آخر ساعة

في السياسة وعلاقتها بالأخلاق

كتقديم لما سيأتي من حديث، أود استرجاع ما كتبه “ماكيافيللي” في كتابه “الأمير” حول ممارسة الحكم والسياسة في شقها المرتبط بعلاقتهما بالأخلاق وتحديثها على ضوء ما نشهده في واقعنا المغربي على الشكل التالي:

هل يجوز للسياسيين المغاربة على اختلاف مستوياتهم ومراكزهم استعمال كل الوسائل لبلوغ أهدافهم وغاياتهم حتى ولو كانت على حساب الفضائل الأخلاقية والقيم؟ أم أن السياسة، قبل أن تكون بحث مستمر لممارسة الحكم، أخلاق وقيم لا يجب التنكر لها؟

أن تقود الجماعة فتلك سياسة بمفهومها البسيط، وأن تسعى لقيادة هذه الجماعة لبلوغ ما تصبو إليه في إطار التكليف الذي يحظى به السياسي بين خصومه فهذا ما يتوخاه الحكم في مفهومه الضيق. أي أن للسياسة أهداف نبيلة رغم ما يشوب ممارستها من اختلالات. والأخلاق كما هو متعارف عليه هي مجموعة من القيم والسلوكات الموجهة للجماعة البشرية التي تعاقد أفرادها على احترامها والعمل على عدم مخالفتها. وهما معا، أي السياسة والأخلاق، مفهومان يسيعان لجعل الجماعة البشرية تنمو وتزدهر في إطار عيش موحد وأوحد.

وكما يبدو، فإن نقاط التعارض بين السياسة والأخلاق ليست في الأهداف والغايات، وإنما في سوء الاستعمال الذي يُلاحظه المتتبع للشأن السياسي للوسائل والسبل حتى ولو كانت قذرة على حساب الأخلاق والهدف بلوغ غايات تبدو في ظاهرها نبيلة ولكنها في العمق لا تخلو من انتهازية ووصولية.

وذلك ما يظهر جليا عند اختيار أصحاب “الغاية السياسة” لوسيلة ما على حساب أخرى حتى وإن كانت وسيلة قذرة لا أخلاق فيها. وهنا تتشابك السياسة بالأخلاق وتتفرق في مفترق طرق يُحتم لزاما على ممارسي السياسة اختيار توجهاتهم بالعودة لثلاثة مراجع أساسية لا يجب التنكر لها وهي الغاية السياسة ومضمونها، والسبل والطرق السياسية التي ستفضي لبلوغ الهدف و في الختام الأخلاق والقيم التي تنظم الجماعة التي يُزاولون فيها السياسة وما تستوجبه من فضائل وأخلاق.

وعلاقة السياسة بالأخلاق تختلف باختلاف سياقات الحكم والجغرافيا والزمن السياسي. فسياسة القتل والتنكيل كما تُمارس في بعض البلدان تختلف تماما مما يُمارسه الفرقاء السياسيين في بلدان نجحت في تخطي شبح الفوضى وعدم الإستقرار. وبين من لا يعارض اللجوء للعنف والقتل والإغتيال السياسي في مواجهة الخصوم وبين من يستعمل كل الوسائل اللفظية والكيدية للإيقاع بخصومه في “أكورا” السياسة والحكم فرق لا يجب إنكاره. وهنا يجب وضع السياق نصب أعيننا حتى لا نُعمم حكمنا ونتسرع بالتالي في تعميق الشرخ والهوة بين السياسة والأخلاق.

وفي واقعنا السياسي، من حقنا التساؤل عن علاقة السياسة بالأخلاق ومدى تكاملهما أو تعارضهما. فواقع الحال يفيد بما لا يدع مجالا للشك بأن كل الأجوبة ممكنة ولا يمكن إنكار وجود تداخل وتنافر المفهومين في كل الأوضاع والأزمنة السياسية التي مر منها المغرب منذ استقلاله. فقد تميزت الحقب السياسية على مر السنوات الماضية بتنامي الصراع والمواجهة بين كل الأطياف والألوان السياسية الحزبية والنقابية وتنكر الجميع بدون استثناء في مراحل متعددة للأخلاق والقيم وأُرخي العنان للمكر والخداع والإستغلال والنفاق والكذب ما دامت الغاية تبرر الوسيلة والطريقة المتبعة لتحقيق الأهداف.

ولا يمكن إنكار محاولة البعض العزف على أوتار الأخلاق ونبل الممارسة السياسية من خلال الدعوة لاحترام خصومهم وتوخي الحيطة والحذر في تعاطي مناضليهم مع توجهات وخطوات منافسيهم وعدم السقوط في هفوة التلاسن والتراشق بالألفاظ النابية والمخلة بالحياء العام في الحراك السياسي بالبلاد، وهي استثناءات لا تكاد تستقر حتى يتم تجاوزها مع قرب الإستحقاقات الإنتخابية.

والملاحظ هو محاولة البعض صياغة تحركاتهم وتوجهاتهم من منظور أخلاقي يتماشى وطموحاتهم ويخدم أطماعهم ليتحول كل من يعارضهم لعدو وشر لا يستحق الوجود ويجب تنحيته حتى تنعم البلاد في الهناء على حد تعبيرهم. وهو ما نلاحظه عندما يصف سياسيونا بعضهم البعض بأبشع النعوت ويتبادلون الإتهامات بالعمالة والخيانة ومحاولة تخريب البلاد على حساب مصلحة الشعب ومصلحة البلاد العليا وكأنك عندما تسمعهم يتحدثون تعتقد بأنهم لوحدهم من يملكون الحقيقة ومن يملكون عصا سحرية لإخراج البلاد من أزماتها والرقي بها ولا أحد سواهم يفكر في مصلحة البلاد. وهي أنانية سياسية ذميمة قد يتقبلها العقل في حالات البحث الشفاف عن الحكم دون أن يتحول ذلك لقاعدة يجوز معها استعمال كل الوسائل غير الأخلاقية في مواجهة الخصوم.

وهو تجسيد لا غبار عليه لما دافع عنه المفكر الإيطالي ماكيافيللي عندما دعا الأمير إلى “أن يستغل من الصفات ما يشاء غير ناظر إلى أي قيمة دينية أو أخلاقية فهناك من الفضائل ما يؤدي إلى سقوط حكمه وهناك من اللافضائل ما يؤدي إلى ازدهار حكمه وشعاره الذهبي في ذلك “الغاية تبرر الوسيلة والضرورة لا تعترف بالقانون”.

وبالعودة لواقعنا السياسي بعد ابتعاده عن أسسه الأخلاقية تشكلت لدى المتتبع المغربي صورة قاتمة جعلته يستنتج بأن ممارسة السياسة ببلادنا تراجعت في سلم المدنية والتحضر على مستوى خلق القيم الإنسانية واحترامها والتزود بها في مواجهة متطلبات العصر، وهو ما يجسده ساسة يعزفون على كل الأوتار ويلجؤون لكل الوسائل ويستغلون كل شيء، معتمدين في ذلك على شعار ” السياسة هي فن الممكن”؛ فيُداس على الضوابط والقيم وتعلو ثقافة الكذب والاحتيال والنفاق والفساد والعنف والانهيار الأخلاقي واستغلال النفوذ وشراء الذمم والأصوات واستعمال المال الحرام في الإنتخابات وإبان تشكيل التحالفات، الأمر الذي تصبح معه الديمقراطية سجينة الانتهازيين وأصحاب المصالح.

إن البلاد وهي تسير في درب التحول الديموقراطي تعيش أزمة أخلاق تجسدها الأنانية والبحث عن المجد السياسي والتنكيل بالخصوم، الأمر الذي لا يخدم مصالح الفئة الساحقة من الشعب وإنما القلة القليلة هي من تفوز. وهنا لا بد من التركيز على إرساء أسس الديموقراطية وسمو القانون واحترام حقوق المواطنيين حتى تتشكل بذلك علاقة وطيدة وفاضلة بين السياسة والأخلاق وتتوحد بذلك أهدافهما ومعانيهما لما فيه مصلحة الشعب المغربي ككل.

والمغاربة وهم يتحسرون على ما وصلت إليه أحوال السياسة بالبلاد من انحطاط وتدني وتدهور قيمي وأخلاقي يمنون النفس بتغيير في سلوكيات سياسيينا بإيلاء أهمية قصوى للأخلاق في ممارساتهم وتدبيرهم السياسيين للشؤون العامة للجماعة البشرية حتى تعود الروح للقيم الإنسانية العامة في المنظومة السياسية ببلادنا، لأن “الأمم الأخلاق” تجسيد للمكانة التي تحضى بها الأخلاق في حياة الأمم، وكذا دورها في رسم المعالم الكبرى التي ستُنصب على أساسها مرتكزات المجتمع الذي تريده هذه الأمم.

فلو اكتمل التكوين والبناء الأخلاقي للدولة المغربية على أساس المساواة واحترام الآخر وتقبل الاختلاف والإحساس بالمسؤولية الجماعية وتكريس ثقافة الإنسان الجماعي لتَعايش الجميع في مجتمع واحد وتظافرت جهود الجميع في سبيل تحقيق نهضة المجتمع و تجاوز الكل فردانيته في سبيل تحقيق مآرب الجماعة ولنجحت البلاد في تجاوز تخلفها في كل المجالات وتمكنت من حجز مكان لها في قوائم الدول المتقدمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *