آراء | متابعات

بوشطارت يكتب:أصـــــــول الحـــــرب في أزواد.. انتفاضة كيدال 1963

تمهيد:
في يوم 6 أبريل 2012؛ أعلن الأمين العام للحركة الوطنية لتحرير أزواد MNLA، بمدينة گاو، عن استقلال أقاليم الشمال عن جمهورية مالي، وتأسيس دولة جديدة تحمل اسم “جمهورية أزواد”، ودعا في بيان رسمي المنتظم الدولي إلى الاعتراف بها. وخلق هذا الإعلان رجة سياسية قوية في مالي ومنطقة الصحراء والساحل، وداخل الأوساط الدولية، خاصة في أوروبا وأمريكا. وقد جاء هذا الإعلان في سياق صعب متسم بسيادة الفوضى وانتشار التيارات والتنظيمات الإرهابية المسلحة وعلى رأسها تنظيم القاعدة في الغرب الإسلامي، وتنامي العنف في مناطق الصحراء والساحل، وزاد سقوط نظام القذافي بليبيا في أكتوبر 2011 من حدة التوتر وتأجيج الأوضاع نتيجة انتشار الأسلحة، وتدفقها إلى البلدان المجاورة لها في الصحراء والساحل.
وعقب اعلان عن “دولة أزواد” وانفصال الشمال عن دولة باماكو سنة 2012، جعل فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة، تنزل بكل ثقلها السياسي والعسكري، لتبديد الصراع الحاصل بين باماكو وأزواد، عن طريق فتح جسور الوساطة والتفاوض، خاصة وأن فرنسا وبعض دول الاتحاد الأوربي وأمريكا انخرطوا في تحالف استراتيجي لمكافحة ومحاربة الإرهاب في الساحل والصحراء، المناطق التي أضحت مرتعا لانتشار تنظيمات وتيارات القاعدة و”داعش”. وتوج مسار الوساطة والتفاوض بين مالي والحركات المسلحة في أزواد، باتفاق “السلم والمصالحة” الذي تم توقيعه بالجزائر يوم فاتح مارس 2015، أفضى إلى انهاء الحرب بين الطرفين وادماج العناصر المسلحة في الجيش المالي، وذلك برعاية الأمم المتحدة التي نشرت قواتها في مناطق الشمال لضمان وقف إطلاق النار ومسلسل السلم والمصالحة.

لكن؛ بعد الانقلاب العسكري في باماكو ماي 2021، وما أفرزه من تحولات جدرية في بنية النظام، كطرد القوات الفرنسية في مجموع تراب مالي، والتحالف مع روسيا عبر شركة “فاغنر”.

وبعد مطالبة المجلس العسكري بقيادة “أسيمي كويتا” خروج قوات الأمم المتحدة من أقاليم الشمال، عاد التوتر والنزاع المسلح من جديد بين الحركات السياسية والعسكرية في أزواد، التي تجمعت في “الإطار الاستراتيجي الدائم للسلام والأمن والتنمية” CSP-PSD والتي اتهمت المجلس العسكري في “باماكو” بخرق بنود اتفاق السلم والمصالحة المتوافق بشأنه في 2015 بالجزائر. وبدأت المواجهات العسكرية بين الطرفين في شهر غشت 2023 في العديد من المناطق، واستمرت إلى نونبر الجاري حيث دخلت قوات الجيش المالي مدعومة بمرتزقة “فاغنر” الروسية مدينة “كيدال” التي كانت مقرا للحركات الأزوادية.
غير أن؛ إعلان “دولة أزواد”، ليس وليد سياق ما بعد 2011، ولم يكن نتيجة للتحولات الطارئة في المنطقة، وإنما هو افراز لسياق تاريخي طويل، هو تعبير عن أزمة سياسية عميقة، مرتبطة أساسا بفشل نموذج “الدولة الوطنية” في إفريقيا بشكل عام والصحراء والساحل بشكل خاص، وهي الدولة التي أفرزتها ظاهرة الاستعمار التي عملت على تفكيك وتذويب المنظومات والخصوصيات السياسية والاجتماعية والثقافية داخل نمط “الدولة المركزية”، التي قامت الإدارة الاستعمارية على استنباتها وفق خرائط عسكرية وأمنية كان هدفها الأول، هو الاختراق والاخضاع لضمان استغلال الموارد والثروات المعدنية والطبيعية في البلدان الافريقية.

وبحكم سيطرة فرنسا على جل بلدان شمال وغرب إفريقيا والصحراء والساحل، فإنها عملت على تسييد وتجدير نموذجها السياسي والإداري في إرساء دعائم “الدولة المركزية اليعقوبية”. هذا النمط الموروث عن الاستعمار، سمي ب”الدولة الوطنية” État-Nation لكنها في واقع الأمر، ما هي إلا عملية إسقاط فاشلة لنموذج فرنسي تشكل في سياقات تاريخية وسياسية وثقافية، تختلف تماما مع السياقات والخصوصيات الاجتماعية والسياسية والثقافية داخل المجتمعات الإفريقية.

ولم تجسد الدول التي تشكلت عقب الاستقلال، بما فيها مالي، المفهوم الحقيقي للوطنية في أسلوب حكمها، فوجدت نفسها أمام قلاقل ومشاكل سياسية كبيرة ومعقدة، مرتبطة أساسا بالتعددية الثقافية والاثنية وأزمة الهوية، وبخصوصيات المجال، ومشاكل التراب والحدود. وذلك ما حصل في دولة مالي التي حصلت على الاستقلال سنة 1960، لكنها اصطدمت بانتفاضة التوارگ/ الطوارق في مدن الشمال بعد ثلاث سنوات فقط عن الاستقلال، لا سيما في مدينة كيدال.

انتفاضة كيدال 1963: سياقات وامتدادات

“كيدال” هي مدينة تقع في الشمال الشرقي لدولة مالي بالقرب من الحدود مع الجزائر ودولة النيجر في جهة الشرق، كانت تابعة لولاية گاو قبل سنة 1991. وهي حاليا عاصمة إقليم أو الدائرة الثامنة حسب التقسيم الإداري في جمهورية مالي. تسكنها مجموعات من التوارگ أهمها “كْلْ أداغ”، (كلمة أداغ تعني بلغة تامشيقت الجبل، ويقصد بهذه التسمية السلسلة الجبلية الواقعة شمال مالي، وقد أطلقت عليه الإدارة الفرنسية “أدرار/ أدغاغ إيفوغاس” للتمييز بين منطقة أدرار الواقعة شمال موريتانيا. أما “كْلْ أداغ” فتفيد أهل الجبل وهي اتحادية سياسية واجتماعية تتكون من عدة مجموعات أهمها “كل أفلا”، ومجموعات من “إمغاد”. اندلعت فيها انتفاضات شعبية وتمردات سنة 1963، أي ثلاث سنوات بعد الاستقلال وتأسيس “الدولة الوطنية” الجديدة. فما هي الأسباب التي أدت إلى بروز هذه الانتفاضة؟
يمكن تصنيف أسباب قيام انتفاضة التوارگ الأولى في مالي سنة 1963 إلى ما يلي:

العوامل التاريخية:

تتجلى أساسا في طبيعة مجموعة “كْلْ أداغ” أو التوارگ بصفة عامة، حيث يتميزون بعدة خصوصيات التي تفرضها عليهم طبيعة المجال الذي يعيشون فيه والمتسم بالقساوة والقحولة. فالتوارگ لهم تنظيمات سياسية واجتماعية فريدة ومتميزة، تمنح لهم مقومات هوية ثقافية وسياسية خاصة. كما أن “كْلْ أداغ” أو “أدرار إفوغاس”، قد عبروا منذ البداية عن رفضهم لقرار الحاقهم بمستعمرة “السودان الفرنسي”، أثناء تقسيم الحدود بين هذه الأخيرة والجزائر سنة 1904. كما يجب استحضار؛ أن مجموعات “أدرار إيفواغس” بعثوا بوفد مهم سنة 1901 إلى “إن – صالح” التي كانت تتمركز بها الإدارة الاستعمارية الحاكمة في مناطق الجنوب وصحراء الهگار، لإعلان الخضوع لها بدون حرب. هذا الوضع جعل الاستعمار يُبقي على التنظيمات السياسية والاجتماعية لتوارگ إفوغاس، ويعتمد على زعمائها في تدبير شؤون مناطقهم فيما يشبه نظام الحكم الذاتي، أو التدخل غير المباشر في أمور الاتحادية، واستفادت هذه الأخيرة في استمرارية مراقبتها للمجال وتسيير أمور المجموعات المنتمية للاتحادية.
دون أن ننسى العلاقات الوطيدة والمتينة التي تربط بين “كْلْ أداغ” مع توارگ الهگار الذين تم الحاقهم بالجزائر، ويتجلى ذلك بالملموس في تحالفهم مع أمنوكال “موسى أگ أمستان” حليف وصديق الفرنسيين. عكس العلاقات المتشنجة المتسمة بالصراع مع كونفدرالية إوليميدن القوية في حوض نهر النيجر بالجنوب. كما أن علاقة “إيفوغاس” بالهگار خاصة مجموعة “كْلْ غيلا” تتجاوز روابط الجوار والتجارة والمراعي، بل تربطهم علاقة المصاهرة والقرابة والتي تلعب دورا محوريا في السلطة لدى التوارگ.
كما أن منطقة أداغ/ أدرار التي يقطن بها “كْلْ أداغ” تتمتع بمناخ مغاير للمناطق الصحراوية الأكثر قحولة وجفافا، بفعل انتظام الأمطار، وتوفر المياه، وجود مراعي كثيرة بغطاء نباتي متنوع. هذه المؤهلات جعلت منطقة أداغ تتميز بوضع مجالي مختلف بالمقارنة مع المناطق المجاورة.
نستخلص مما سبق؛ أن “كْلْ أداغ” لهم تحفظ تاريخي قديم من مسألة ترسيم الحدود، ولهم روابط متينة مع الشمال. وجدير بالذكر أيضا أن “الشيخ عثمان” الذي كان وسيطا بين فرنسا وتوارگ الأجير والهگار لعقد اتفاقية غدامس سنة 1862 كان ينتمي لمجموعة “أدرار إيفوغاس”.

العوامل السياسية:

تتمثل في شكل الدولة الوطنية والقومية التي أقامها “موديبو كيتا” في مالي بعد حصولها على الاستقلال، والذي كان يرأس حزب “الاتحاد السوداني” وفرض نظام “الحزب الواحد”، وهو نمط شمولي يرفض التعددية السياسية والحزبية. وتبنى “موديبو كيتا” الاشتراكية بشكل “متطرف”، وأصبح من بين دعاتها في إفريقيا ينادي بالوحدة ضد النظام الرأسمالي. ونهج أسلوب القمع السياسي والتصفيات والاغتيالات لمحاربة المعارضين السياسيين، مثل “فيليبي سيسوكو” وزعماء القبائل والمجموعات وحارب الزوايا والطرق الصوفية، واعتبرها آليات تقليدية تعيق التنمية والتقدم.
ولم يشارك التوارگ في مسلسل الإعداد لمشروع “الدولة الوطنية” ما بعد الاستعمار، وبقي الشأن السياسي والحزبي ممركزا في مناطق الجنوب بالعاصمة “باماكو”، ولم ينخرط توارگ “كْلْ أداغ” على غرار جميع الرحل في الشمال، في الحياة السياسية والعمل الحزبي، ولم يعيرا أي اهتمام لكل ما يجري من الإصلاحات السياسية والانتخابات المحلية والتشريعية. على سبيل النموذج لم يسجل في اللوائح الانتخابية سنة 1951 سوى 245 شخصا فقط من توارگ “كْلْ أداغ”. وهذا يدل على عدم الاهتمام بالقضية السياسية وبعملية التحضير للدولة المستقلة، كما أن الأحزاب ركزت عملها في الجنوب، لأن مؤسسيها ينتمون إلى الاثنيات المستقرة في العاصمة “باماكو” وأحوازها.
وبعد الاستقلال؛ عرفت “كيدال” على غرار باقي مدن التوارگ في الشمال، موجة قمع شديدة من طرف الجيش المالي، وكان ينفذ سياسة “موديبو كيتا” في المدينة الضابط “ديبي سيلاس ديارا” Diby Sillas Diarraرئيس دائرة كيدال. وتجدر الإشارة إلى أن الجمهورية المالية جعلت من “كيدال” معقلا سريا لسجن المعارضين السياسيين ومقرا لتعذيبهم. ومن بين الزعماء التوارگ الذين عارضوا نظام “موديبو كيتا” أمنوكال “محمد علي أگ الطاهر” وهو زعيم توارگ “تينبكتو”، بعد خوفه من بطش النظام الجديد هاجر إلى المغرب.
إن الدولة القومية التي أراد “موديبو كيتا” بنائها على أسس اشتراكية وعن طريق “الحزب الحاكم”، كانت تعادي التعددية والاختلاف وكل أشكال التنوع، فكان عليها اجتثاث كل ما من شأنه التشويش على هذا “النظام الشمولي”، فاصطدم بالتوارگ الذين كانوا يتمتعون بالحرية في التنقل والترحال في مجالات واسعة وممتدة داخل الصحراء، ويتوجسون دائما من كل أشكال التضييق، ولا يخضعون لأية سلطة مركزية، ولا يأبهون بفكرة الحدود. لذلك؛ دخلوا في حرب شبه دائمة مع الاستعمار الذي كان يرغب في توطينهم وحصرهم في مراكز قروية وشبه حضرية. فكيف سيقبلون ذلك في ظل دولة الاستقلال؟

العوامل الاقتصادية:

عانت مناطق الشمال التي يقطن فيها التوارگ من مخلفات الاستعمار بشكل كبير على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، من خلال تشديد الخناق على الرحل الرعاة، ودفعهم على الاستقرار، ثم السيطرة على الموارد وعائدات التجارة والضرائب التي كان الزعماء التوارگ يحصلون عليها. وبعد الاستقلال اشتدت الأزمة الاقتصادية أكثر على التوارگ؛ لأن نظام “موديبو كيتا” طبق النظام الاشتراكي وقام بمصادرة الأراضي وأملاك القبائل والمجموعات، وبالغ في فرض الضرائب، وأراد تأميم حتى الماشية من الإبل والأغنام والماعز. يقول “محمد القشاط” في هذا الصدد: “وبما أنه ليس هناك شيء تطبق عليه الاشتراكية في مالي. بدأ يضيق الخناق على الناس بالضرائب. وأرسل جنوده للشمال حيث يقيم العرب والتوارق في صحرائهم، وبدأوا يحصون إبلهم وأغنامهم ناشرين دعاية تقول إن هناك دواء صينيا على هيئة حقن تحقن بها المواشي فلا تمرض أبدا. وبدأ البدو على طيبتهم يصدقون ذلك ويحضرون إبلهم للتجمعات التي عينتها وحددتها لهم الحكومة، ولكن جنود الحكومة كانوا يختمون الإبل بختم الدولة على اعتبار أنها أصبحت ملكا لها وأُممت من المواطنين.” هكذا كانت طريقة “موديبو كيتا” في فرض الاشتراكية وتثبيت “الدولة الوطنية”.

إضافة إلى هذه الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تفاقمت مظاهرها بشكل واضح بعد الاستقلال في مالي، وانعكست سلبا على حياة المجتمع وظروف عيشه، لاسيما في المناطق الصحراوية التي تعاني من الجفاف والتصحر. عاش المواطنون في “كيدال” وكل مناطق الشمال فصولا من المعاناة جراء ما تقترفه عناصر الجيش المالي من تعذيب وقمع وشطط في استعمال السلطة، والتمادي في إهانة المواطنين. كما حصل في حادثة قتل مواطن بمدينة “كيدال” من طرف الجيش المالي لأنه لم يدفع ضريبة من قيمة 500 فرنك مالي. فدخلت منطقة شمال مالي منعطفا جديدا من التوتر والصراع، منذ الأيام الأولى للاستقلال بسبب سياسة رئيس الجمهورية. وبتعبير عن ذلك، يكتب الباحث “عمر الأنصاري”، وهو من التوارگ :”سرعان ما انكشف مخطط” موديبو كيتا” الذي جعل الاحتلال الفرنسي أهون على الطوارق من المصائب التي توالت عليهم بعد الاستقلال على أيدي العسكريين الماليين، الذين تتابعوا على السلطة.” كما كان الجنود في تحركاتهم ينهبون الخيام ويمدون أيديهم إلى ممتلكات الناس، ويسرقون الإبل والمواشي، ويتمادون في احتقارهم وخدش كرامتهم.

اندلاع الثورة: المأساة

توفي أمنوكال “الطاهر أگ إلي” سنة 1962، وترك فراغا سياسيا حادا في كونفدرالية “كْلْ أداغ” لاسيما وأنه كان شخصية مؤثرة جدا داخل أوساط التوارگ، وقام بأدوار تاريخية طيلة فترة الاستعمار، وترك ولدان، “أنتالا” و”زايد” هذا الأخير تولى قيادة “تامنوكالت”، فرفضته سلطات دولة مالي، وتحول إلى معارض سياسي للدولة الجديدة. حاول الاتصال بالفرنسيين في جنوب الجزائر من أجل دعمه بالسلاح والعتاد لإعلان الثورة، لكنهم رفضوا ذلك، وحاول الاتصال بأعضاء من جبهة التحرير الوطني الجزائري، ورفضوا ذلك رفضا قاطعا بفعل علاقاتهم مع “موديبو كيتا”. ثم عاد إلى “أداغ” يتحين الفرصة للقيام بالتمرد.
تفاعلت كل هذه العوامل والأسباب في سياق سياسي مضطرب، وأدت إلى اندلاع الثورة المسلحة في منطقة “كيدال”، التي تبعد عن العاصمة “باماكو” بحوالي 1000 كلم، وانطلقت الثورة بعد إهانة عناصر الجيش لشاب من التوارگ. ويذكر “إمبيري أغ راهية”، وهو كاتب من التوارگ في مالي، أن أحد أعوان الأمن الماليين، قام في يونيو من عام 1963، بسبب عجرفته، بتفجير حدث خبيث استمد جذوره من الحقبة الاستعمارية. ففي حادثة استفزازية قال لشاب طارقي اسمه “الحاج أغ ألا”: ” أنت لا تستحق إلا ما قد سبق لوالدك أن لقيه على أيدي الفرنسيين.”
هذا الشاب اسمه الكامل هو “ألادي أگ ألا” Elladi Ag ALLA كان والده قد اغتالوه الفرنسيين هو وابنه الأكبر “محمد أگ ألا” سنة 1954. “وبعد دفنه بثلاثة أيام قام الفرنسيون باستخراج جثته من القبر وقطعوا رأسه، وطافوا به في كل المنطقة، فما كان من الشاب بعد ذلك إلا أن قرر الثأر لوالده، وقتل الذين ساعدوا الفرنسيين على معرفة مكان دفنه.”
ساهم هذا الشاب في اندلاع الشرارة الأولى للثورة، بمعية رفيق له يدعى “توتيكا أگ إيلادي” Tuteka Ag ELLADIحين قاموا بنصب كمين لدوريات الجيش المالي وسرقوا لهم السلاح والإبل. وبدأوا في شن الهجمات عليهم. لأن أغلب الشباب لا يتوفرون على الأسلحة الكافية لمواجهة تعسفات جيش “موديبو كيتا”. وشكل هذا الحدث بداية الثورة والمواجهات بين التوارگ والجيش المالي التي انتشرت في كل دائرة “كيدال”.
وكان رد فعل “موديبو كيتا” قويا وعنيفا، أراد أن يقضي على فتيل الثورة بلغة الرصاص والانتقام والبطش، وسلط جيوشه على المسالمين والمستضعفين وعموم الساكنة. “غير أن حكومة “موديبو كيتا” وجنودها أصبحوا كالثور الهائج، وتفجر في أنفسهم الحقد العرقي الدفين. فهاجموا المخيمات وبدأوا يقتلون الرجال كبارا وصغارا. ويجلس النقيب (ديبي) المسؤول العسكري في الصحراء على رؤوس القتلى ويستجوب نسائهم.”( محمد القشاط).
تزعم أمنوكال “كْلْ أداغ” “زايد أگ الطاهر” الثورة، واتخذت المواجهات عدة مستويات في جبهات مختلفة، كان الثوار يتعقبون عناصر الجيش المالي في الصحراء ويشنون عليه الغارات الخاطفة، فيما كان جنود “موديبو كيتا” ينتقمون من النساء والأطفال ويهاجمون الخيام والرحل. يحكي أحد الثوار الذين شاركوا في هذه الثورة ضد دولة مالي، قائلا: “واجتمعنا سبعة ثوار، سيدي الأمين، وسالم، وبشير، وأحمادو، وسميتا، وإبراهيم وأنا، وقررنا الهجوم على قرية (بوغصة) وهاجمناها. واحتمينا بالجبل. وصدتنا عن القرية ثلاث سيارات تحمل أسلحة أوتوماتيكية. فانسحبنا من الجبل ولحقنا بزيد الذي وجدنا أن الجنود الماليين هاجموا خيامه، وأخذو زوجته وابنه وجنوهما بمدينة كيدال.”
انكشفت حقيقة النظام الذي وضعه “موديبو كيتا” بحزبه الواحد، في أول اصطدام له مع انتفاضة إقليمية في الشمال، أرادت التصدي للهيمنة السياسية والعسكرية والفكرية، التي أصبحت عقيدة دولة الاستقلال. فقد أبدعت هذه الأخيرة في كل أساليب القمع والبطش، من ترويع المخيمات، وقتل النساء وعدد كبير من المدنيين والتنكيل بهم، وتنفيذ اعدامات بالجملة أمام العيان، وتعذيب المعتقلين وحرقهم، إضافة القضاء على قطعان البقر والإبل، كما يروي الكاتب عمر الانصاري في كتابه عن فصول هذه الانتفاضة.
استمرت هذه الثورة العنيفة أزيد من سنة، ووقعت معارك ومواجهات ضارية في عدة مناطق من “أداغ”. إلى أن أعلن الجيش المالي يوم 16 يوليوز 1964 عن القضاء على آخر معاقل الثوار بمرتفعات تيميترين Timetrine لكن ذلك لا يعني اخمادها بشكل نهائي، لأن الثورة لها امتدادات في الزمن والذاكرة والتاريخ.

خلفت الثورة عواقب وخيمة جدا، دمرت المنطقة بأكملها، اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، ويمكن تلخيص نتائجها فيما يلي:
سقوط المئات من الضحايا في مختلف الفئات والأعمار، بسبب شدة وطأة القمع والتعذيب والعنف الذي مارسه الجيش في حق المواطنين، وتدمير العديد من الأسر، وتهجير السكان من مواطنهم بالقوة، مما أدى إلى نزيف ديموغرافي بالمنطقة التي تعاني أصلا من قلة السكان؛
الطريقة التي تم بها اخماد الثورة، واستمرار معاركها أكثر من سنة، أدى إلى تشييع الخوف والرعب وسيادة ثقافة الانتقام، وتشويه صورة الجيش الحكومي والسلطات لدى عامة الناس باعتبارها أدوات قمع وعنف وتعذيب، عوض كونها مؤسسات تسهر على حفظ الأمن والاستقرار؛
انتصر الجيش المالي بقساوة في الميدان، لكنه تسبب في تعميق جروح لم ولن تندمل أبدا، خلق فجوة غائرة بين الدولة والتوارگ، تتمدد عبر الأجيال وتتسع عبر الزمن؛ (كيدال أصبحت عاصمة لدولة أزواد بعد اعلان الانفصال في سنة 2012 أي بعد مرور 50 سنة عن الثورة)؛
فشل الدولة المركزية التي قادها “موديبو كيتا” في تدبير مرحلة دقيقة وحساسة في انتقال السلطة والمجتمع من فترة الاستعمار إلى عهد الاستقلال، وفقد الشعب الثقة في “الدولة الوطنية” بشكل نهائي في أول اختبار؛
هروب الكثير من أبناء “أداغ” إلى البلدان المجاورة، كلاجئين في الجزائر وليبيا والنيجر وموريتانيا، مما خلف مآسي اجتماعية داخل الأسر، واستمر اللجوء سنوات بعد الثورة، بسبب تدمير قطعان الماشية وغياب فرص الشغل؛
النظام المالي قمع الثورة وأعلن نهايتها؛ لكنه لم يقم بالقضاء على الفكرة، والثوار الذين هربوا إلى بلدان الجوار، قاموا بذلك للحفاظ على أرواحهم وحياتهم، ولكنهم أيضا؛ لإعادة كتابة التاريخ من جديد. تاريخ ثورة التوارگ التي اندلعت بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي في كل من النيجر ومالي وكانت أكثر قوة وتأثيرا.

عبدالله بوشطارت:
صحفي، باحث متخصص في تاريخ الصحراء والساحل
24 نونبر 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *