ثقافة وفن

على طريقته..الفرياضي يكتب: أسود الأطلس..فخر العرب

انْتَبَذْتُ في مقهاي الأثير مكانا قَصِيّاً. ناوَلَني النادل بِنْتَ البُنِّ، كدأبي في الأيام الخوالي، ثم دَلَفْتُ من هاتفي المحمول، نحو مَحْشَرِ الأمم. لا صوت يعلو في أزقة المَحْشَر وساحاته، فوق زَئير “أُسُود الأطلس”، وهو يزلزل – مُزَمْجِراً – سكون مَفَاوِز “كَتَارَا”.
قرأت في حيطان المَحْشَر العظيم، أن “أُسُودَ الأطلس” قد أطفأوا، بنفخة واحدة، سعير “النَّارِيِّين”، وكذلك أبطلوا طلاسيم “الشياطين الحُمْرِ”، وأرغموا “حُمْراً” آخرين، على العودة إلى شمالهم الأبيض، حيث “هوكي الجليد”.
قرأت أيضا، من بين ما قرأت، أن “الأُسُودَ” افترست “مُصارعي الثيران”، والتهمت “ڤَاسْكُو دِي ڭَامَا” و”مَاجِلَّان”، ورغم ذلك ما زالت تتضور جوعا. قيل لي إنها على أُهْبة الوُثوب على “دِيَكَة” زرقاء من بلاد “الغَال”، لتطبُخَ لهم بها الإلهة “تانيت”، وجبة “الرّْفِيسَة”، أكلة الأسلاف الغابرين.
وجدت الناس في المَحْشَرِ، شِيَعًا وأحزابًا، وقد أَبَوْا أن يجتمعوا على قلب رجل واحد. فَفَريقاً أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، يرقص انتشاءً بفوز الأُسُود، وَفَرِيقاً أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، يَنْتَحِبُ لاطماً للخُدُودِ.
لم يفزعني هذا الاختلاف الفادح، فتلك سُنَّة الله في خلقه، ولن أجد لسنة الله تبديلا. ما أفزعني وأرعبني حقا، أن يجد الأُسُود أنفسهم، وهم في غمرة الاحتفال، قد تنازعتهم الأعراق، والملل، والنحل.
كنت أطوي الأَحْقَافَ والكُثْبان، في فَلاة الرُّبْع الخالي، حتى أدْرَكتْني الهاجِرَة، وأخذ مني الظَّمَأُ مأخذه، وأنا قرب مَضَارِبِ بعض الأعراب. أَلْفَيْتُهُم مختلفين، كَدَأْبِهِم، طَرائِقَ قِدَداً. ألقيت السلام، وجلست أنصت لما يدور بينهم من حديث. سمعت شيخا، كَست رغوة الشباب رأسه، يقول لأخويه: “إن أُسُود الأطلس لُيُوثٌ من عَرِين جدي عدنان”. لم يكد العجوز يفرغ من كلامه، حتى تَوَرَّمَ أنف أخيه الأوسط، وانتفخت أوداجه، لينتفض بعدها في وجهه غاضبا: “بل هم من آجَامِ جدي قَحْطَانَ”. أخوهما الأصغر، هو الوحيد الذي بدا لي – رغم حداثة سنه – أعقل ثلاثتهما. فقد لاذ بالصمت طويلا، ونأى بنفسه عن الخوض، في ما هما فيه خَائِضَان من الُبهتان، حتى إذا ما استنطقاه قال: “الحق أن أسود الأطس من أرض جدي كنعان”.
فجأة لَجَّ الإخوة في الخصام، وأشهر كل منهم في وجه أخيه حُسامه، حتى خلتني، سأشهد لا محالة، دَاحِساً جديدة، أو بَسُوساً مُعادةً. انتصبت من مكاني واقفا، وأنا الذي أنهكني السير طويلا على رمال متحركة، وأنشدت فيهم:
قلتم عنَّا:
لُقطاء كَنْعان، وقَحْطان، أو من نسل عَدنانَ
وقال عنَّا الإِفْرَنْجُ:
لُقطاء رومان، وجِرمان، أو وسُفَحَاء يونانَ
ثم سجلتم جميعا..
في بطائق هويتنا .. وطنا بدون عنوانَ
————-
أسلافنا لُيُوثُ العَرين خُلَّصاَ من نسل “أطلسَ”
ما انتسبوا يوما لِـ”حِمْيَر” و”مُضَرَ،” أو “عبسَ”
لم تنجبهم “دِيدُونَ”، وما فَطَمَتْهم “هِيرَا زِيُوسَ”
سَقَوْا “آريسَ” كَأسَ الْمَوْتِ، وما ابتهلوا إلى “باخوسَ”
————-
سَلُوا هدهد سليمان يخبركم، أَنَّا بَراءٌ من سَبَإ “بلقيسَ”
سَلُوا “شيشْناق” كيف خَرَّ لنا سُجَّدًا، فراعنة “رمْسيسَ”
سَلُوا “أفلاطون” كيف اغترف الحكمة من معين “أرِسْتَبُوسَ”
سَلُوا “المسيح” عن دَيْن في عُنُقه لــ”سَمْعان”، و”آريوسَ”
سَلُوا “الأحْنافَ” عن “ابن رشد” و”سَحْنون” و”قَرْوِيِي فاسَ”
————-
لكننا أفلسنا وأَهْرَقْنا حليب “الكاهنة” على مقصلة القداسةِ
وأحطنا مَرَاقد “بُوكُوسَ”، و”يُوبَا”، و”بَاڭَا” بكلاب الحراسةِ
فَمَرَّغْتُم مَراسِنَنا في وَحْلِ الذِلَّةٌ، وخَضَّبْتُمُونا بالنجاسةِ
ثم صِرتُم تَسُوقُونَنا من الأعْناق إلى أسواق النخاسةِ

عبدالله الفرياضي: كاتب وروائي وأستاذ الفلسفة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *