ثقافة وفن

عمر حلي يكتب: إحراق الكتاب، حبل التطرف قصير

الحدث يبدو معزولا في ظاهره، غير أنه يخفي اسئلة متشابكة وتواريخ صامتة لكتابة الكراهية والعنصرية. ففي الوقت الذي يعتبر فيه العديد من المتابعين أن دولاً مثل دول أوربا الشمالية دول نماء وتسامح، تنأى بنفسها عن الدخول في الصراعات التي تدور رحاها غير بعيد عنها، وفي الوقت الذي تجعل تلك الدول من نفسها نموذج استقرار وتحضر، بقدر ما تفسح المجال لانفلاتات تضر بها، أكثر مما تضر بمن يريد البعض الإساءة إليهم.
وكلما طفا على السطح حدث أرعن، مثل حرق الكتاب، كلما شكك الناس والرأي العام المسلم. وغير المسلم، في خطابات التسامح واحترام الاختلاف والتعايش الذي يتبجح به بعض القادة او تروج له بعض الدول، التي يتضح أن بعضها مثل نمر الورق الذي لا يستطيع الذود عن نفسه فبالأحرى الدفاع عن الٱخرين.
ولا يمكن بالطبع أن نعزل مثل هذه التصرفات عن تنامي التطرف وزحف اليمين المتطرف في العديد من دول الشمال، مع ما يستتبعه ذلك من انفلات قيمي وانسداد لٱفاق الحوار الحضاري واجتثات لجذور التحضر بمعناه الأكمل.
وفي السويد تحديدا، لا يحب ان ننسى أن نسبة تأييد تكتل اليمين الذي يضم “ديموقراطيي السويد” وحزب المعتدلين (محافظ) والحزب المسيحي الديموقراطي والحزب الليبرالي، قد تراوحت بين 47.6% و49.4%، أي ما يقارب النصف في الانتخابات التي جرت سنة 2022. وهو أمر لا يعني التناوب على السلطة فقط، بل يحمل معه تغييرات في سُلمية القيم التي سيتم تدويرها وإعادة تشكيلها لصالح فكر قوامه الانغلاق وإشاعة الكراهية تجاه المهاجرين الذين يعتبرهم هذا الائتلاف سببا في الأزمة التي استجدت وأصبحت ٱثارها بينة في المجتمع السويدي؛ وبذلك سيفتح هذا اليمين نوافذ للإضرار الرمزي بهؤلاء المهاجرين من خلال المساس بما يؤمنون به، وبما يحملونه معهم من ثقافة ودين، على اعتبار أن هذه الطرق هي الأقل تكلفة بالنسبة لحاملي شعارات العداء التي معاولها الهدم.
فقد باتت قلعة الديموقراطية الاجتماعية من الماضي، في هذه الدول، وأخذ الفكر المتطرف مواقع أمامية، بعدما تدرج منذ مطلع العقد الأخير من القرن العشرين، بل قبله بقليل، حيث ولد حزب الديمقراطيين القومي المعارض للهجرة من رحم الحركة النازية الجديدة منذ ثمانينيات القرن الماضي.
واليوم، نشهد تجسيدات لهذا الفكر المتطرف، من خلال هذه الانزلاقات الماسة في الواقع بالحرية، والمزعزعة لمبادئها. وكلما ضاق الأفق، بحث النازيون الجدد عمن ينفذ لهم مثل هذه الخرجات البئيسة التي هي في الواقع كاريكاتور مخز لمن يُقدم عليها، لأنها تفضح اعوجاج الفكر كما تعري العمى الثقافي، والقطيعة مع اسس الحوار الحضاري الممكن والواجب بين الشعوب، فرادى وجماعات.
وفي الأخير، لا بد من ان نسجل النتائج العكسية التي تنتج عن مثل هذه الأفعال، إذ تجعل الناس يلتفون أكثر حول قيمهم، وتجعل صورة الإرهاب تغير عقاربها لتدين من يعبرون اليوم حقا عن الفكر المتطرف ويجسدونه، بعدما كان أسهل أن يلصق بالٱخرين؛ إذ عبرت العديد من الدول والمنظمات عن شجبها لهذا الفعل المتمثل في إحراق القرٱن. ويمكن ان نمثل لذلك بموقف المغرب الذي استدعى، حسب ما نشر في الإعلام، القائم بأعمال السويد بالرباط، إلى مقر وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، كما قرر استدعاء سفير المملكة بالسويد للتشاور لأجل غير مسمى، وذلك بتعليمات من الملك محمد السادس.
كما أدان الممثل السامي لتحالف الحضارات التابع للأمم المتحدة، ميغيل موراتينوس، حرق نسخة من المصحف الشريف أمام مسجد في وسط العاصمة السويدية ستوكهولم، أول أمس الأربعاء.
وأدانت منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة الإيسيسكو، مذكرة “بأن تكرار هذا النمط من التعديات المقيتة لن ينال من قيمة القرآن الكريم، الذي تتزايد أعداد المؤمنين به يوما بعد يوم، في مشارق الأرض ومغاربها”، كما “تجدد التحذير من أن سماح السلطات -أينما كانت- لمثل هذه التوجهات بمثل هذا التعبير الأهوج، لَيُعَدُّ استقواءً بآلياتها في الابتعاد بالإنسانية عن الجادة الحضارية الملتزمة باحترام قيم الشعوب وأخلاقيات ثقافاتها وأعرافها”.
وهو ما عبرت عنه كذلك المجموعة العربية لدى اليونيسكو، بإدانة هذا الفعل الشنيع، داعية إلى “تجريم مثل تلك الأفعال التي لا تندرج ضمن حرية التعبير قدر ما تندرج ضمن دعوات التحريض على الكراهية الدينية والتطرف.
فكلما طفا حادث مثل هذا على السطر، زاد تلاحم المناوئين له وعزمهم على قطع الطريق أمام فكر التطرف هذا، الذي يعلم الجميع ان حبله قصير، رغم أن مروره العابر مضر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *