن الواقع الذي لن يرتفع أبدا.

ويبدو أنهم، وفي غمرة انتشائهم داخل فضاء افتراضي بتعليقات أسمائهم المستعارة طبعا، يعتقدون أن بإمكانهم لي عنق الحقيقة ببعض الصور في محاولة لتجميل الوجه البشع لتدبير الشأن المحلي، وخداع الرأي العام الذي استفاق مصدوما على صورة نقلت مشهدا اخر من مشاهد <<تعباديت>> التي تعشش داخل مؤسسة المجلس البلدي، بل وانتقلت عدواها لتصل، على مرأى من الناس، إلى مستوى لم يعرف له التاريخ المحلي من مثيل.

أعترف اليوم أمامكم أنني لم أجد الكلمات المناسبة لوصف ذلك المشهد الذي يجسد فيه موظف ببلدية سيدي افني دورا موغلا في العبودية، حيث يمسك في خجل باد، بمطرية يقي بها رئيسه من قطرات مطر تكون قد تسربت من “الخزانة” التي نصبت بمناسبة تعيين العامل الجديد.

فحين يرى العالم كله الملك وهو يمشي في تواضع في الوحل، وتحت الامطار الهاطلة، دون حاجة الى “مظلة”، ويسحب في كل مرة يده، في تواضع، حتى لا يتم تقبيلها في ثورة على إرث تقليدي طال زمانه، فالكلمات وحدها تعجز عن نقل مشاعر الحنق على السلوك المتخلف الذي وضع رئيس المجلس البلدي في خانة الاستبداد و”الحكرة” التي زعم، خلال مرحلة افلت، أنه يناضل ضدها الى جانب ثلة من الاولين الذين تحول بعضهم، نتيجة لمفعول “جوان” الكرسي، الى “طبالة” فاقدين لبوصلة الموضوعية، فتراهم يتحدثون و كأنهم سكارى وماهم بسكارى ولكنهم كانوا قوما جاهلين.

ومثل هؤلاء، وهم ، ولحسن حظنا جميعا، قلة غائبة عن الوعي، ينطبق عليهم مقولة الشاعر الالماني الشهير، بريشت ” “من يجهل الحقيقة فهو مجرد غبي، أما من يسمي الحقيقة كذبة فهو مجرم”.

وبالفعل فهم يجرمون في حق هذه المدينة بتغطيتهم، عن سبق اصرار وترصد، على الفساد المتفشي داخل بلديتها؟

ولهذا يحدث أن ينسى الرئيس ومن معه نفسه الامارة بالسوء و يبدأ في اجترار الاسطوانة المشروخة أمام حائط المبكى، بعد أن رفضه ولفظه الشارع كنتيجة طبيعة لانقلابه على شرعية المؤسسة التي يتحمل بداخلها مسؤولية أمام القانون، ومع ذلك لا يجد أدنى حرج في إلقاء اللوم على الاخرين، وتعليق خروقاته على مشجب السلطة التي تعتبر بموجب الميثاق الجماعي عنصرا رئيسيا في معادلة تدبير الشأن المحلي، أحب من أحب ومن كره منهم جميعا فما عليه إلا أن يغادر مضمار الانتخابات بالمرة ويعتذر قبل أن يُحاسب بعد حين.

واذا كان “التشمكير” السياسي هو ظاهرة جديدة و خطوة متقدمة على طريق الهروب من الواقع، و توسيع مساحة “سيدي الهضري” في العالم الافتراضي، إلا أنه، و في كل الاحوال، لن يعفي هؤلاء “الشماكرية” من ملاحقة سيف المحاسبة التي تطل بعُنقها بعد أن أفل نجم الشعبوية التي لم تحقق وعودا ولا أتت بتنمية.

ولعل مشكلتي الحقيقية مع هؤلاء “لشماكرية” ليست في امتعاضي من إدمانهم المرضي على الكذب واستمتاعهم بالضحك على الذقون فقط ، بل حتى في اصرارهم على التطاول على كل من خالفهم الرأي أو اختار طريقا يختلف عن مسارهم التخريبي لتجربة عُلق عليها الأمل في تخليص المدينة من قبضة المفسدين الذين باتوا فرحين يتدافعون بالمناكب من أجل استعادة موقع التسيير.

فالشعار الذي رن طويلا في اذان الناخبين ودفعهم الى توسيع قاعدة المشاركة الانتخابية وإغراق الصناديق بالأصوات المؤيدة، كُتب له أن يصطدم، ومنذ اللحظات الاولى، مع واقع شهد على تزكية من يسمونهم اليوم بالمفسدين.

ولان الرأي العام ليس ساذجا بالمرة، فجوابه كان صادما، إذ رفض السير وراء هذه الدعوات، و جمد الثقة في “اركانة” ليضعها في مكان اخر، وحتى إشعار اخر.

فمالذي يعنيه إذن أن يخرج الرئيس، بمناسبة أو بدونها، عن النص، ويتحدث عن مواجهته للخونة والمفسدين، فهل يظن أننا جئنا من كوكب اخر، أم أننا لسنا من سيدي افني حيث يعرف الجميع من تكفل بـ “البون د كوموند” للسيارة التي يقودها ، ومن تكفل بأشغال البلدية، ومن ترشح باسم اركانة في انتخابات الغرفة التجارية، ومن كان يجلس الى جانبه حول مائدة “السبنيول”، ومن لايزال يُمني النفس بعودة اصحاب “الرزة” الى دفة التسيير؟

يمكن للرئيس أن يبحث كما يشاء عن أوصاف لمعارضيه، ويعلقها على حائط مبكاه، لكنه لن يفلح أبدا في دفع تهمة الفساد والخيانة عن نفسه، ويلصقها على ظهرنا. أبدا!

فلسنا نحن من دعم المفسدين وعزز قوتهم في هذه المدينة، ولا نحن من تخلى عنه ولا عن غيره من أبطال “الكرطون” الذين ما أن خرجوا من السجن، ووقفوا مزهوين بالنصر، حتى تذكروا وذكروا أسماء من شاءوا من على المنبر، بمن فيهم “الهرابا”، ليوجهوا اليهم الشكر و التحية، إلا اسما واحدا لم يجد له مكانا على ألسنتهم الجاحدة.

وما أن وضعوا مؤخراتهم على الكراسي الوثيرة حتى بدأوا يعدون العدة لرسم خارطة طريق مُعبد بالمؤامرة التي انكشفت وانتهت الى فشل ذريع.

فعن أي خيانة اذن يتحدث هذا الرئيس المخلوع الذي انفرط عقده؟!

اذا كان يرى بأن الخيانة هي الوقوف بشجاعة في وجه مؤامرته المكشوفة، وتدبيره اللامسؤول، فليسمح لي بأن أحييه أنا واشكره على هذه “التهمة” التي أضعها في خانة الانجازات المشرقة التي لن أتردد في الدفاع عن حدودها مهما طال زمن المعارك!

وكما لم نسكت حين اختار الجميع الصمت في زمن الرداءة، واستقبلنا الطعنات تلو الاخرى بابتسامة الواثق بالنصر، دون ان نلقي بسلاح الكلمة على ارض الخضوع والخنوع، فلساننا سيظل سيفا يقطع أيادي المتآمرين على هذه المدينة، مهما ارتفع شأنهم على سلم المكر والاحتيال، ووفيا للحقيقة التي يجب ان تنتقل الى الهجوم حين تبدو ضعيفة لدرجة عجزها عن الدفاع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *