مجتمع

المسجد الأعظم بتارودانت : صرح حضاري شاهد على مكانة بيوت الله عند المغاربة

ظل المسجد الأعظم بمدينة تارودانت خلال قرون متتالية معلمة حضارية ذات وظائف متعددة ،لم يقتصر وقعها على الصعيد المحلي ولا حتى الوطني ، بل امتد تأثير هذا الصرح الحضاري الشامخ عبر حلقات تاريخه المتتالية ليشمل أصقاع مختلفة امتدت لتغطي جزء هاما من محيط الرقعة الجغرافية العربية ، إلى جانب ما يعرف في الأدبيات التاريخية ببلاد السودان.
فالمسجد الأعظم ، أو “الجامع الكبير” كما دأب أهل تارودانت على تسميته ، لم يكن مجرد بناية تقام فيها الصلوات الخمس ، ويرتل فيها القرآن الكريم ، ويتعلم فيها الافراد شؤون الدين والقراءة والكتابة… ، بل كانت هذه المعلمة الحضارية الشامخة خلال قرون مضت ، فضلا عما سبقت الإشارة إليه ، عبارة عن مؤسسة جامعية لتلقين مختلف التخصصات الأدبية والعلمية ، حيث كان يشرف على الحلقات الدراسية بالمسجد صفوة العلماء المرموقين من داخل المغرب وخارجه ، كما كان يفد عليه طلبة العلم من الداخل والخارج.
هذا الجامع ، الذي بلغ أوج إشعاعه الحضاري إبان فترة حكم الدولة السعدية ، التي اتخذت من مدينة تارودانت عاصمة ملكها لفترة محددة سميت خلالها مدينة تارودانت ب”المحمدية” نسبة إلى السلطان محمد الشيخ السعدي ، كان ايضا عبارة عن “مؤسسة تشريعية ” لسن القوانين وتنظيم شؤون والمعاملات ، وبورصة لعقد الصفقات ، كما كان بمثابة أكاديمية عسكرية لحشد همم المجاهدين ومواجهة الغزاة المحتلين للثغور الشاطئية المغربية .
لا يعرف بالتحديد التاريخ الذي بنى فيه المسجد الأعظم لتارودانت، الذي تشير الابحاث التاريخية إلى أن فوق منبره كانت تقرأ الظهائر السلطانية وبين منبره ومحرابه تؤخذ البيعة ويعقد الصلح . لكن المؤكد أنه شيد قبل زمن الدولة السعدية ، ومما يدل على ذلك أن مؤرخي هذه الفترة الزمنية من تاريخ المغرب في العصر الوسيط كانوا يصفونه ب”المسجد العتيق ” .
وسار في هذا الاتجاه المؤرخ العلامة الراحل محمد المختار السوسي الذي تحدث عن المسجد الأعظم في الجزء الرابع من مؤلفه المرجعي “خلال جزولة ” حيث قال ” … الجامع الكبير العتيق ، وهو قديم وإنما جدده محمد الشيخ ، حيث أعاد العمارة إلى هذه المدينة في القرن العاشر ، وهو كبير وعليه طلاوة . ويبدو أن تاريخ بناءه يعود إلى عهد الدولة الموحدية . ويؤيد ذلك شكل صومعته المربعة القاعدة ، وانسجام نسبة طول قاعدتها 5,50 م إلى ارتفاعها (27م) ، مع المبدأ الموحدي في التناسب ، وانحراف قبلته إلى الجنوب “.
وتفيد الابحاث التاريخية أنه خلال فترة حكم الدولة السعدية ، ألحقت بالمسجد مدرسة كان المتفوقون والنوابغ من طلبتها وخريجيها يتولون المناصب العليا في الدولة . كما ألحقت بهذه المدرسة مكتبة الجامع التي كانت تضم العديد من نفائس المخطوطات التي قام بتحبيسها الملوك السعديين والعلويين ، حيث لازالت الحوالة الحبسية الرودانية تتضمن بعضا من جداول هذه الكتب المحبسة.

خضع هذا “الجامع الكبير ” عبر التاريخ لعمليات توسيع وترميم عديدة أجريت أكبرها في عهد السعديين والعلويين . وفي هذا الصدد يقول الباحث محمد العدناني إن السلطان محمد الشيخ السعدي جدد الجامع ووسعه على النمط الذي هو عليه الآن ، حين أعاد العمارة إلى مدينة تارودانت في القرن العاشر الهجري.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *