آراء

بوشطارت يكتب: جبال أطلس درن : منبع “المغرب الإمبراطوري”

1: في سبيل هدم السرديات:

زلزال الحوز، خطأ، والصحيح زلزال الأطلس، والمعنى الدقيق هو زلزال أطلس درن. لأن المنطقة التي ضربها الزلزال بقوة، وبؤرته، تسمى تاريخيا وجغرافيا ومحليا، أدرار ن درن. وكلمة الأطلس هي كلمة محلية أمازيغية غير مستوردة، وهي تحمل في طياتها هوية وكينونة المغرب وماهيته التي يتفرد بها، لذلك، فخير تسمية لهذا الزلزال المدمر هو زلزال “أطلس درن” أما تسميته بزلزال الحوز، فهي ليست تسمية خاطئة فحسب، وإنما أيضا تحمل تفسيرا فيه نوع من الإقصاء والتمييز، يعني إقصاء المناطق الأخرى المتضررة، تسمية الحوز لا معنى لها، لا اصطلاحي ولا جغرافي ولا تاريخي، فهي مرتبطة فقط بمراكش خلال فترة تاريخية محددة وهي نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين، والاستعمار الفرنسي هو من رسخ هذا المفهوم الذي نتج وتفاعل في سياق مرتبط بعلاقة المخزن في مراكش ببعض القبائل الثائرة والرافضة لسلطته في أزغار المحيط بمراكش. اليوم تسمية الحوز لها مفهوم ترابي إداري بعد تسمية إقليم تاحناوت به، وبالتالي فالزلزال ضرب أقاليم كثيرة، وهي الحوز وشيشاوة وتارودانت ووارزازات وأزيلال… ولكن المشترك بين هذه الاقاليم هو قمم أطلس درن التي تضررت أكثر.

منطقة الأطلس المتضررة من الزلزال فقيرة، وأناسها فقراء، هذا خطأ شنيع. والصحيح هو أن المنطقة مهمشة تعاني من نقص حاد في البنيات والولوجيات، بفعل سياسة الدولة في التنمية المبنية على الاقصاء، ومنظورها للمناطق الجبلية، مركزيا، جهويا، وإقليميا، وحتى بعض المشاريع المنجزة تعاني من فساء وسوء الحكامة. فالمنطقة غنية جدا، بين مراكش وتارودانت ووارزازات وشيشاوة، هي أكبر خزان للمعادن، الذهب الفضة، النحاس الكوبالت..وهي أكبر خزان للماء، يزود المدن والسهول والسدود بماء الشرب ومياه السقي، ثروة غابوية هائلة ومتنوعة، وتعج بجميع أنواع الفواكه والزيوت والتمار، جوز، لوز، خروب، تفاح، عنب، رمان، زعفران، ارگان، زيتون، موز، شفرجل، وجميع أنواع الخضر…لذلك، فالمنطقة ليست فقيرة وإنما هي غنية جدا بالثروات المعدنية والطبيعية المائية وفيها كل خيرات الأرض، ولكنها ضحية سياسة عمومية، ضحية توجهات وقرارات حكومية، إضافة إلى أنها تعاني من استغلال شنيع وفضيع، فهذه الثروات لا يستفيد منها السكان، كما كان الوضع سابقا…

المناطق التي ضربها الزلزال كانت مناطق مجهولة، منسية، نائية، بعيدة…هذه أوصاف ونعوت مغلوطة ينفخ فيها الإعلام وأصحاب “عقول الياجور” أصحاب الأدسنس وشهرة أصحاب صفحات الفايسبوك، عديمي الضمير الذين يستغلون أوضاع المنطقة وساكنتها، ويقدمون أنفسهم أبطال الإحسان الفايسبوكي، ويكتنزون الثروات والأموال مستغلين خطاب ديني شعبوي كبناء المساجد في الجبال بعيدا عن مراقبة الدولة… هؤلاء ومثلهم يروجون أن هذه المناطق التي ضربها الزلزال، مجهولة ونائية، لا هذا خطأ، فهذه المناطق معروفة عالميا، وأسماء مراكزها السياحية مشهورة دوليا، فبفضل هذه المناطق في أطلس درن تحتل مدينة مراكش المرتبة الأولى في المغرب من حيث جذب السياحة الدولية، مخطئ من يعتقد أن مدينة مراكش وحدها هي سبب هذه الشهرة السياحية الدولية… ففنادق المدينة وساحتها وأسوارها وإن هي تلعب أدوارها السياحية، إلا أنها وحدها لا تكفي، فجبال الأطلس الكبير هي الحافز الأكبر والعامل الحاسم في جذب السياح والدليل على ذلك، كثرة المراكز والفنادق و القصبات السياحية المنتشرة في كل مناطق أطلس درن، من إمليل وأسني ومولاي ابراهيم واوكايمدن وتوبكال/ توبقال، وتنمل وسيتي فاظمة واوريكا إلى تلوات… أكثر من ذلك، فأشهر وأكبر ملياردير في العالم، وهو مستثمر انكليزي اختار هضبة بضفاف نهر ايغاغاين/ بين أسني وإمليل لبناء فندق سياحي على شكل قصبة…. إذن فالمنطقة يزورها آلاف السياح كل سنة من مختلف بلدان العالم…
فالذي يعتبر هذه المناطق بعيدة، مجهولة، منسية، فهو يقطن في حي صغير، ضيق الجدران في كازا أو مراكش أو الرباط أو في مدينة من المدن، وأصبح له هاتف محمول يربطه بشبكة الانترنيت، ثم يعتقد في نفسه أنه يسكن في المركز، و في الحاضرة، مركز الدنيا، وكل من يسكن في الجبال فهو بعيد يسكن في الهوامش والأطراف النائية… هذه ثقافة المركزية الممركزة التي رسختها فرنسا الاستعمارية في دواليب الإدارة المغربية، وانتقلت للأسف، من الإدارة والجدران إلى الاذهان. لا يا أخي، ليس كل من يعيش في دوار على سفح جبل، فهو بعيد نائي، فأنت القادم من مدينة/ حاضرة، إلى حيث يعيش في الجبل، أنت هو البعيد، فهو يعيش في كامل القرب، القرب الذي يتفاعل معه باستمرار، القرب مع محيطه وبيئته، فهو غير محتاج لأن يقترب منك حيث تعيش في حي صفيحي أو حي اسمنتي داخل مدينة مكتضة مزدحمة بالاسمنت لم تنعم بيوتها بشمس النهار قط …. فعدم وجود طريق إلى دواره، أو عدم وجود مدرسة، أو عدم وجود مشفى، فهذه مشاكل الدولة التي تجمع الضريبة والجباية، ليست مسؤولية مواطن يعيش في بلده الأم وعلى أرضه يحرث بساتينه ويرعى ماشيته ويغرس أشجاره ويبيع تمارها…

اعلم يا اخي ان هذه السفوح الجبلية والبيوت الطينية التي تنظر إليها على أنها هامشية وبعيدة، اعلم أنها توجد بها عاصمة مُلك لأكبر امبراطورية أمازيغية حكمت شمال إفريقيا والاندلس، وكانت قاب قوسين أن تحكم فرنسا، مركزها هو تنمل، ومن هذه الجبال انطلقت آلاف الفرسان والخيول والجيوش إلى معارك تاريخية في الأندلس مثل الزلاقة معركة العقاب و معركة الارك…
لذلك، وجب تصحيح هذه الأخطاء، فهذه المناطق مشهورة ومعروفة عالميا، وتحظى بسمعة سياحية دولية إثر طبيعتها الخلابة ومناخها الجميل وطيبوبة سكانها….فإذا كان البعض لا يعرف هذه المناطق إلا بعد حدوث الزلزال، فحتميا أنه يعاني من جهل مركب، ووقع ضحية النرجسية الحضرية، التي يعتقد أصحابها أن المدينة هي كل شيء وهي مركز الكون…

2 – في سبيل فهم التاريخيات

إنني شاهد على طريقة تعامل الكثير من المغاربة، اعلاميون، موظفون اداريون، زوار عاديون، جمعويون، ثم فايسبوكيون وأصحاب قنوات اليوتيوب الذين يقتاتون من الأدسنس… يتعاملون مع الناس ومع المنطقة، أي جبال درن، كأنهم بالكاد اكتشفوا مناطق وفجاج دواوير لم تطأها الأقدام من قبلهم، وأنهم افتتحوها فتحا مبينا بكاميرات هواتفهم، ويهتفون “بارطاجيو الخوت بارطاجيو الخوت” كأكبر عمليات النصب واستغلال بساطة الناس… هؤلاء لا يعرفون ولا يقدرون حضارة وعراقة هؤلاء الامازيغ الذين يسكنون أطلس درن، فقد شيدوا هنا حضارات عريقة وقديمة، حضارة ومعارف وأنماط عيش ما قبل التاريخ وما بعده، أريد أن يصعد هؤلاء “البارطاجيون أبطال البلطجة الالكترونية” إلى قمة ياگور ليصوروا بهواتفهم الصينية والكورية واليبانية، ما صنعه أسلافهم الأمازيغ الأحرار الحقيقيون على الصخور، رسموا الشموس والأقراص رسموا الآلهة ورموز الطبيعة وأشكال العيش وسط بيئتهم، طوعوا الطبيعة وروضوا المناخ ونحتوا على الصخور افكار وادبيات ورسوم وصور يصعب على العلماء والخبراء اليوم فك طلاسيمها… فهذا انسان امازيغي عاش قبل أكثر من 5 آلاف سنة، رسم لوحة شمسية بمثابة معجزة، على أطلس درن، بل صنعج مدرجات زراعية، وخطط هندسة مائية على سفوح جبلية عنيدة شديدة الانحدار، امازيغ أطلس درن قبل دخول الإسلام وبعده، شيدوا حضارة ممتدة، راسخة وعتيدة، في مختلف مجالات الحياة، في الفن، والزراعة والحروب والسلام وبناء الدول وهدمها، انتجوا افكار في الديموقراطية وأشكال ممارسة الحكم بالتناوب، خططوا هندسة سياسية واجتماعية تلائم ظروفهم الاقتصادية والبيئية، كان لهم بناء اجتماعي وسياسي محكم ومتوازن…

نختار فقط تارودانت ومراكش، هما مدينتان تقعان على قدم أطلس درن، الأولى وهي اقدم مدينة في المغرب، سابقة عن فاس وسبتة وسجلماسة.. تقع على قدم السفح الجنوبي للأطلس درن، ثم مراكش التي هي ابنة أو حفيدة تارودانت، تقع على قدم السفح الشمالي لأطلس درن الذي يقع بينهما، فمن هذه المناطق انطلقت كل مبادرات توحيد المغرب، المرابطون الذين انطلقوا من الصحراء واستقروا بأغمات لكي يستفيدوا من خيرات الأطلس وعائداته التجارية التي يتم تسويقها في اغمات، ثم أيضا لكي يتحصنوا به، من اغمات نزلوا لبناء عاصمتهم مراكش بعد أن فطنوا لأهمية الموقع الذي تساق إليه مياه ومواد ومنتوجات أطلس درن… فجاء الموحدون بعدهم وبنوا مدينة تينمل وسط الجبال في أعلى حوض نهر النفيس لقطع الطريق على المرابطين في مراكش، ونجحوا في ذلك وأسسوا أكبر واعظم امبراطورية في شمال إفريقيا والاندلس، ولا ننسى أن مؤسس الموحدون المهدي ابن تومرت الملقب بأسافو/ المشعل، جاء من أحواز تارودانت إگليز بأرغن، واستقر بتنمل…. ومن هناك أيضا تارودانت انطلق السعديون والذين اتخذوا من تارودانت عاصمة للمغرب ثم مراكش فيما بعد…

إذن فأطلس درن هو مفتاح قوة الدولة المغربية قديما وحديثا، وهو منبع وضامن استمرارية “وحدة الدولة” كمفهوم تاريخي حيوي، في أطلس درن انبثقت فكرة “المخزن الكبير” أو “المغرب الإمبراطوري”. أمازيغ جبال درن استوعبوا منذ القدم توازنات الجغرافية السياسية على المدى الطويل التي كانت مبنية على التجارة وتسويق المعادن، فخططوا تارودانت لتكون مفتاح المغرب الأطلسي نحو الصحراء الكبرى وجنوبها، ثم انطلقوا الى السفح الشمالي فخططوا تشييد مراكش لتكون مفتاح وميناء الأطلس الكبير نحو العالم المتوسطي وأوروبا…

إنه ذكاء ترابي خارق وثاقب، يتماشى مع هوية الدولة المغربية القديمة التي تتأسس على فكرة “الامارة بالتجارة” وبعد تعاظم الإمارة واتسع نفوذها وازدهرت قوتها بفعل التجارة، بعد وصول المرابطين إلى أغمات، فطن الامازيغ إلى أن تشييد الدولة وتوحيد المغرب لم يعد رهينا بالتحكم في محاور التجارة الصحراوية، فالتحرك والغزو لتوسيع الدولة نحو الشمال لضمان الانتقال من الامارة إلى الدولة ثم إلى الإمبراطورية، (المخزن لدى المرابطين، استمدوه من أگادير المخزن الجماعي للقبيلة الذي يوجد فيه أيضا مقر حكم إمغارن) كان يحتاج إلى عامل مؤسس آخر، لشرعنة التحرك والاستحواذ على شمال مراكش لتوحيد المغرب والوصول إلى الأندلس، يعني التحرك من الصحراء حيث منابع التجارة والوصول إلى الأسواق بأوروبا وهذا هو مفهوم المخزن الكبير، أي أن تستفيد الدولة من جميع عائدات التجارة من المنبع إلى المصب، والتحكم في السوق، ولن يتحقق هذا، إلا “بالشرعية الدينية”. فبعد وصول جيوش المرابطون إلى أبواب سجلماسة ( كانت على مذهب الخوارج) واصطدامهم ببورگواطة حينما وصلوا إلى أغمات، تأكدوا فعلا أن العصبية، ( تامزيغت) وحدها غير كافية للاستمرار في التحرك نحو الشمال، ومن ثمة ابتدعوا أيديولوجية دينية لشرعنة تحويل الدولة من امارة تجارية صغيرة إلى امبراطورية كبيرة، وبسبب تشتت الامازيغ على المذاهب، ركز المرابطون على المذهب المالكي ليكون شرعية دينية لعصبيتهم الصنهاجية ونجحوا في دخول الأندلس وأسسوا امبراطورية أمازيغية كبري تحكم من نهر السنغال إلى شمال أسبانيا الحالية…. فكرة الفقهاء المالكيون في التحالف مع عصبية صنهاجية امازيغ الصحراء، فهمها، ودرسها جيدا، الزعيم الامازيغي المهدي ابن تومرت وسرقها منهم وطورها باجتهاد كبير بعد أن درس بشكل دقيق المجتمع الامازيغي وفهم بنياته، قبيل دخول الإسلام وبعد بداية انتشاره، فقبل ظهور الموحدون لم يكن الإسلام منتشرا في جبال الأطلس الكبير… فانتج المهدي ابن تومرت مشروعه السياسي لاسقاط المرابطين، واشتغل على أيديولوجية دينية ابتدعها شخصيا وهي فكرة التوحيد، ولكي يجابه عصبية إيزناگن دولة صنهاجة المرابطين، احتمى داخل عصبية المصامدة امصمودن، لذلك هاجر إلى وسطهم وخطط بها تنمل على حد تعبير صديقه ومرافقه البيذق….

وبفضل هذا البناء التاريخي الذي شهده أطلس درن، خرج ابن خلدون بخلاصة مركزة، وهي أن الامازيغ لا تتحقق لهم الدولة إلا ب”العصبية والدعوة”…

مجمل القول، فتاريخ الأطلس الكبير تعرض لحيف كبير، وإلى سوء الفهم، فمنه انطلق النموذج الوحدوي بل منه ترسخت تجارب لتوحيد بلدان المغارب، أي شمال إفريقيا مع الصحراء، فبناء مراكش من طرف امازيغ صنهاجة الصحراء بقيادة يوسف بن تاشفين، (قبره في مراكش) ودفن ملوك غرناطة والاندلس في اغمات لدليل ناصع جدا على جذور وحدة المغرب وامتداده جنوبا وشمالا، فهذا ليس انتقاصا من بلدان أخرى مجاورة أو شرعنة لهيمنة سياسية على انقاض التاريخ، وإنما استقراء لتاريخ قوة الدولة المغربية واستمراريتها على ضوء مساهمة ودور جبال أطلس درن في بناء هذه الدولة واستمرار وحدتها….
ونحن، نعرض هذه القراءة السريعة لتاريخ أطلس درن، لكي يفهم البعض أن قوة تضامن المغاربة مع ضحايا الزلزال ليس بمجرد شعور إنساني، عاطفي، وإنما أيضا هو نتاج لشعور تاريخي متراكم مبنى على القيم الدفينة والمعارف الخلاقة التي تتحكم في أحاسيس وعواطف الجماعة….

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *