آراء | هام

ذكرى يونيو .. فرصة العمر

رجعت إلى ذاكرة 30 يونيو مرة أخرى بعد عام طويل من المأساة، وضعت عن ظهري ثقلها التاريخي. كوّمته مع أوجاع العمر في زاوية منزلي المأجور طبعا “البرتوش” كما نطلق عليه في الصحراء، ثم جلست متمددا – كما اعتدت أن أفعل عندما اكتب – وهذه المرة فضلت أن أروي عن ذاكرة منسية لا أحد يتحدث عنها في الصحافة الرسمية، وما نشب بها من غثاء البشر وأحقادي عليهم. أكلت كسرة خبز، شربت كوباً من الشاي، قرأت كتابا بالإسبانية سموه “القوة الجديدة” أتهجا أحروفه رغم أنفي، لعلي أترجم شيئا مفيدا عنها. ثم انزلقت فوق “بونجة” متهرئة خفيفاً كريشة.

فزعت من نومي بعد ساعتين أو ثلاث، رغم أن من عادتي في شهر رمضان الخلود للنوم، استيقظت على كابوس مرعب قد زارني، رأيت أني نسيت أن اكتب عن هذه الذكرى، وتذكرت رسالة من هاتف احد الأصدقاء، وذكرني بيوم 30 يونيو، وحيث أن شهر رمضان لم تعد تميز فيه بين الليل والنهار، نسيت، إلا أن غيرته وحبه للتاريخ، أيقظتني، وتذكرت أن لا أحدا يمكن أن يكتب عنها بالغة بالغة، وبالأحرى أن يحتفل بها بما يليق بها من رمزية تاريخية.

رأيت أني لم أعد قادرا على حمل همومي وأوجاع هذه الذاكرة الروتينية في بلدتي، رأيت أني لم أعد قادرا الاستماع حتى إلى اسطوانتها المشروخة كل عام، سيمفونيتها ليست، لبتهوفن، ولا لموزار، ولا حتى لاكرمين المغنية الاسبانية، التي إعتادت زيارة جنود الإسبان بالمدينة، أيام قسوة حرب افني، لتزرع فيهم حماس القتال ضد أبائنا.

السيمفونية يا إخوة لرجل طالما تربع على مؤسسة اسمها المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، زائرا أحيانا على المدينة بمناسبة الذكرى رغم كره ردود افعال أبنائها، وربما سيكون مرتحا هذه السنة، لانهم تخلصوا من احد مزعجيه وزجوا به في السجن على ضلال، وكلما في جعبة هذا الزائر الموسمي إلى البلدة، حمله مجموعة من أوسمة تقديرية للعجزة عبارة عن “جوالق” معبئة في صناديق خضراء، ورأيت أن الرسميات -بعيدة عن الذكرى ومغزاها- وأتصور نفسي بدوري هشا ذابلا رمادي اللون، بسبب ماتعني الذكرى في تاريخ أجدادي وبين مالت إليها الأمور من سطحية في التقدير في زمننا الردئ، هذا.

بعد كل هذه السنين من عمر الذاكرة يأتينا زائر في المنام يخبرنا أنها ذكرى منسية، وتعجبت كل العجب. أنا الذي أسقي منها الوطنية في قلبي كمزارع ماهر يتعهد غرسها كل يوم، وهو ملم بما يمكن أن يؤذيه من كتب المجد الإسباني بالمدينة، وما يمكن أن يساعد على نفد ترهاتهم من المكر والخداع.

أنا الذي أوزع يومي بمعية كل الأبطال ما بين الفرح بأني تقاطعت معهم في رحلة العمر القصيرة وهم غائبون عنا في الدار الاخرة، وبين الحزن على ما تبقى من أسرهم ، لأن هذا التقاطع لم يطل كما توقعوا أن يكون طبعا. أنا الذي جمعت أشعارهم الحماسية، وحكاياتهم المغامرة أردد أشعارها في كتاب سميته “قصيدة الثورة”، أحكي حكايتنا بالأمس واليوم كقصة، وأسرد وقائع حرب لأجلك كملحمة مقدسة.. ثم يأتيني زائر في المنام عذرا من “إموسلمن ن الرباط” يخبرني أني سأنساك!

أضحك هازئاً من اولئك الدين يسترزقون من أمهات الأحداث الوطنية، ويفضلون العائدون على المقيمون …، أشفق على نفسي من هذا الاحتقار المهين، الذي كان يلمح بوجودها من حين لآخر كلما دعت الضرورة للمصالح الانية، أحاول تهدئة نفسي ولكن القلب لا يهدأ. تنتابني رجفة متواردة حتى تمر الليلة بسلام. لم أكن بردانا ولكن في الصدر ما لا يحتمل، أنفث ما استطعت منه بالكتابة، وبإطالة التفكر.. ويبقى الكثير.

الكلام يجر بعضه البعض، ولكن مع هذه الذكرى الأمر مختلف، فالكلام عنها يتزاحم، يفتقد الترتيب والانتظام، يتراكم أمام الأعين ، تتنافس الذكرى على أن تكون الحاضرة في لقاءنا المقدس احتفاء بها في كل شهر يونيو. كأن كل حكاية مدينة أطلسية تريد أن تنال السبق، وكأن العمر لا يتسع لأكثر من حكاية واحدة، وكأننا لن نكون معاً بعد أن ينسانا الزائرون.

ويزداد الأمر حماساً بقدوم عِبر التاريخ وقصص الأ بطال ببلدتي المنسية، ساخرة من البقية من “أولاد الدين” بفوقية واضحة. وأنا أمام هذا التنافس تقتلني الحيرة، واصيب بالغيثان، الوقت لا يسعفني لاختيار أكثر من حكاية.. حكاية الإكراميات البحرية والبرية … ويكفني الحديث عن عفوية اللقاء كل سنة في 30يونيو، لكي لا احتمل أن أطيل التفكر في أي مجال يكون فيه الحديث عن المتملقون المنافقون.

السعادة مضمونة في وجود هذه الذكرى أصلا، والحيرة مضمونة فلا شيء يرضيني معها غير كل التوسّع، كل الأحاديث عنها ولو بالإسبانية المحرمة في بلدت ، كل العمر… وأنت موجودة في مخيلتي وكل الغيورين من أمثالي يوافقونني الرأي.

نتذكر أحيانا ونشمئز من وقارنا وتضحياتنا دون التقدير، نتسأل أحيانا أخرى، عن أي من حكايتنا نالت الخلود في ذاكرة هذا البلد؟ وعن أي صورة لنا في محيطهم؟ أي غضب اسقوه علينا بردا وسلاما؟ أي فرح اسرنا معهم؟.. عشنا سنوات ونحن معهم، متهمون بدون سابق إصرار وترصد، عما سنكونه بعد إحياء في ذاكرتهم. أي قوم نكون؟ وأي صفة تصفوننا بها في اللحظة الأولى لتذكروننا.

من اللحظة الأولى بهمنا الأمر. من اللقاء الأول حرصنا على أن تكون يلدتنا جميلة في عيونكم، أهاليها كرماء معكم، وألا يؤذوكم أبدا. هذا الحرص النبيل تغتاله لحظاتنا العفوية وجنوننا الذي لا يعجبكم فيخرج عن السيطرة.. وهنا تكمن المخاطرة الجميلة.

أما أنا ونحن فلم ننساك ولن نفعل، مازلنا نستعيد ذكرى حكاياتنا أسلافنا الخالدة، الكاذبة تفاؤلاً، الصادقة مودة. نعيد تشكيل البعض منها مثل 30 يونيو، نقتات على أجمل ما تظهر عليه، ويوجعنا إن ظهرت على غير ما يسر. ويستفز غضبنا أن يأتيني زائر في المنام يخبرنا بكل بساطة أننا قد ينسانا.

فنقول لأمثال هؤلاء الزور فمسألة خلود من عدمه، فرصة العمر التي لن تتكرر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *