خارج الحدود

لماذا يفترون على روسيا؟

ربما هي من المرات القليلة التي يسارع فيها الكرملين إلى نفي خبر ملفق انتشر بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي نقلا عن مصادر أجنبية.

فقد نفى الكرملين نفيا قاطعا ما تناقلته بعض وسائل الإعلام الأجنبية حول استدعاء الرئيس فلاديمير بوتين للسفير التركي في موسكو أوميت يارديم لمناقشة سياسة أنقرة تجاه تنظيم “داعش” الإرهابي.

وقال دميتري بيسكوف الناطق الصحفي باسم الرئيس الروسي للصحفيين الأربعاء 5 غشت تعليقا على الشائعات: “إنها لا تتناسب مع الواقع على الإطلاق”.

وكانت وسائل إعلام تركية وإيرانية قد زعمت أن الرئيس الروسي خرق البروتوكولات الدبلوماسية المتعارف عليها حيث قام باستدعاء السفير التركي، وحذره من أن موسكو ستقطع العلاقات الدبلوماسية مع أنقرة ما لم تتوقف الأخيرة عن دعم تنظيم “داعش”.

والواضح أن النفي الذي صدر خلال بضع ساعدت من إذاعة الخبر، جاء إثر تسرب التقرير الملفق إلى مواقع ناطقة بالروسية وأخرى تقول إنها روسية ناطقة بالانكليزيّة؛ الأمر المثير للتساؤل عن حجم التغلغل الإعلامي الخارجي في مؤسسات تعمل داخل روسيا.

وعلى نفس المنوال كانت بعض المواقع العربية لفقت تقارير وأخبار عن  الرئيس فلاديمير بوتين وعدد من كبار مساعديه والوزراء والدبلوماسيين الروس.

منها على سبيل المثال لا الحصر، ما نُشر قبل عام من عناوين عريضة على صدر الصفحات الأولى لبعض الصحف تقول إن الرئيس الروسي وفي اتصال هاتفي مع نظيره الأمريكي هدد بعمل عسكري إذا لم تغير الإدارة الأمريكية موقفها من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي!

بل ذهبت بعض التقارير إلى القول بإن القوات النووية الروسية وضعت على أهبة الاستعداد!!

ومنها ما أشيع عن المشادة المزعومة بين وزير خارجية قطر السابق ومندوب روسيا الدائم في الأمم المتحدة، وبأن المندوب هدد الوزير بمحق قطر من وجه البسيطة!

وذهبت إحدى الصحف البيروتية المرموقة مذاهب شتى في نشر محاضر لقاءات بوتين مع مسؤولين عرب من بينهم الأمير السعودي بندر بن سلطان الذي يتضح من المحضر المزعوم بأنه جاء إلى الكرملين مهددا بالويل والثبور وبتمويل الحركات الانفصالية في القوقاز الروسي.. وإلى آخره من كلام يبدو للقارئ وكأن بندر يخاطب مدير شركة مقاولات تابعة له وليس رئيس دولة نووية عظمى تحتل مساحتها سبع اليابسة!

وعلى نفس النسق تأتي الحكاية التي يرويها أحد المقرئين في المقامات الحسينية نقلا عن مقرئ آخر يقول إنه اجتمع مع وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف بناء على “التماس” الوزير الروسي (!!) ليشرح له قوة وسطوة المذهب الشيعي في العالم؛ ومدى نفوذ إيران في الشرق الأوسط من باب المندب إلى مضيق هرمز ومن بغداد إلى صنعاء مرورا بالشام وبيروت.

ويروي “القصخون” اللقب الذي يطلقه العوام على مقرئي المآتم الحسينية أن روسيا غيرت استراتيجيتها في الشرق الوسط وفي العالم بعد ذلك اللقاء لأن “لافروف أدرك الحقيقة”!!

ولربما دار في مخيلة المستمعين السؤال: هل روسيا العظمى بحاجة إلى شرح من الملالي كي ترسم سياستها في العالم؟!

وإلى اليوم تنشر مواقع عراقية قائمة بأسماء شخصيات تزعم أنها تمول تنظيم داعش وتقول إن جهاز الاستخبارات الروسية كشف عنها، وإنها منشورة على موقع الجهاز وتنسب لرئيسه تصريحات ما أنزل الله بها من سلطان!

ان كاتب هذه السطور بحكم العمل يلتقي ببعض المفترى عليهم في الإعلام الخارجي، ويحدثهم من باب التندر والفكاهة عن تلك الوقائع فيضج الجميع بالضحك.

إلا مرة واحدة حين لفقت صحف بيروتية على لسان نائب وزير الخارجية الروسية ميخائيل بوغدانوف قصة تزعم، أنه نقل إلى مسؤولين لبنانيين عن الأمير بندر إياه أن السعودية ستحرق سوريا إذا بقي الرئيس بشار الأسد في الحكم!!

في هذه القصة طلب منا بوغدانوف أن نذيع على لسانه نفيا قاطعا لأن التقارير المنشورة في بيروت كادت تسبب أزمة دبلوماسية بين موسكو والرياض، وأن الأمر خرج عن حدود القصص التي تصلح مادة للتندر والتنكيت!

وفي التقرير عن استدعاء بوتين لسفير أنقرة الذي روجت له وسائل إعلام مختلفة وجد الكرملين أنه يتعين النفي وبسرعة، لأن الأمر قد يتطور إلى أزمة دبلوماسية مع تركيا، أحد أكبر شركاء روسيا الاقتصاديين في العالم.

عدا عن أن مؤلفي القصة الكاذبة، نجحوا في دس الفرية داخل وسائل إعلام ناطقة بالروسية وأخرى بالانكليزيّة.

والسؤال لماذا يلفقون على روسيا؟؟

لعل من يصورها قوة تهدد بحرب نووية لصالح هذا النظام العربي أو ذاك مصاب بأعراض الحنين إلى الاتحاد السوفياتي الذي توفي منذ حوالي ربع قرن لكن قسما من العرب لا يجرؤ على قراءة الفاتحة عملا بمقولة إكرام الميت دفنه!

ومن يصور الرئيس فلاديمير بوتبن أمام الأمير بندر بن سلطان تلميذا يتقرع وهو صامت إنما يريد أن يدلل على ضعف روسيا، حليف سوريا وإيران وغيرهما، وبأنها شريك غير مضمون.

وفي الحالتين فإن ملفقي القصص والتقارير يعيشون أوهاما، الواضح أنها تحولت إلى حالة مرضية تحتاج إلى أكثر من عملية جراحية لإزالة أورامها الخبيثة وتحصين المطلعين عليها من التأثر بالأكاذيب.

ترى كيف يمكن تفسير أن معلقين ومحللين كبارا، وفق التصنيفات العربية، يأخذون هذه التقارير على محمل الجد ويبنون عليها مقالات ” تحليلية” مطولة، وصل بعضها إلى صفحة كاملة في جريدة ذائعة الصيت؛ تتنطع لأن ترسم ملامح سياسة روسية غير موجودة على الأرض أصلا؟!

وأيضاً…

كيف يمكن فهم أن صحفًا مرموقة لا تستحي من تلفيق محاضر اجتماعات بين مسؤولين عرب وروس فقط لأنها تبحث عن الإثارة والسبق الفارغ؟

لم تعد روسيا كما الاتحاد السوفياتي تتفاعل بسرعة مع التضليل الإعلامي الموجه؛ ففي الحقبة السّوفياتية كانت وكالة “تاس” مخولة بالتبليغ والرد وحدها.

وفي روسيا تتعدد المراكز الإعلامية بتعدد المراكز المالية بعد أن دخلت البلاد عصر اقتصاد السوق قبل زهاء ربع قرن. ولم تعد الاستجابة للضخ الإعلامي الخارجي حكرا على وكالة أو وزارة أو مؤسسة بعينها.

لكن إذا شعر المكتب الصحفي للكرملين بأن التقارير الملفقة تجاوزت حدود الخزعبلات المضحكة؛ رد بشكل قاطع، كما حصل مع قصة السفير التركي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *