متابعات

جماعات سوس:الباقي استخلاصه .. المال “السايب” في ذمة الملزمين

أصبح الباقي استخلاصه حجرة عثرة أمام عجلة التنمية بمجموعة من الجماعات الترابية، وسجلت السنوات الأخيرة ارتفاعا في قيمته حسب تقارير رسمية، خصوصا وأن أغلبية هذه الجماعات تعرف انخفاضا في ميزانيتها منذ فترة جائحة كورونا.

ويستمد قطاع الجماعات الترابية أهميته من الخدمات التي يقدمها للساكنة، ومن عدد مكوناته التي تبلغ 1.594 وحدة، منها 12 جهة، و13 عمالة، و62 إقليما، و1503 جماعة، 221 منها حضرية، و1282 قروية. كما يحظى هذا القطاع بأهمية خاصة بفضل ما باتت تشكله ماليته من رهانات تنموية مقارنة مع مالية الدولة، 

 كما يتم اعتماد الجماعات المحلية على عائدات الضريبة على القيمة المضافة، وتعتبر هذه التحويلات مصدرا أساسيا للتمويل بالنسبة لغالبية الجماعات الترابية. وتتراوح مستوى مساهمة حصة الضريبة على القيمة المضافة في مداخيل التسيير، بين نسبتي %55 و 92% . ويوضح هذا الأمر التبعية الهيكلية للجماعات الترابية للدولة اتجاه حصة الضريبة على القيمة المضافة حتى فيما يتعلق بتغطية نفقات تسييرها.

ونجد تفسيرا لهذه الظاهرة في الضعف الكبير الذي تعاني منه الجماعات الترابية في تحصيل مختلف المداخيل الضريبية، والتضخم المفرط في نسبة الباقي استخلاصه، الذي يتشكل من المداخيل التي تم جردها من طرف وكالة المداخيل الجماعية، وصدر بشأنها قبل نهاية كل سنة مالية أوامر تحصيلها للقابض البلدي الذي يصبح بمجرد استلامها مسؤولا عن جبايتها.

كما تتكون من المداخيل التي أوكل المشرع أَمر تحصيلها إلى القابض البلدي ولم يتم استخلاصها لأسباب مختلفة. مما جعل الجماعات الترابية تقتصر على التصرف في الموارد المتاحة بعشوائية دون الالتفات إلى تنمية هذه الموارد في أفق جعلها تسهم في تحقيق الاستقلال المالي للجماعات المحلية. مما يفوت على الإدارة الجماعية مداخيل هامة في آجالها القانونية، ويؤثر على تدفق السيولة المالية في الوقت المناسب لدى القابض الجماعي، ويثقل كاهل الملزمين بغرامات التأخير.

 وتعيش الجماعات الترابية، منذ سنوات، على وقع التضخم المرعب للباقي استخلاصه الذي يهيمن على العديد من فصول الميزانية بالجماعات الترابية دون إيجاد الحلول الناجعة له، الشيء الذي جعله يتضخم سنة بعد أخرى، ليتحول إلى كابوس يقض مضجع كل المسؤولين.

وقد وقفت تقارير المجالس الجهوية للحسابات على هذه الخلاصة في غالبية مهامه الرقابية. وقد سجلت أن  العديد من الملزمين بالأداء يحاولون بشتى الطرق التهرب من تسديد ما بذمتهم من ضرائب ورسوم لفائدة الجماعات، من خلال التستر على مداخيل عمليات خاضعة للضريبة، أو الإدلاء بتصريح مزيف ومشوب بتدليس، حيث يستعمل الملزم الغش عند تحديد الوعاء الضريبي، أو التصريح بمعطيات وبيانات خاطئة وافتعال العسر. ويكفي أن يشوب خطأ في الاسم والعنوان حتى تصبح عملية التحصيل في خبر كان، كما أن الأخطاء التي تشوب المداخيل نفسها تحول دون  استكمال عملية التحصيل، وبالتالي ارتفاعا في حجم الباقي استخلاصه.

كما أن مسؤولية المجالس في تفاقم الباقي استخلاصه ثابتة، إذ تفضل عدم العمل على اتخاذ ما يلزم في المساعدة على تحصيل مستحقات الجماعة التي يسبق تاريخ استحقاقها فترة انتدابهم، بدعوى أنهم لم يكونوا مسؤولين وقتها، خوفا من إثارة غضب الملزمين الذين يعتمدون على أصواتهم في الحملات الانتخابية، ينضاف إلى ذلك غياب حملات تحسيسية واسعة النطاق، لحث الملزمين على الأداء عن طريق استغلال وسائل الإعلام، لشرح الانعكاسات السلبية لتضخم الباقي استخلاصه على التنمية المحلية، وكذا النفقات الإجبارية للموظفين والنفقات المتعلقة بالتدبير اليومي لدواليب الإدارة. بالإضافة إلى عدم التكافؤ بين مهام القابض البلدي ووكالة المداخيل، بفعل تنازع الاختصاصات ما بين شسيعي المداخيل والقباض، مما يؤدي إلى تأخير استخلاص الجبايات، أو التخلي النهائي عن مباشرة إجراءات التحصيل، إضافة إلى غياب التكوين وقلة التأطير الإداري والبشري، ومحدودية  الوسائل الموضوعة، وضعف التجهيز بالبرامج المعلوماتية والحواسيب، فضلا عن النقص الكبير في الأطر المختصة.

وبالمقابل سجلت بعض الدراسات أن نسبة الأطر العليا والمتوسطة العاملة بالمصالح الجبائية لاتزيد عن 2% فقط من مجموع العاملين بهذه المصالح، في حين تمثل الفئات الدنيا نسبة 88%. وتشير الإحصائيات إلى أن الجماعات تخصص أقل من 4% من موظفيها للمصالح الجبائية، الأمر الذي يؤدي إلى ضياع أموال جماعية هامة، ويساهم في تراكم الباقي استخلاصه.

إن الباقي استخلاصه هو نتاج حصيلة تراكمت لعقود من الزمن، كل المجالس التي دبرت الشأن المحلي بالمغرب، تتحمل قسطا من المسؤولية.

وومن جهة أخرى، يتم التمييز بين نوعين من الباقي استخلاصه، نوع يرجع إلى عدة سنوات والملزمون به يتهربون من أدائه، فهذا الجزء ينبغي تكثيف الجهود وتعبئة المصالح المختصة حتى يتم استخلاصه، مع العمل  على إزالة الأخطاء في العناوين والأسماء وسائر المعلومات التي من شأنها تضليل الساهرين على عملية الاستخلاص. ونوع ثاني من الباقي استخلاصه تراكم منذ سنين، وأن الملزمين به لم يعودوا على قيد الحياة، أو أصبحوا غير قادرين على الأداء، أو أن المحل موضوع التحصيل لم يعد موجودا، أو أن أحوال بعض الملزمين قد تكون تغيرت بسبب الوفاة أو الإفلاس، أو غير ذلك من الحالات الاجتماعية المستعصية، كحالة الأرامل والقاصرين والمعوزين، والذين لم يعد في استطاعتهم تأدية ما بذمتهم من مستحقات، فهذا الجزء يجب التعامل معه وكأنه غير موجود، وإيجاد الحلول كي تتخلص الميزانية من وهم مالي لا وجود له إلا على الأوراق.

وإذا كان على الجماعة مجموعة من الحقوق والواجبات تلتزم بالقيام بها خدمة للمواطنين، فإن المواطن بدوره عليه واجبات اتجاه الجماعة، ومنها تأدية الضرائب والمستحقات والرسوم الجماعية، والتي تبقى من المداخيل الأساسية لخزينة الدولة والجماعة، لانجاز البرامج والمشاريع. إلا أن هذه الحقوق المُتَبادلة قد تختل، إذا لم يقم كل من هذه الأطراف بواجبه نحو الآخر. فالتملص من الأداء يفقد خزينة الجماعات الترابية الملايير من السنتيمات، ويجعلها تحت رحمة النظام الجبائي للدولة.

وكان المجلس الجهوي للحسابات لسوس ماسة، سنة 2018، قد فتح النار على الخازن الاقليمي باكادير والقباضات الجماعية المكلفة باستخلاص الرسوم المستحقة لفائدة الجماعات الترابية بكل من تراب عمالة أكادير أداوتنان وانزكان ايت ملول. مشيرا في تقريره السنوي أن الباقي استخلاصه ذو الصلة بالموارد المسيرة من طرف الدولة قد سجل أعلى نسبة بكل من عمالة أكادير وعمالة انزكان. مما يدل على تقاعس  الخازن الاقليمي باكادير وانزكان في أداء مهام تحصيل الضرائب المحلية لفائدة الجماعات الموكولة له قانونا.

وقد اعتبر المجلس الجهوي للحسابات الجماعة الترابية لأكادير  أكبر جماعة من حيث مبلغ الباقي استخلاصه ذو الصلة بالموارد المسيرة من طرف الدولة، والذي وصل إلى 540,8 مليون درهم منها 46,9% منه عبارة عن مبالغ غير مستخلصة للرسم على الخدمات الجماعية،مقابل 43,1% مرتبطة بالرسم المهني.

ووضع هذا التقرير جماعة أكادير في المرتبة الأولى من حيث المبالغ المستحقة لدى الغير بعد الافتحاص الخاص بالجماعات الترابية بجهة سوس ماسة، والتي يصل عددها إلى 182 جماعة ترابية على اختلافها. وتأتي بعدها ثلاث جماعات تابعة لعمالة إنزكان آيت ملول ويخص الامر جماعة ايت ملول بمبلغ 84,7 مليون درهم، متبوعا  بجماعة الدشيرة الجهادية بمبلغ 79,2 مليون درهم و جماعة إنزكان بمبالغ غير مستخلصة تساوي 52,3 مليون درهم.

وأضاف تقرير المجلس الجهوي، الذي خص سنتي 2015 و2016، أن الباقي استخلاصه لفائدة الجماعات الترابية، المتكفل بها من طرف المحاسبين العموميين المكلفين بتنفيذ ميزانية هذه الجماعات،والتي لم يتم استخلاصها، حيث بلغ الباقي استخلاصه بمجموع تراب الجهة 1.136,5 مليون درهم،  99,6 % منه مرتبط بمداخيل التسيير، أي ما يعادل 1.132,1 مليون درهم، ويشكل هذا المبلغ 31,5 % من مداخيل التسيير المتكفل بها سنة 2016 في حسابات الجماعات الترابية بالجهة، و32,6 % من موارد ميزانية تجهيزها.

وبهذا الخصوص، أكد أحد المهتمين بالشأن المحلي أن الجماعات الترابية بحاجة إلى نظام ضريبي محلي، يجمع بين البساطة والإنصاف. وعلى ضرورة التقائية ضرائب الدولة والضرائب المحلية، إلى القضاء على تعقد القواعد الضريبية، وتعدد الإعفاءات على مستوى النظام الضريبي المحلي، وكذا تعدد الفاعلين في تدبير نفس الضريبة، مشيرا إلى غياب التواصل والتوعية حول الالتزامات التصريحية، إضافة إلى نمط التدبير التقليدي الذي يشمل عمليات ذات طابع مادي.

ولتقوية مداخيل الجماعات أكد نفس المصدر، على وجوب تبسيط النظام الضريبي المحلي وترشيد قاعدته ووعائه، حتى يشمل المزيد من دافعي الضرائب، لاسيما المقاولات. مشددا على ضرورة التوجه نحو نظام ضريبي أكثر بساطة، وجعل النصوص الجبائية أكثر وضوحا.

واعتبر نفس المصدر أن تنامي الباقي استخلاصه في أغلبية الجماعات، يقلص من إمكانياتها الذاتية في تمويل المشاريع، واعتمادها على تحويلات الدولة، وهذا ما أثر على أدائها والوفاء بالتزاماتها بعد تقليص تحويلات الدولة من الضريبة على القيمة المضافة الموجهة للجماعات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *