متابعات

أمريكا اللاتينية تتشح بالسواد حزنا على رحيل الروائي غارسيا ماركيز

الخميس، أفل نجم لطالما سطع في سماء أدب أمريكا اللاتينية والعالم، عملاق اسمه غابرييل غارسيا ماركيز، لم يكف يوما وعلى امتداد ستين سنة عن الكتابة، عشقه السرمدي، فكان أن سحر العالم بأسره وهو يبدع واحدة من تحفه “مائة عام من العزلة”، التي خلدت إلى جانب روائع أخرى اسمه في سجل نوبل للآداب.

منذ أن ولدت كنت أعرف أنني سأصبح كاتبا، كنت أريد أن أصبح كاتبا، كانت لدي الارادة والاستعداد والحماس والقدرة لأصبح كاتبا ولم أفكر يوما في أن أصبح غير ذلك .. كنت مستعدا لأموت من الجوع ولكنني لن أتخلى عن الكتابة، بهذه الكلمات يختزل غارسيا ماركيز أو غابو كما يحلو لكثيرين أن يلقبوه، علاقته مع الكتابة هي قدره الذي عاش من أجله وكان يحلم أن يموت والقلم بين أنامله لولا أن حال المرض دون تحقيقه لهذا الحلم.

وكحكمة الفيل الذي ينزوي عن القطيع عندما تسقط آخر أضراسه، كذلك فعل غارسيا ماركيز حينما ابتعد في السنوات الأخيرة عن الأضواء وعن الصحافيين وهو الذي خبر مهنة المتاعب لسنوات طوال في بوغوتا وباريس وروما وكراكاس ونيويورك.

ومن على فراش المرض كتب رسالته الشهيرة التي يقول فيها لو شاء الله (…) أن يهبني شيئا من حياة أخرى، فإنني سوف أستثمرها بكل قواي، ربما لن أقول كل ما أفكر به، لكنني حتما سأفكر في كل ما سأقوله، سأمنح الأشياء قيمتها، لا لما تمثله، بل لما تعنيه. سأنام قليلا، وأحلم كثيرا، مدركا أن كل لحظة نغلق فيها أعيننا تعني خسارة ستين ثانية من النور. سوف أسير فيما يتوقف الآخرون، وسأصحو فيما الكل نيام.

كلما ذكر اسم غارسيا ماركيز إلا ويتبادر إلى الذهن ذلك العالم العجيب من الواقعية السحرية التي طوعها في رواياته بشكل فريد ممسكا بخيوط شتى المتناقضات، الواقع والمتخيل والسحر والخرافة والأسطورة والحكاية والحقيقة والمعجزة والدهشة والغرابة والمعقول واللامعقول، بكل هذه المتناقضات صنع ماركيز عالمه الخاص، عالم استمده من مسخ الكاتب الألماني كافكا ومن كتاب ألف ليلة وليلة ومن حكايات جدته.

لقد خلف رحيل مبدع الحب في زمن الكوليرا، والجنرال في متاهته، وخريف البطريرك، وليس لدى الكولونيل من يكاتبه، وقصة موت معلن، أسى عميقا في نفوس قرائه وعشاق الأدب عموما، ومن فنزويلا كتب الرئيس نيكولاس مادورو في تغريدة على (تويتر) إن غابو ترك بصمته الروحية منقوشة في العهد الجديد لأمريكا اللاتينية .. مائة عام من الحب لروحه الخالدة.

أما شقيق الرئيس الراحل هوغو تشافيز، فكتب هو الآخر على (تويتر) غابو انقل عناقا إلى الكوماندانتي تشافيز ..نحن سنستمر هنا في متاهتنا، وحتما سننتصر. ومن جهته قال الكاتب الفنزويلي ليوناردو بادرون أفضل أقلام النثر انطفأت، مات غابرييل غارسيا ماركيز والآن نحن في عزلة أكثر.

ومن بلاده كولومبيا قال الرئيس خوان مانويل سانتوس، إن العظماء لا يموتون أبدا مائة عام من العزلة والحزن لوفاة أعظم الكولومبيين على مر العصور، وهو ذات الوصف التي اختاره الرئيس المكسيكي إنريكي بينيا نييتو عندما كتب أن غابو واحد من أعظم الكتاب في عصرنا ، الذي من خلال أعماله، قدم للعالم الواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية.

ومن البيرو قال رئيس البلاد أويانتا أومالا أمريكا اللاتينية والعالم في أسى لفقدان هذا الحالم، لترقد بسلام غابرييل غارسيا ماركيز هناك في ماكوندو.

رحيل ماركيز عن سن مائة عام إلا ثلاثة عشر، سوف لن يغلق باب الاعجاب بهذا الكاتب الاستثنائي الذي عرف كيف يجعل لغة سيرفانتيس مطواعة بين يديه في كل صباح باكر وحافي القدمين وعلى مكتب فارغ إلا من ورق وقلم كان يخط كلمات دوخت أجيالا بأكملها، لكنه يعترف أن وراء كل عظيم لابد أن تكون ميرسيديس بارتشا، زوجته وملهمته التي كانت أول من يقرأ أعماله ويأخذ ملاحظاتها بعين الاعتبار.

وعن ميرسيديس يقول في كل لحظة من لحظات حياتي كانت هناك امرأة تأخذ بيدي في عتمات الواقع، فالنساء أدرى بالعتمات أفضل من الرجال، وهن قادرات على الاهتداء وسطها بأقل الأضواء.

وبلغة السهل الممتنع يحكي غابو في رسالة وداعه لو شاء ربي أن يهبني حياة أخرى، فسأرتدي ملابس بسيطة وأستلقي على الأرض، ليس فقط عاري الجسد وإنما عاري الروح أيضا، سأبرهن للناس كم يخطئون عندما يعتقدون أنهم لن يكونوا عشاقا متى شاخوا، دون أن يدروا أنهم يشيخون إذا توقفوا عن العشق. للطفل سوف أعطي الأجنحة، لكنني سأدعه يتعلم التحليق وحده. وللكهول سأعلمهم أن الموت لا يأتي مع الشيخوخة بل بفعل النسيان.

وبحكمة لا تخطئها عين لبيب، يكتب غارسيا ماركيز أنه تعلم الكثير من بني البشر تعلمت أن الجميع يريد العيش في قمة الجبل، غير مدركين أن سر السعادة تكمن في تسلقه. تعلمت أن المولود الجديد حين يشد على اصبع أبيه للمرة الأولى فذلك يعني أنه أمسك بها إلى الأبد، تعلمت أن الإنسان يحق له أن ينظر من فوق إلى الآخر فقط حين يجب أن يساعده على الوقوف. تعلمت منكم أشياء كثيرة لكن، القليل منها سينفعني لأنها عندما ستوظب في حقيبتي أكون أودع الحياة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *