منوعات

عالم نباتات إيطالي يصنع لنفسه “حديقة الأحلام” بالمغرب بإلهام من الجن!

لم يكن يعلم أن عشقه للنباتات والزهور النادرة سيدفعه للسفر من إيطاليا إلى مدينة طنجة المغربية كي يحقق حلمه الذي شغف به منذ أن كان صغيراً، وهو حديقة يجمع بها كل أنواع الأشجار والثمار التي كادت أن تندثر.

وفي ريف شمال المغرب صنع الكاتب وعالم النباتات الإيطالي، أمبرتو باستي، حديقته التي سمّاها “روحنا”، والتي تكاد تكون كتاب سيرة ذاتية أوراقه أديم الأرض وأحرفه الأزهار والأشجار، بعدما رأي حلماً اثناء سيره في هذه المدينة المغربية، معتبراً أن هذا مس من الجن.

عالم النباتات الإيطالي قصّ في مقاله له بمجلة “نيويورك تايمز ستايل” الأميركية كيف بدأ رحلته الصعبه وكيف واجه وعورة المكان وقسوة الطقس التي تصل إلى 50 درجة، كي يحقق حلمه، الذي حلم به منذ صغره.

وإلى نص المقال:

كان أول مجيئي إلى بقعة الأرض المغبرة هذه التي تبعد 64 كم جنوب طنجة قبل نحو 18 عاماً. أعياني التعب بعد طول السير على قدميّ، فغفوت تحت شجرة تين، وهناك راودني حلم غريب كله كلمات لم أفهم كنه علاقتها ببعضها: فم، نبات قرة العين، رواق دائري، حصان وحيد القرن.

في ذلك الوقت لم أكن أعرف أن الجن في تلك المنطقة يتلبسون كل من يغفو تحت شجرة في منطقة نائية ويصيبونه بمسّ، لكن كل ما عرفته آنذاك أني سأبني حديقة في تلك الناحية. أخبرت صديقي المغربي الذي رافقني في السفر بأني سأشتري الأرض التي يبلغ عدد أصحابها 20 ونيفاً، لكني بعد نحو 100 مقابلة مع “العدول”، أو كاتبي العدل، تمكنت من إبرام عقد البيع.

كنت طوال تلك الأثناء أسكن كوخاً صنعته لنفسي من القصب وسعف النخيل، بنيته بمساعدة من رشيد، ذلك الطفل أسود العينين الذي ظهر خلفي فجأة ذات يوم من وراء غصن شجر، تعلو وجهه ابتسامة عريضة. اليوم رشيد هو رئيس البستانيين في “روحنا”.

في واقع الأمر لم يكن الموقع مثالياً لإنشاء حديقة. بالطبع كانت هناك بضعة أشجار تنمو وسط الحر والقيظ والغبار، 3 تينات وبضعة شجيرات رمان وشجرة كينا، أما المشهد العام وسكون الأرض الصخرية تتلاقى مع مياه المحيط الواسع فكان صمته وجلاله أشبه بصفحات الكتب المقدسة هيبة.

المؤسف أن الطريقة الوحيدة كي تصل إلى هناك هي إما أن تسلك الطريق شديد الوعورة على قدميك ماشياً وإما أن تمتطي بغلاً إلى هناك. التربة جيرية كلسية وفي كثير من الأحيان رملٌ أو طينٌ لا حياة فيه؛ والحرارة تصل إلى 50، أما الصخور فمرتعٌ للعقارب والحيات والثعابين السامة التي منها أفعى Vipera latastei النادرة التي تكفي عضة منها لتقتل وتفتك. الأنكى من كل هذا أن فلاحي القرية المجاورة عنيدون يرتابون من الغرباء ولم يسبق لكثير منهم أن التقوا أوروبياً من قبل.

كان والدي قد توفي قبل فترة وجيزة تاركاً لي إرثاً من المال، فأنفقت المال كله على الطريق الذي ساقني إليه القدر بصفتي رجلاً بستانياً. وعندما بلغت متلازمة كليوباترا في الإنفاق والبذخ أوجها معي وبلغت كل مبلغ كنت قد استأجرت 600 عامل لبناء 3 بيوت ولرصف طريق صخري طوله أميال ولتشييد الحيطان والحواجز.

كذلك كان علينا في تلك الأثناء نقل مئات الأطنان من التربة الصالحة السطحية لكي أحقق حلمي المنشود كما تخيلته؛ فحديقة أحلامي تراودني دائماً، لكن منذ متى بدأت تراودني بصورتها تلك المطبوعة في مخيلتي؟ كيف ومتى وفي أي بعدٍ زماني التقى الحلم المغربي الريفي الفضي بلوحة فنية من عصر النهضة ملؤها الكائنات الخرافية الأوروبية من أفاعي الباسيليسك وأحصنة مجنحة وكائنات نصفها بشر ونصفها حيوان؟

كانت تلك سنوات مضنية من العمل الشاق، لكنها لم تخلُ من لحظات المتعة أيضاً، كيوم ركبنا مضخة فتدفق أمامنا غدير عذب رقراق، أو كيوم عدت من طنجة فرأيت أزهار السوسن البنفسجية قد تفتحت وأزهرت بعدما كنا قد نقلناها من مشروع ميناء سياحي قبل أشهر وزرعناها بالآلاف.

أذكر أني في بادئ الأمر كنت صارماً مع نفسي لا أزرع مع الأشجار المثمرة سوى النباتات التي تتهددها يد العمران الذي شوّه شمال المغرب، فكنت أخطف شتلاتها من براثن الجرافات وآلات الحفر والإنشاء، كأشجار الزيتون المقتلعة والسنديان الأخضر وشتلات الفراولة ونبات الرباطية (الجحليق) وأشجار التين.

لكني مع الزمن تنازلت قليلاً وأطلقت العنان لنفسي، فطفقت أزرع ما يحلو لي لكن فقط لتزيين السياج حول المنازل، حيث أطلقت يديّ بكل حرية كي أزرع ما طاب لي من نباتات شاهدتها في حدائق شمال البلاد من ورد الجوري الدمشقي والزنبق الأبيض ونبات القنا الهندي والسوسن الجرماني والسوسن الشاحب والسوسن الإفريقي ونجميات التيثونيا ونبات الخطمية والقرنفل والجيرانيوم الغرنوقي.

لكل من الشرفات الـ20 طابعٌ خاص، فهناك حديقة إنكليزية ملؤها الزنبق وزهرة الفوشية؛ وهناك الحديقة الإيطالية بزيتونها وآسها وزنابق النيل، وكذلك توجد حديقة مصرية أشعر فيها كأنني جالس في مدينة الأقصر.

كما فاجأت صديقي الصدوق ستيفان بشرفة سمّيتها شرفة ستيفان تيمناً به، نجلس ونتسامر ونتنادم فيها بينما نرشف أقداح الراح والمدام في ليالي الصيف. لديّ أيضاً حدائق “باندو” التي تستمد اسمها من أحد البستانيين القرويين عندي، فشجرة عائلته العريقة في القرية بتفرعاتها لا تفتأ تذهلني وتربط لساني مثلما يعجز لسان راوي رواية “البحث عن الزمن المفقود” عن سرد تفرعات عائلة غويرمانتيس.

في تلك الحديقة أترك الخيار للبستانيين كي يتخيروا ما يزرعون وسط أشجار التوت والمشمش والأجاص (الكمثرى)، فيتحفونني بجرأتهم حين يزرعون برواليا جيمسونية برتقالية اللون جنباً إلى جنب مع التيكوما البرتقالية أيضاً ثم يكملون المشهد باللقلقي الأحمر بلون الدم والأقحوان الإفريقي البنفسجي والآذريون أو المخملية، لتعم المكان سحابة برتقالية حمراء من العبير والشذى الهفهاف.

لكن قلب هذه المزارع مكانه وموطنه الحقيقي وراء الطريق الذي يوصلك للقرية، على أعتاب غابة التين التي تفضي مثل ما في الحكايات الخيالية إلى جسر خشبي بناه لي صديقي نجيم. هناك تنمو الحشائش والنباتات البرية التي يربو عددها على 300 نوع وجنس وفصيلة أصيلة، من السنديان الأخضر الأشم فارع الطول إلى السنديان دائم الخضرة إلى نرجس طنجة متناهي الصغر، فضلاً عن كل زهور الخبيزة والفربيون والرقروق والزعتر التي ميزت شمال المغرب وجعلته جنة حقيقية.

كذلك تتميز الحديقة بالأبصال البرية، فهناك 17 نوعاً من السوسن منها 6 أصيلة، و12 صنفاً من النرجس، و5 أنواع من الصاصل (أو نجمة بيت لحم) والتوليب والرومولية واللحلاح والبريط وحشيشة الحجل والغلاديولي (زنبق السيف) والخزامى العنبية والزعفران واللحلاح الخريفي والثوميات.

لست هنا أتحدث عن حفنات صغيرة أو باقات متواضعة، بل عن مروج رحبة فينيقية لا حد لها تسد الأفق، نجلس وسطها حين نذهب في نزهات الشتوية، نفترش الأرض ببساط من القش والقماش الخفيف وسط حقول السوسن المغربي، ثم نشرب شاي النعنع المغربي على شرف الحقول، نتناول معه كسرة خبز.

إن الحياة والعيش وسط هذه الجنة لنعمة كبرى، فهنا حياة الناس تعانق حياة النباتات والحيوانات وإيقاع الطبيعة نفسها. هذه هي المغرب التي أعشقها أكثر من أي شيء آخر في العالم، المغرب الريفي الأصيل الذي أعيش من أجله. إنني شاكر للرجال الذي يعملون معي ويعينونني، وممتن كذلك للجن الذين ما زالوا يتلبسونني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *