آراء | متابعات

عمر حلي يكتب: هل يسير العالم نحو الديموقراتورية؟

تعني الثورات ارتطام جبهة بجهة أخرى ورفع التحدي إلى حين إحداث تغيير في موازين القوى وفي الإمساك بمقود الحكم. منذ الثورات القديمة إلى الثورة الفرنسية التي ظلت تعتبر نموذجا للثورات الحديثة. إلى العديد من هزات نظام الديموقراطية الذي يعني التناوب على السلطة بالاحتكام إلى انتخابات. وعلى الرغم من كون نسب المشاركة تختلف من بلد الى بلد، ومن نظام إلى نظام. وعلى الرغم من أن الأغلبية أينما كانت قد تسير في اختيارات تُضر بالمعارضة وبفئات من المجتمع، فإن مبدأ التداول ظل يقدم نفسه باعتباره الحل التوافقي الذي به يمكن أن تسير عليه الأشياء.
كذلك سارت الأمور في الغرب الذي عمّم التجربة ليتمثلها الشرق وٱسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية. وقد اعتمدت بالطبع شيئا فشيئا، وبصعوبات ناجمة عن النظام المعتمد في البلد حينا وعن احترام اللعبة الديموقراطية أحيانا أخرى. و هذا ما يفسر كيف أن المراقبين الدوليين يسجلون حضورا كبيرا في العديد من الاستحقاقات لتبيٌُن ما إذا كانت تتطابق مع النموذج الغربي أم لا.
غير أن السنوات الأخيرة أصبحت تحمل معها تغييرات مست ذلك النموذج الغربي نفسه. إذ  تغيرت الخطابات السياسية بصعود اليمين واليمين المتطرف تخلت تلك الديمقراطيات عن العديد من أسسها الفكرية “الليبرالية”، وبات من المألوف أن يتغنى المرشحون بضرورة محاربة المهاجرين، مثلا، والوقوف دون احترام حقوقهم؛ كما أصبح من الشائع السعي إلى اعتماد خطاب يدعم الحرب هنا وهناك، ويميز بين الأضرار الناجمة عنها، لا بناء على مبادئ الثورات السابقة، بل باعتماد تمييز يجعل الشعوب منقسمة إلى شعوب تستحق العقاب وأخرى في منٱى عن كل الأضرار.
هذا ما اتضح على الأقل بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وما استتبعته من اصطفاف يقوم على خطابات تمييزية. ولطالما عاد نقاش الحروب الأخرى السابقة التي دارت رحاها في بقاع جغرافية أبعد، وعاد دت معها المقارنات.
واليوم أصبحنا نلمس أثر هذه التطورات في المفاهيم و الخطابات على مستوى الممارسات الداخلية لأعتى الديمقراطيات التي يبدو أنها تأثرت بنتائج عولمة متوحشة أكثر من تأثرها بمسار  التطور المنطقي لما كانت عليه الأنظمة الديموقراطية نفسها. وسنرى في أوربا، مثلا، كيف أن هناك تصاعدا للعنف المعبّر عنه في قبة البرلمانات وفي الشارع كذلك. وإن كان البرلمانيون لا ينزلون حتما لمشاركة النقابات وعامة الناس احتجاجاتهم المتصاعدة.
ففي فرنسا، مثلا، كان هناك صخب كبير في جلسات البرلمان التي استنفدت المساطر كلها وضاق بها زمن النقاش إلى حد دفع دفعا إلى تسارع نحو لجوء 49.3 من طرف الحكومة، ثم لجوء البرلمان إلى ملتمس رقابة رُفض. وإبان ذلك كان الشارع قد أصبح مسرحا لاحتجاجات عارمة بدأت بالمطالبة بالتخلي عن نظام التقاعد المقترح وانتهت برفع سقف المطالب إلى حد المطالبة باستقالة رئيس الجمهورية ورئيسة الحكومة وغير ذلك..
وفي ظل ذلك كله، يبدو أن النقاش فتح في الأخير حول الديموقراطية وأسسها، وحول ممارسة العنف في وجه المتظاهرين، وأصبح المتتبع أمام نقاشات تدافع فيها الأطراف عن مواقفها ضمن ثنائية العنف والعنف المضاد. وفي خضم ذلك اهتزت صورة فرنسا التي اعتمدت دوما دور المعلّم الذي يقدم الدروس حول احترام حقوق الإنسان واحترام مبادئ الثورة التي اعتمدتها الجمهورية.
هذا مثال فقط لما نتابعه اليوم في دول غربية أخرى تشتد فيها النقاش ويحتد وتزداد فيها الأزمة الاجتماعية سوءا لتثبيت النار على كل ردود فعل محتملة وإن كانت تعلنها هيئات منظمة. لأن النقاش في فرنسا، مثلا، لا يشير بأصابع الاتهام إلى النقابات المنظمة، كي لا يقطع معها شعرة معاوية، وكي لا يزيد من عنفوان احتجاجاتها،  بل يشير أساسا إلى البلاك بلوك، أصحاب البذل السوداء، الذين يشار كذلك بأنهم نازحون من دولة أخرى.
ولكن بعد ذلك كله، تكون صمامات الأمان الكلاسيكية قد اهترأت وتلاشت معها العديد من ركائز خطاب الديموقراطية وما تبقى من أسس خطاب الثورات.  وهكذا تكون العولمة المتوحشة قد أتت على التوازن الاجتماعي وقوّضت دور الطبقة المتوسطة ورفعت من جشع الرأسمال الذي لم يجد بدا من الإجهاز على حقوق مكتسبة منذ قرون. فهل يسير العالم نحو الديموقراتورية؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *