ملفات

ياكوش أو يوش .. قصة إله أوحد عبده الأمازيغ ذات ماض غابر

منذ العصور الغابرة، أظهر أهالي إفريقيا الشمالية اهتماماً في الأمور الدينية العميقة والصعبة الإدراك. وبالطبع، فإن هناك شيئاً عالمياً عاماً، تشترك فيه الطبائع البشرية، ألا وهو الرغبة في الوصول إلى حل ألغاز هذا الكون، وأسراره غير المرئية، والتي تتشارك فيها جميع قارات العالم وتؤمن بها كل الأجيال.

وكلما اقترب الناس بعيشهم من العالم الطبيعي، اشتدت رغبتهم في التواصل مع هذه القوى الخارقة الموجودة في الخليقة. والواقع أن الإلحاد استطاع أن ينمو ويزدهر في القرن العشرين فقط، حيث المدن الكبيرة التي أوجدها الإنسان بنفسه. فقد أحاط إنسان هذا القرن نفسه بأعمال يديه، ولم يعد لديه متسع من الوقت ليتأمل فيما هو أعظم من منجزاته من أمور مدهشة يحاول فهمها.

وكسائر الناس الذين يقضون أوقاتهم في الحقول أو الغابات، فإن الأمازيغيين القدامى، في العصر الحجري الحديث والعصر الحديدي، لابد أن تكون قد روعتهم القوى الظاهرة المدركة في الطبيعة. ولاشك في أنهم شعروا في قلوبهم بالمشاعر نفسها التي نحسها نحن ونشعر بها عندما نستيقظ في الصباح ونلقي نظرة على قمم الجبال المكللة بالثلوج تحت أشعة الشمس المشرقة الصافية.

لقد امتلأ الأمازيغيون رعباً، كما نحن، بسبب القوى العنيفة الهائجة التي لا يمكن مقاومتها وهي تجرف الأشياء بقوة بعد كل عاصفة، إذ تكتسح الأشجار والصخور أمامها، وتلقيها أرضاً وكأنها عصافة في مهبها.

لقد افتتن هؤلاء وسحروا أيضاً، بهياج البحار، وبأمواجها الصاخبة على السواحل الصخرية، وكذلك باندفاع طيور البحر وهي تنساق بسرعة فائقة خلال هبوب الرياح الغربية. لقد أدهشهم غروب الشمس وهي تصقل لونها الذهبي المتحول تدريجياً إلى اللون الأحمر، لكي يختفي بعيداً وراء التلال الرمادية، في آخر النهار.

ليس من السهل أن نعود القهقرى لأربعة آلاف سنة غابرة، لندرك ما كان يفكر فيه أسلافنا، وما اعتقدوه في الحياة والموت؛ ولكن بإمكاننا أن نمسك بالمفتاح الذي يزودنا ببعض المعلومات فيما يتعلق بمعتقداتهم، وذلك من صناعاتهم ومنتجاتهم التي يكتشفها علماء الآثار هنا وهناك، كالأصنام والمذابح والحجارة المنقوشة والملونة، أو أي شيء آخر يعطينا مغزىً حقيقياً لدين معين.

وهذا، وإن لم يكتب الأقدمون شيئاً، فبإمكاننا أن نجد المراجع بخصوصهم، من خلال كتابات غيرهم، ومن عرفهم من الناس، لاسيما أولئك الذين يبادلونهم في التجارة، أو يحاربونهم. أحياناً يمكننا أن نميز أشياء كثيرة عن معتقداتهم، من خلال العادات والتقاليد التي لا تزال حتى اليوم. وإذا تأملنا في ديانة الأمازيغيين نجد، ولحسن الحظ، بعض المفاتيح لفك لغزها بواسطة الأساليب الثلاث السالفة الذكر.

هناك شواهد وإثباتات تدل على أنهم تطلعوا بشكل خاص إلى السماء، مسكن الشمس بنورها ودفئها، ومصدر المطر المحيي – والسماء بطبيعتها مليئة بالعجائب والروائع – وإلى النجوم المشرقة بلمعانها ليلاً، والقمر الذي يضيء بنعومة ورقة، والألوان السحرية لقوس القزح الذي ينشق متلألئاً من بين الغيوم بعد سكون العاصفة، وكتل الثلج البيضاء الصامتة التي تنساق بغموض إلى الأرض، والوميض المروع الذي يبعثه البرق، والتهديد المدمدم في قصف الرعد المزمجر.

فليس عجيباً أن تنشر السماء الرعب والخوف والعبادة في نفوسهم. وكثيراً ما نجد نقوشاً تمثل الشمس في حجرات الموتى وأقبيتهم، وحتى على الصخور القائمة. وفي بعض الأحيان، يعبر القدماء عن إله الشمس بشكل أسد، شعر عنقه ملتهب ومتقد اتقاداً.

وكان هذا الحيوان معروفاً عند الأفارقة الشماليين قبل أزمنة الرومان وبعدها، وهو لايزال يظهر مراراً وتكراراً في حكاياتهم الشعبية. وتشير نقوشهم المحفورة، وكلماتهم المنقوشة، إلى الإله “أيور” (Ayyur) أي القمر، بلغة الأمازيغيين.

استمرت عبادة الأجرام السماوية خلال أزمنة التاريخ. فقد كتب لنا هيرودوتس (Hérodote) في القرن الخامس قبل الميلاد، أن الأمازيغيين، قربوا في أيامه التقدمات لكل من الشمس والقمر. أما بليني الكبير (Pline I’Ancien)، فقد أكد لنا تقدبم مثل هذه الذبائح في القرن الأول للميلاد.

قال شيشرون (Cicéron) إنه عندما قابل الملك الأمازيغي ماسينيسا (أو ماسنيسن) الجنرال الروماني سكيبيو (Scipion) في القرن الثاني قبل الميلاد، صلى إلى الشمس قائلاً لها: “إني أقدم شكري العميق لك أيتها الشمس المرتفعة ولسائر الآلهة أيضاً في السماء، بسبب إتاحة الفرصة لي، وقبل انتقالي من هذه الحياة، أن أرى في مملكتي وتحت سقف بيتي كرنيليوس سكيبيو”.

أما ابن خلدون فقد ذكر أن الكثير من الأمازيغيين في القرن الرابع عشر بعد الميلاد، كانوا لا يزالون يتعبدون للشمس والقمر والنجوم.

وفي القرنين العاشر والحادي عشر للميلاد؛ أشار بعض شيوخ الإسلام، إلى وجود الإله الأوحد باسم “ياكوش” أو “يوش”. فهل لايزال هذا الاسم حياً بين ذوي الأصل الأمازيغي منذ ماضيهم الغابر؟ أو إنه لم يعرف عندهم إلا حديثاً؟

نحن لا نتمكن من الإجابة عن هذا السؤال ولكن يبقى من الحقائق المحيرة وجود آثار تدل على الإيمان بالإله الواحد، ليس هنا فقط، بل في أماكن معزولة في جميع أنحاء المعمورة، وعند شعوب وأجناس لم يكن لها احتكاك بأية حضارة، ويظهر أن هذا اعتقاد عفوي بوجود إله سامٍ قصي غطت معالمه الممارسات الطقسية وعبادة الأرواح المحلية وأرواح الأسلاف.

فهل يمكن القول إن هذا الإدراك للإله الأسمى، الكوني والشامل هو علامة من علامات الأصل المشترك الأوحد للبشرية جمعاء، ومشابهة الأقدمين في صفاتهم، والذاكرة المنتقلة من جيل إلى جيل والتي ترجع إلى أقدم أسلافنا، إلى نوح وحتى إلى آدم قبله؟ فبعض الأساتذة العلماء يلمح بجدية إلى أن هذا هو واقع الإنسان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *