مجتمع

ربع قرن في سجون البوليساريو.. عدي عليلوش يروي حكايته -11-

أعياد الأسر والسجن -11-

يوزعون علينا كل يوم أربع سجائر لكل أسير مدخن، سيجارة من نوع “مجاهد”. مع السجائر علبة أعواد ثقاب وحيدة لإشعال سجائر جميع الأسرى. يتركونها عند بَّا بوعزة، وهو أسير مثلنا. أمام بّابوعزة ( عاد للمغرب سنة 1987، وتوفي رحمه الله في 2014). حلين اثنين، إما أن يوزع أعواد الثقاب على الأسرى، وستكون النتيجة عود ثقاب وحيد لكل 8 أسرى أو أكثر، وإما أن يجد طريقة لتدبير شعلة لكل سجائر “مجاهد”.
الحاجة أمُّ الاختراع، مقولة تجلت مع بّا بوعزة، إذ سمح له الحراس بالاحتفاظ بشفرة حلاقة، وكان يستعملها لتقسيم عود كبريت واحد بدقة متناهية إلى أربعة. بدقة لن يُصدّقها الكثيرون كنا نستعمل عود كبريت أربع مرات! كما بدأنا بترتيب مواعيد شبه منظمة لإشعال السجائر لأكبر عدد من المدخنين. سنوات طويلة ونحن على ذلك الحال، إلى أن أخبر أحد الأسرى بن هوشات أن الأسرى يحتاجون المزيد من السجائر والمزيد من الصّابون. فتغيرت حصة المدخن الواحد من أربعة سجائر في اليوم إلى خمسة عشر علبة سجائر في الشهر، ثم تزايدت إلى أن بلغت خمسة وعشرين علبة في الشهر الواحد .واستمر الوضع الجديد حتى 1994.
أما بالسنبة لي فلم أعش مرحلة الاكتفاء الذاتي من السجائر، فقد اقتلعت عن التدخين منذ فبراير من سنة 1987.اتخدت هذا القرار وصنت العهد إلى يومنا هذا. ولم أعد أنتظر حصتي اليومية من السجائر، وكلما رأيت بّا بوعزة منهمك في تدبير شعلة يومية للأسرى أرفع أكف الضراعة أن يتمكن زملائي من التخلص من التدخين كما تخلصت منه، وأن يخلّصنا القدير جميعا من ذل هذا الأسر..
في تلك السنة تزامن شهر رمضان مع شهر ماي. رمضان كئيب يشبه كافة الرمضانات العشر التي قضيتها في الأسر في العشر سنوات الأخيرة. صوم بالنهار والليل، ومحاولة لخلق أجواء صيام وإفطار تشبه أجواء البلد ولو في خيال كل أسير، كمحاولة يائسة لنسيان ذل الأسر والبعد عن الأهل.
قبل ليلة القدر بيوم واحد جاء قرار بإطلاق مئة وخمسون أسيرا دفعة واحدة. كانوا من رفاقي والمرحوم بّا بُوعزة ضمنهم، ولم يكن هناك من وسيط في الافراج عنهم سوى اتفاقا بين المغرب والجزائر لا نعرف بنوده. كل ما نعرفه أن مئة وخمسون شخصا سينالون حريتهم أخيرا.
لا أعرف كيف اختاروهم، بأي معيار، فقد كان المفرج عنهم أو المرشحون لذلك خليط غير متجانس من الأسرى. أغلب الظن أن ذلك تم بشكل ميزاجي، كل ما أعرفه أنني لم أكن ضمن الذين نالوا الحرية.
إن الحسد غير مباح، لكني تمنيت لو كنت ضمن المفرج عنهم، لقد قضيت الآن إحدى عشر سنة في الأسر، ومعي من سبقني لذل الأسر ننتظر معا فرجا من السماء.
ودّعنا رفاقنا الذين ركبوا الحافلات، وإن لم نكن بينهم فعلى الأقل سينقلون رسالتنا لدولتنا، ولأهلنا، بأننا هنا منسيون ننتظر انصافا.
لما بلغوا تلمسان أنزلوا منهم ستة وثلاثون شخصا هكذا اعتباطا، وعوضوهم بـستة وثلاثين آخر تم أسرهم سابقا على مشارف بشّار، عندما اصطدم الجيش المغربي بالجيش الجزائري. أعادوا الـستة وثلاثين أسيرا غير المحظوظين إلى معتقل صغير لا يبعد عنا كثيرا.
طوال تلك الأيام التي تلت إطلاق سراح رفاقنا شعرت بحزن شديد مختلط باليأس. لقد فرحت لتحررهم لكني تمنيت أن أكون ضمن الذين عانقوا الحرية. ليومين لم أذق طعم النوم وما ابتلعت طعاما.
مر عيد الفطر كمأثم في دوار. لا نتبارك فيه العيد بل نعزي بعضنا البعض. وجاء عيد الأضحى أكثر كآبة.
أذكر أن حراس المعتقل سمحوا لنا ليلة العيد بالمبيت في ساحة المعتقل عوض الغرف. كان الجو حارا، فالعيد تزامن مع أواخر يوليوز. حملت فراشي نحو الساحة واتكأت أتأمل القمر في السماء الصافية، تماما كما كان يسطع في قريتي البعيدة. أفكر في أمي التي لم ترني منذ إحدى عشر سنة، أعرف أنها لا تنتظر عيدا كي تتذكرني..
لاشك أن دمعة كبيرة الآن قد انفلتت منها وتدحرجت على خدها، تمسحها بطرف ثوبها وتواصل الحياة.
غدا هو العيد الكبير، “تَافَاسْكَا” بلغة قومي. كل المسافرين من أبناء الأرياف الذين يشتغلون في البناء والبستنة والأعمال الشاقة في المدن البعيدة قد عادوا إلى أعشاشهم على مثن حافلات مهترئة، وحده عْدّي ـ ابنها ـ لم يعد.
للمرة العاشرة انتظرته أن يأتي دون أن تفقد الأمل، لعله يأتي ليذبح الخروف بنفسه ويشاركها الفرحة المؤجلة..
في السنوات الأولى التي تلت اختفائي وإن أخبروها مرارا أني توفيت، واستقبلت مرارا جحافل المعزّين في بيتها وأطعمتهم الكسكس وطعام العزاء، فإن صوتا داخليا ما زال يوسوس لها بأني ما أزال على قيد الحياة وإن لم أكن على قيد الحرية.. وكم مرة تراءت لها ملامحي من بعيد، كلما رأت رجلا طويلا يحمل حقيبة، تهرول ناحيته لعله يكون أنا، وعندما تكون منه قاب قوسين أو أدنى تنجلي الملامح وتتأكد أنها كانت تطارد خيط دخان..
تأزمت نفسيتي بعد تلك الليلة، بعد أن غرقت في تذكراتي، والمصائب لا تأتي فرادى. قاموا بعد أيام بتغير كل الحراس والسجانين. أفهموهم أننا لسنا أسرى حرب، بل إرهابيون تم القبض عليهم داخل الأراضي الجزائرية، وأننا اخترقنا حدودهم لتنفيذ عمليات هجومية. حتى الذين يتم نقلهم للاستشفاء في مستشفيات البلد يكتبون في ملفاتهم ذلك.
ساءت الأوضاع أكثر، كلما وقع سوء تفاهم بين أسيرين ولو نقاشا بسيطا، يأخدانهما معا للساحة ويضربانهما معا دون أن يتساءل السجّان: من الظالم ومن المظلوم؟
فكرنا في تنفيذ إضراب عن الطعام كما كنا نفعل من ذي قبل، لكنه لم يعد يؤتي أُكله. أفهمناهم بعد أن يئس الكثير منا أننا لا نطالبهم بتحريرنا أو تزويجنا، هذه أمور ليست بأيديهم وتحتاج قرارا سياسيا من أعلى سلطة في البلد. ما نريده الآن أن ننعم بطعام لائق، وشراب نقي، وتطبيب مستعجل والعيش في بيئة سليمة. لكن ردهم يكون صادما:
ـ أنتم ارهابيون جئتم لتخريب بلدنا، أما الأسرى فقد تمت مبادلتهم مع المغرب ولم يتبق هنا أسير واحد.
رباه من نكون نحن إذا لم نكن أسرى؟ لكن لمن تشرح وضعك، فالسجّان عبد مأمور، ولا يمكن بأي حال أن يصدق روايتنا ويكذب رواية رؤسائه.
عندما تقلد بوضياف مقاليد الحكم استبشرنا خيرا. يستحيل لرجل ذاق ويلات السجن أيام الاستعمار وبعد استقلال الجزائر وعاش ردفا من الزمن في المغرب ألا يحس بمعاناتنا، نحن الذين نفني زهرة شبابنا بين حيطان غرف سجن بوغار.
ربما قد يأتي الخلاص. سمعناه في خطاب يقول أنه خلال شهرين لن يبقى أجنبي واحد في الجزائر، لكن وضعيتنا لم تسوّى رغم ذلك. الضباط وضباط الصف والجنود الذين يزوروننا مباشرة بعد حكم بوضياف كانت لهم نظرة أخرى وتعامل قاس. كانوا يتحدثون عن بوضياف الرئيس بنوع من الازدراء، يقولون لنا بأن ملككم أصبح بقدرة قادر يتحكم في الجزائر. يقولون ذلك لأن الرئيس الجزائري قضى فترة مهمة بالمغرب، إذ كان يدير مصنعا للآجر بمدينة القنيطرة، وعلاقاته جيدة بالمغرب. وطوال الـمئة وستة وستون يوما التي قضاها محمد بوضياف رئيسا للجزائر لم تتغير أحوالنا للأحسن، بل ساءت.
لما بلغنا خبر اغتياله من طرف أحد حراسه الشخصيين في عنابة آواخر يونيو من سنة 1992، شعر الكثير منا باليأس، كمدمن قمار خسر ثروته ولعب بآخر ورقة له..
فكرة الهرب لا تغادر ذهن أي سجين، قد لا يحاول الهرب واقعيا لخوفه من القتل من حراس يقتلون الواحد كما لو داسوا على نملة، لكن الفكرة لا تغادر مخيلته، فعندما يخلو إلى نفسه يكتب سيناريوهات هربٍ في خاطره، كلها تكلل بالنجاح. يمنحه ذلك بعض الأمل، رغم أن الأمل الزائد في التحرر يؤدي بصاحبه للهلاك. أغلب من جنّ في السجون هم أشخاص تناولوا جرعات زائدة من دواء اسمه الأمل.
انتحر أسيران بعد تلك الأيام، طوال هذه المدة توفيّ أربعة وثلاثون شخصا بأمراض مختلفة بمعتقل بوغار، وعلمت فيما بعد أنه توفي داخل المعتقلات كلها أزيد من 1448 سجينا.
تمر الأيام رتيبة بلا طعم، متشَابهة كبدلات العسكريين، إذ لا يميز أيامنا سوى أنين أسير أو موته.
نهاية 1993و بداية94 بدأت المنظمات بالمغرب وخارجه تتحدث عن الأسرى المغاربة القابعين في سجون الجزائر. عرفت فيما بعد أن المغرب أخبر منظمة الصليب الأحمر بوجود أسرى مغاربة في قاعدة بوغار. وأن منظمة الصليب هاته، قد زارت عدة مرات نواحي هذه القاعدة العسكرية حيث نقيم نحن كأسرى، لكن سلطات الجزائر كانت لا تسمح لهم بالدخول، وتخبرهم أن هذه قاعدة عسكرية تجرى فيها التداريب وسكن العسكر والأسلحة والعتاد والذخيرة، ولا يسمح لأي كان ولوجها.
مباشرة بعد تلك المحاولات قامت سلطات المعتقل بأمر من الأعلى بعزل المقبوض عليهم في الحدود عن المقبوض عليهم في المعارك. جعلت هذه الفئة الأخيرة في معتقل صغير آخر، ثم قرروا إعادتنا إلى تيندوف، كان ذلك صباح 30 غشت من سنة 1994.
أخبرونا أن تيندوف ستكون مجرد محطة استراحة، لأننا سننال حريتنا أخيرا. تركنا كلّ ملابسنا القديمة هناك كما أمرونا، لم نأخذ سوى ما ما حملته أجسادنا من ملابس؛ قميص وسروال.
لم نكن لنصدّق هذا الادعاء الكاذب بأننا سنتحرر أخيرا، لم تكن الأجواء ملائمة لأي إفراج، فالعلاقات المغربية الجزائرية متوثرة بعد مقتل بوضياف، واسبانيا تميل جهة الجزائر في ذلك الوقت. مع ذلك فقد حاولنا تصديق هذه الكذبة اللذيذة، فهي تجعلنا نعيش وهم التحرر من ذل الأسر ولو في تخيلاتنا! سأذهب إلي بلدتي “النقوب” بعد 18 سنة من الغياب.
وكما توقعنا.. سلمونا من جديد للإنفصاليين بتندوف.
كانت غايتهم من إيهامنا بنيل حريتنا تأمين الطريق، حتى لايفكر أحدنا في الهرب أو الإنتحار. أغلبنا لم يصدق أننا سننال الحرية، ونعود إلى قرانا المنسية. فئة قليلة منا صدّقت ذلك. أذكر أن عددنا كان 209، لكن سلطات المعتقل أخذت أسيرين منّا وضمتهما إلى مجموعة الأسرى المقبوض عليهم في الحدود. ولم تشفع لهما شهادتنا بأنهما معنا منذ البداية. احتجا وصرخا، لكن السجّان عزلهما عنّا، وانطلقنا بدونهما. لنكون بذلك قد تركنا في محبس قاعدة بوغار أربعة وخمسون أسيرا مغربيا. سأعرف فيما بعد أن الله أراد بهما خيرا، إذ رغم ما لحقهما من حيف وقتها، واعتقاد الكثير منا أننا سنتحرر وهما سيبقيان هناك مع أصحاب الحدود، فإن العكس هو الذي حدث. فقد أطلق سراحهما في دجنبر من سنة 95، بينما بقينا نحن ننتظر الفرج خمس سنوات إضافية.
تم تكديس مائتان وسبعة أسيرا كالخرفان في شاحنات عسكرية. لا أذكر عددها بالضبط، لكن المسافة المقطوعة لم تكن طويلة جدا، إذ وصلنا مطارا عسكريا فتوقفت الشاحنات وأنزلونا. يوجد ذلك المطار العسكري في قاعدة يسمونها عين وسارة، هناك صعدنا الطائرة التي أقلّتنا نحو تيندوف.
حطت الطائرة في أرض خلاء اتخدوها مطارا في ظهر الحمادة. كان الجو حارا، رياح الشرقي تلفح الوجوه. وجدنا هناك أربع شاحنات عسكرية جزائرية، لم نسترح ولو دقيقة، ركبنا تلك الشاحنات في اتجاه واد تتشابك فيه أشجار الطلح. نفر من عساكر الپوليزاريو في انتظارنا في ذلك المكان، كانوا يعدون الشاي تحت شجرة طلح . نزلنا من تلك الشاحنات واتخذنا صفا طويلا كما أمرونا أن نفعل.
سمعت المسؤول الجزائري يقول لمسؤول البوليزاريو:
ـ نُوض حْسْب كْلابْك..
نهض وبدأ يعُدّ الأسرى. تبددت أحلام الذين صدقوا أننا بصدد العودة إلى الديار. استبدلت الحراسة الجزائرية بحراسة الپوليزاريو، ولأول مرة في حياتي فكرت في الانتحار. رأيت صهريج وقود لا يبعد عنا كثيرا، فكرت أن آخذ شعلة من النار التي يعدون بها الشاي تحت الشجرة وأركض نحو الصهريج لأتخلص من هذا الذل. اقتربت من خزان الوقود فتعقبني حارس. ادعيت أني أرغب في التبول، لكنه بقي لصيقا بي، وأعادني لمجموعتي.
بعد أن غربت الشمس صعدنا إلى الشاحنات في اتجاه واد عوينت بالكرع، به مخيم يسمونه مخيم الداخلة، يبعد عن الرابوني ب195 كيلومتر في الجنوب الشرقي لتندوف.
وصلنا قبيل الفجر مشارف المخيم الذي نتغياه، وقفنا في انتظار شروق الشمس، ولم يسمح لنا بالنزول لقضاء حاجاتنا الطبيعية.
في المخيم معتقَلَين إثنين، واحد أصغر مساحة يأوي سجناء تم أسرهم في السنوات المتأخرة في الصحراء، وآخر أكبر يضم مؤنا وذخيرة وعتادا عسكريا. قرروا افراغه بعد مجيئنا ليكون سجنا لنا نحن الـ207 أسيرا القادمين من الجزائر.
قضينا اليوم كله دون طعام في انتظار أن يجدوا لنا مكانا لنسجن فيه! حتى غربت شمس اليوم الموالي اقتادونا كقطيع أغنام نحو حوض ماء يوجد في أرض فلاحية يحرثها الأسرى، أمرونا أن نشرب من الحوض ونغتسل منه. شربنا من الحوض المالح ثم عدنا نحو ما يسمونه “المركز”.
في الليل تناولنا وجبة طعام من الأرز، ثم تكدسنا بعد ذلك للنوم دون أغطية ولا فراش ولا ملابس سوى القطعتين اللتان تحملهما أجسادنا. ولم يوزعوا علينا غطاءً واحد لكل أسير حتى قضينا أربعة أيام في ضيافتهم، تحت ذريعة استكمال الاجراءَات الإدارية. أما تلك الملابس التي جئنا بها من الجزائر فإننا لم ننل غيرها حتى مرت علينا شهرين في تيندوف، أي بعدما سمعوا أن منظمة دولية ستزورنا، وقتها وزعوا علينا لباسا عسكريا يشبه اللباس العسكري الجزائري.
في اليوم الرابع من وصولنا هذا المكان، أيقظونا فجرا وتم توزيعنا إلى مجموعات كثيرة وتحديد مهام كل مجموعة؛ مجموعة للقيام بأعمال الفلاحة، أخرى للقيام بأعمال حفر الآبار والخنادق، وأخرى بأعمال البناء، تنظيف المخيم، صناعة الياجور، شحن وتفريغ الشاحنات، مساعدات الموظفين في الشرطة والمكاتب والإدارات وغير ذلك.
منتصف شهر نونبر من سنة 1994، زارنا نشطاء من منظمة الصليب الأحمر الدولي. كانت سلطات المعتقل على علم بمجيئهم لذلك وزعت علينا ملابس عسكرية جديدة. كانت فرحة هؤلاء النشطاء وهم يصافحوننا ويجالسوننا فرحة كبيرة، ربما أكبر من فرحتنا بقدومهم، شعروا أنهم اكتشفوا شيئا عجيبا، وأنهم حققوا نصرا كبيرا بولوج هذا المعتقل السري بعد محاولات عديدة باءت بالفشل.
ولجوا المعتقل في تمام التاسعة صباحا، جالسونا، حكينا لهم عن معاناتنا كما لو كنّا نحكيها لأقربائنا. كيتيم وجد أخيرا صدرا ليضع عليه رأسه ويبكي. التقطوا لنا صورا فردية وجماعية. سجلوا معلوماتنا وكل ما يتعلق بنا. أخبرناهم أيضا بأن لنا إخوة عددهم 54 رجلا، يقبعون في معتقل سري بقاعدة بوغار بالجزائر. وصفنا لهم المكان من الداخل والخارج، وبكم يبعد عن هذه المنطقة وتلك.
خلال اليوم ونصف اليوم الذي قضاه معنا نشطاء تلك المنظمة، شعرنا بأننا قريبا سنلتحق بأُسرنا، وأن الخلاص لا محالة سيأتي على يد هؤلاء الذين نذروا حياتهم لخدمة الأسرى والمساجين. خلال تلك الزيارة التي نعمنا بها بعد 18 سنة من الأسر، طُلِبَ منّا أن نكتب رسالة بسيطة لأهلنا، رسالة فيها فقط إخبار بالحياة. لكن لمن سنكتب هذه الرسائل، لقد اقترب الكثير منا من قضاء عقدين من الزمن في المعتقلات، ولا شك أن الكثير من أهلنا ماتوا، ومن لم يمت فقد رحل نحو وجهة ما، فأي عنوان سنكتبه على المظروف؟ ومن هذا “المرسل إليه” الذي مازال حيا كل هذه المدة لكي نكتب له؟ أصعب أنواع الرسائل تلك التي تكتبها لشخص لست متأكدا أنه الذي سيقرؤها، تكتب أحاسيسك المخزونة طيلة عقدين من الزمن، وفي الأخير تُقامر بها في رسالة قد تصل وقد لا تصل، وإذا وصلت تتقاذفها الأيدي كجمرة متقدة إلى أن تسقط أرضا وتنطفئ. الرسائل التي تصلنا في القرى المنسية يوزعها البريد على القيادات، ويقوم المقدمون بتوزيعها على أصحابها في الدواوير، ويحدث كثيرا أن تبقى الرسالة في حقيبة المقدم لشهور إلى أن يتخلص منها كطعام فاسد. حتى بعد أن تقنع نفسك أن لرسالتك قارئ ما، فماذا سنكتب في تلك الرسالة؟ جمل مستعملة من قبيل “نحن بخير وعلى خير ولا ينقصنا سوى النظر في وجهكم العزيز”؟ أم نبدأ الحكاية من الألف إلى الياء، ونقصص عليهم مآسينا؟
لكنهم أصروا أن تكون الرسالة قصيرة، لا تتضمن سوى إخبارا بمواصلة الحياة، ووعد بالعودة عندما تسمح الظروف الدولية المعقدة. لا تتجاوز عدد سطور المطبوع الذي وزعوه علينا والمراد تعبئته، أتكفي خمسة أسطر للتعبير عن مشاعر ثمانية عشر سنة من القهر؟
مع ذلك سنكتب، سنكتب بِنية أن لرسائلنا قارئا ما، سنكتب على الأقل لأهلنا بأننا ما نزال أحياء.
بعد أن غادر نشطاء الصليب الأحمر الدولي المعتقل الذي نتواجد به، قامت سلطاته بإعادة توزيعنا لمزاولة الأعمال التي تعود عليهم بالنفع.
إلى جانب المجموعات التي تم ذكرها، تم تشكيل مجموعات أخرى لصناعة الفحم وأخرى لجلب نبات الحلفاء وصناعة الحصائر منه. حتى جمع فضلات أجسامهم كلفوا به مجموعة من الأسرى، ويفرضون أن يتم جمعها بالأيدي وهم يسخرون منا:
ـ اجمعوه بأيديكم، ذاك هو فسفاط بوكراع وحوت واد الذهب.
كنت أنا ضمن الذين بقوا في مخيم الدخلة بعوينة بوكراع، نزاول كل ما يطلبونه من خدمات.
ذات يوم جاء رجل أوروبي لا أتذكر جنسيته، كان مكلفا بحفر الآبار وبنائها بالاسمنت والحديد. وجاء هذه المرة لتفقد الأشغال ومراقبتها.
نزل إلى البئر فانهارت عليه، ولم يظهر سوى رأسه. هرب كل رجال البوليزاريو الذين كانوا معه، ولم يتبقّ سوى الأسرى المغاربة، بدأوا يحفرون طويلا لانقاذ حياته، وقد استطاعوا انتشاله حيّا. بعد ذلك قدمت له سلطات المعتقل بعض المساعدة الطبية، وبقي ممددا ليوم كامل، وفي الصباح لما عاد إليه وعيه، طلب لقاء الرجال الذين أنقذوا حياته من الموت. وقتها انفرد به الأسرى قالوا له:
ـ نحن لسنا عمالا وإن كنت تدفع لسلطات المخيم أجورنا فهي لا تصلنا، نحن أسرى مغاربة، تم القبض علينا في معارك وكمائن، وعندما انهارت عليك البئر الرملية فرّوا هاربين، ولم ينقذك غيرنا.
في المساء أخبر سلطات المخيم أنه سيسافر لبلاده ليجلب المعدات اللازمة للحفر الآمن في الرمل، ومن وقتها لم يعد.
منتصف شهر مارس من سنة 1995، عاد نشطاء الصليب الأحمر الدولي، جاؤوا وهم يحملون إلينا رسائل من الأهل والأحبة. رسائل وأخبار تصلنا دفعة واحدة بعد 19 سنة من الغياب. وكم تمنّى العديد من زملائي الأسرى لو لم تصلهم تلك الرسائل، فقد مزقوا تلك الأظرفة في شوق، لكن الأخبار كانت صادمة للعديد من رفاقي ومفرحة للبعض منّا أيضا..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *