ثقافة وفن

الفرياضي للكوني: “وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا”

تفاعلا مع الرسالة التي وجهها الفيلسوف والأديب العالمي، إبراهيم الكوني، لآلاف الأمازيغ من بني جلدته، الذين تظاهروا يوم 14 يناير 2024 بباريس، تضامنا مع الشعبين الآزوادي والقبايلي، والتي حازت جريدة “مشاهد” سبق نشرها، توصلنا برسالة جوابية على تلك الرسالة من الفاعل الأمازيغي عبد الله الفرياضي، هذا نصها:

[وما كنا معذبين حتى نبعث رسول] سورة الإسراء، الآية 15

فيلسوفنا وأديبنا العالمي، مولانا إبراهيم الكوني

تحية طيبة، وبعد

غيبًا وشُهودًا، لن يرى الناظر العَجُول في الوجودِ سوى كُتلًا متراكبة من الأَحاجي المُلْغِزة. لكنه ما إن يتخفف من عجلته، ويتوسل سُبُل التأني والحَصَافَة في النظر، حتى تنْهَتِكَ أمامه الحُجُبُ عن أكثر هذه الأحاجي إيغالًا في الغموض… تلك الأُحْجِيَّة التي جعلنا لها “الإنسانَ” سَمِيًّا.

يبدو أن تعريف أهل اللغةِ المدينةَ بالمقام، حين قولهم: [مَدَّنَ بالمكان، أقام به]، هو الذي جَرَّأَ أرسطو على التسلل نحو تخومِ هذه الأُحْجِية، ليَحُدَّهُ بلسان أهل الحكمة على أنه “حيوان مدني بطبعه”. أيَّا كانت ملابسات الأمر، فقد تقرر بمقتضى الحدَّ الأرسطي أنَّ مناطَ الإقامةِ الاجتماعُ، وأن الطَّبع – من حيث هو صلصال الكينونة – لم يوجب الاجتماع على الإنسان لمجرد افتقاره لأخيه الإنسان في تلبية شروط بقائه الغريزي، وإنما لحاجته إلى العيش كذلك خارج قمقم الغريزة، بوصفه “حيوانًا سياسيًا” أيضًا. وهنا نكون قد بلغنا الشق الثاني من الحدِّ الأرسطي.

فيلسوفنا وأديبنا العالمي، مولانا إبراهيم الكوني

إذا كان القول بالطبيعة السياسية للوجود البشري يعني شيئًا، فإن أهم ما يعنيه هو أن الجماعات البشرية مجبولة على اقتراف السياسية، لا من حيث هي “ممارسة” فحسب [Praxis]، ولكن من حيث هي “عقيدة” أيضًا [Dogme]. وبتعبير أدق يمكننا التصريح بأن كل جماعة بشرية تسعى إلى تملك وجودها، أو استعادة تملكه، محكوم عليها بأن تملك مرجعًا ميدانيا، ومرجعًا روحيا… فلا ممارسة بدون نظر، ولا نظر بدون ممارسة، تقريبًا على ذلك النحو الذي دعاه باشلار “عقلانية مطبقة”.

أما مردُّ هذا الكلام، فيلسوفنا وأديبنا الفاضل، فهو الحدث التاريخي الذي شهدته باريس يوم الأحد 14 يناير 2024.. حدث اختيار آلاف الأخيار من أمتنا رأسَ سنتهم الجديدة [2974] للقيام بحج معكوس إلى عاصمة النور والديجور، بِنِيَّة إسقاط ورقة التوت الأخيرة عن عورة الإنسان الأبيض، وعميله الإنسان الأسود.

لقد صدح الأخيار فعلًا بالحرية لأمتنا “المخدوعة، المخذولة، المنهوبة، والمُغَرَّبَة” – كما قمتم بالتأثيل لاسمها المُطَلْسَمِ في كتابكم “عدوس السّرى”، لكن الأهم من صدحهم بالإنكار في وجه الأغيار، هو ترنمهم بالثناء في حق اثنين من رموزهم الأبرار، أولهما إبراهيم الكوني، وثانيهما فرحات مهني.. قطب الوَهْبِ، وقطب الكَسْب. ذلك لأن الأخيار لم يحجوا إلى باريس عُزَّلًا عُراةً، بل حجوا مدججين بإيمان واقدٍ بقضيتهم العادلة، نكايةً في صقيع الشتاء الفرنسي الغاشم.

ولمَّا كان الإيمان فقيرًا إلى الكمال من غير إمامٍ، أدرك حجيج باريس من أمة التكوين أن العلة السببية لفاجعتهم الممتدة في زمنهم، النائلة من قدسية مكانهم، إنما هي كامنة في تشتتهم شَذَر مَذَر عُراةً من الإمام.

فيلسوفنا وأديبنا الفاضل،

إن حجيج سلالة اللاهوت، حين وقفوا بمشعر “الباستيل”، وألقوا السمع إلى خطبتكم الكاشفة لفداحة الحال، الضاجَّة بفادح القلق عن المآل، قد أدركوا معنى قوله تعالى: [وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا]. فمن صلب إدراكهم للمعنى الثاوي في هذا القول الرَّبّاني، أتى الاعتراف بالخطيئة.. خطيئة كونهم قد أكبوا على وجوههم في صحراءٍ بحجم الدنيا بغير إمام، ولذلك اختاروا التكريم قربانًا.

هل يكفي تكريمكم – رمزيا – أنتم والقائد فرحات مهني للتكفير عن الخطيئة؟ الجواب قطعًا لا.. لكن حسبنا أن هذا التكريم ينطوي على إقرار صريحٍ بالجُرم المقترف، ويحمل في ثنياته إعلانًا بواحًا بالتوبة النصوح إلى سواء السبيل.. ولنا في الأندلس ميعادٌ، لنصلح ما تواطأنا مع الدهر على إفساده.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *