آراء

الرواق

في الرواق تبين للكل مشهد غريب .. مشهد تقشعر له الأبدان. الرواق بكل بساطة مكان لن تحب الجلوس أو انتظار مصيرك فيه فبعد أن يخرج أستاذ ولائحة الطلبة الممتحنين في يده، لينادي على ضحيته الأولى، يبدأ الطلبة بالنظر يمنة ويسرة كأنهم غير آبهين والعكس صحيح.

قد يختار بعض الطلبة الآخرين تثبيت أعينهم في الأرض، مخافة النظر إلى عيني الأستاذ المشرف، وإذا فعل أحدهم ذلك ستمسه لعنة المشرف لينسى المسكين كل المعلومات الشخصية المتعلقة به بدءً بتاريخ ومكان ولادته أو ينسى لما هو متواجد أصلا في رواق المدرسة أو “رواق الموت” كما يحلو للبعض أن يسميه.

في تلك اللحظات كان دوري يقتصر في السخرية وإلقاء بعض النكات السخيفة كي أخفف من وطأة وهول الحدث، فأرمق بنظرة تشبه نظرة الأم إلى طفلها في حضرة الضيوف، بينما يكتفي آخرون بابتسامة مفادها رسالة تقول ليس الآن يا فلان .. ليس الآن.

بعد أن نهض الطالب الأول وعلامات التوتر بادية عليه، شاحب اللون، مكفهر الوجه، حتى أن توتره هذا أدى به إلى إسقاط حاسوبه أرضا مصدرا بذلك صوتا مدويا ارتعشت له قلوبنا الضعيفة. لا أخفي عليكم أننا أصبحنا جميعا لقمة صائغة للخوف المترصد بنا، كل واحد منا كان خائفا أن يسقط هو نفسه أو أن يرمقه أستاذ بنظرة فيغمى عليه.

خيل لي لوهلة أننا محاصرون من كل جانب، لا مجال للفرار كنا على مرمى قناصين مهرة، نقضم أظافرنا من شدة الخوف، خصوصا بعد معرفتنا أن جيش المشرفين على المناقشة يقودهم أساتذة محنكين في التعليم العالي و لغويون يشهد لهم العادي والبادي بالكفاءة والجدارة والاستحقاق ورصد الأخطاء على بعد أميال.

بمعنى آخر نحن وراء خطوط العدو، قريبا سيقبض علينا وسنحاكم لا محالة، سنساق إلى قاعة التعذيب المظلمة، المليئة بالحشرات والصراصير ورائحة العرق…، على كل حال عندما يدخل أحدنا الرواق فليدعو الله أن يخرج منه حيا يرزق وليس على نقالة للأموات، وهذه الفكرة قد تصبح فرضية مرة؛ لا بيد في ذلك بعد أن يتأخر أحدنا في الخروج مما يجعل البعض يفترض وفاة الطالب الممتحن بعد تعذيب طويل في قاعة المناقشة .مرت خمسون دقيقة كانت علينا كخمسين عاما مما نعد.

حدة التوتر زادت مما أرغم البعض على تدخين السجائر، أما البعض الآخر فقد فضل احتساء القهوة رغم أنه ليس من معجبيها، بينما اكتفى آخرون بمراجعة بحوثهم مخافة أن يجدوا فيها أخطا ء، ولسوء حظهم وجدوها فتساءل البعض “لماذا ظهرت الآن”- فرد الآخرون متهكمين: “لأن الأخطاء تحب أن تظهر تحت الأضواء في اللحظات الأخيرة من شوط المباراة”.

سمعنا صوت صراخ آتٍ من القاعة وانتظرنا دورنا لنساق إلى المقصلة كي نعدم. بعد مرور ساعتين جاء دوري، فأحسست أن مسيرتي في الممر ستكون طويلة. رواق الموت لا نهاية له، في آخره قاعة مغلقة توحي لك بالسرية التامة للجلسة، سرية تشبه تلك التي تتقنها المخابرات.

وقفت بباب القاعة أنتظر أن يؤذن لي بالدخول، كرجل ينتظر طبيب التوليد ليبشره بمولود جديد، لكن بدل أن يخرج الطبيب، خرج الأستاذ وعلى محياه ابتسامة عريضة طلب مني الدخول بهدوء فاكتشفت أن الرواق ليس صراطا نعاني فيه، بل مكان لطالما تشاركناه مع أناس أحببناهم وأحبونا، أضحكناهم وأضحكونا، وعلى عكس ما يعتقده البعض فالرواق مكان يحب الطالب المغربي أن يتواجد فيه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *