آراء

مذكرات لخلط الأوراق وتشويه الذاكرة الوطنية: “عرشان” نموذجا

إذا كانت المذكرات نوعا من أنواع الكتابة التاريخية، مما يعني اهتمامها بوصف الأحداث وتعليلها، وبالأخص تلك التي لعب فيها كاتب المذكرات دورا ما؛ وإذا كان هذا الصنف من الكتابة التاريخية، يتفرغ له بعض القادة، في أواخر حياتهم، معتمدين في تدوين الوقائع على الذاكرة، سواء من حيث المعايشة أو المشاهدة، فإن كتابة المذكرات أصبحت عندنا، اليوم، وسليلة يتخذها بعض الأشخاص لتشويه الذاكرة الوطنية الجماعية، وذلك بخلط الأوراق وتحريف الوقائع التاريخية وتزوير التاريخ الشخصي (أو على الأقل السكوت عنه) لكونه غير مشرف وغير نضيف.

فبعد مذكرات الضابط السابق في الجيش الفرنسي، “المحجوبي أحرضان”- التي سكت فيها عن حياته الحقيقة (انظر “الاتحاد الأسبوعي”، عدد 10610، بتاريخ السبت 25 – الجمعة 31 يناير 2014)، وكذب فيها على التاريخ ليس من أجل تبيض سيرته الخاصة والعامة فقط، بل والتجني على الحقيقة التاريخية الناصعة بجعله “المهدي بنبركة” خائنا و”محمد أفقير” وطنيا-، طلعت علينا مؤخرا بعض المواقع الإليكترونية بخبر صدور مذكرات “محمود عرشان”.

فحسب ما قرأته في أحد المواقع الإليكترونية، فإن “محمود عرشان” أنهى طبع مذكراته في شهر مار س من سنة 2005 واختار لها عنوان “من أجل الوطن والشرف”. ودائما حسب نفس الموقع، فـ”من خلال التقديم الذي وضعه بنفسه لهذا الكتاب، يتضح أن فصوله ستطال مسارات مختلفة، وستنطوي على شهادات دامغة وصادمة، بدأ في تدوينها قبل صدور الكتاب بثلاث سنوات” (لم يشر الموقع لا إلى دار النشر ولا إلى مكانه ولا إلى تاريخه).

ومن خلال ما ورد بعد ذلك على لسان صاحب المذكرات (أشير إلى أن هناك مواقع أخرى، رددت نفس الكلام نقلا عن “محومد عرشان”؛ فالتباين الوحيد يوجد في العنوان الذي اختاره كل موقع لمادته ا”لإخبارية”)، يتضح (ويبقي الأمر من اختصاص المؤرخين القادرين على تمحيص الأقوال وتمييز الكذب عن الصدق باعتماد المنطق واستعمال التحليل العلمي والمهارة الأكاديمية) أن الهدف هو التشويش على الذاكرة الوطنية الجماعية من خلال خطة خلط الأوراق لجعل منطق “أولا عبد الواحد كلهم واحد” هو السائد؛ أي أن يعتقد الناس بأن ليس هناك من هم أحسن أو أفضل من الآخرين، حتى وإن كان هؤلاء الآخرون خونة أو قتلة أو مقترفي الانتهاكات الجسيمة للحقوق الإنسان، إلى غير ذلك من الجرائم ضد الإنسانية. فأن يقول الكوميسير السابق “عرشان” إنه رأى أشخاصا “يحجون إلى منزل الوزير الأسبق(“إدريس البصري”) في ساعات متأخرة من الليل، ويدخلون خفية من الأبواب الخلفية، وبعد محادثات مطولة مع البصري، الذي كان يتركنا في صالون منزله ليقوم باستقبالهم (يخيل إلي أني قرأت هذا الكلام من قبل في إحدى الجرائد الورقية)، كانوا يغادرون المنزل في غسق الليل وكثير منهم يخرجون بحقائب “سامسونيت” يعلم الله وحده وإدريس البصري وهم ما بداخلها”، ليدعي، بعد ذلك، “أن من زوار الليل هؤلاء، “كان ‘علي يعتة’ و’بن سعيد أيت يدر’ و’الحبيب الفرقاني’…”.

فما الهدف من اتهام رجال من طينة المقاوم الكبير” محمد بن سعيد أيت يدر” (أطال الله في عمره) والمرحوم “علي يعتة” والمرحوم الفقيه “محمد الحبيب الفرقاني”… بزيارة البصري خفية لمصالح شخصية أو تقربا وتوددا أو لتقديم خدمة ما حسبما تقتضيه محتويات الحقيبة المحصل عيها، إلى غير ذلك من الافتراءات والترهات وما تحمله من الحقد على كل ما هو جميل في تاريخنا الوطني…، إن لم يكن زرع الشك والبلبلة في نفوس من يعرف هؤلاء الرجال عن قرب أو من يسمع عنهم فقط؟ وما معنى أن يسيء هذا الجلاد، وفي هذا الظرف بالذات، إلى “رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا”.

أستحضر، هنا، ما كتبه الصحافي المقتدر، “لحسن العسبي”، في مطلع التقديم الذي وضعه للملف الذي خصصته جريدة “الاتحاد الاشتراكي”، في العدد الذي أشرنا إيه آنفا، بعنوان “حياة أحرضان الحقيقة التي لم يكتبها في مذكراته”، حيث قال:”منذ شهور وعدد من المحاميل التواصلية المغربية (جرائد، مواقع لإليكترونية، مجلات)، تمارس ‘رياضة استذكار’ لقصصنا الجماعية والفردية في التاريخ، وأساسا التاريخ الحديث للمغاربة، وهو أمر مطلوب وجيد. لكنه حين يصبح يراكم ملامح توجيه معين، غايته فقط صناعة واقع حقيقة معينة، بدلا من الحقيقة كما هي، كواقعة وقعت وانتهت في الزمن، فإن ذلك يطرح أسئلة أخرى حول الغاية المحركة لذلك كله”.

لا يحتاج المرء أن يكون ذكيا ليدرك، بعد قراءة ما يقارب الصفحتين اللتين تداولتهما بعض المواقع، الهدف المتوخى من مذكرات “عرشان”. فإلى جانب ذكره لـ”جلال السعيد”، باعتباره صنيعة البصري الذي له الفضل في كل المسؤوليات التي تقلدها، أدرج اسم “محند العنصر” في مقدمة لائحة، فيها أسماء وازنة من الصف الوطني الديمقراطي والتقدمي، لهم تاريخ مشرِّف ومشرق، نضاليا وسياسيا وثقافيا وعلميا. فحين يقول؛ “إنني أتساءل اليوم عما يمكن أن يقوله أشخاص مثل محند العنصر وإسماعيل العلوي والتهامي الخياري وعيسى الودغيري (يقصد الورديغي) وعبد الله ساعف وخالد الناصري وفتح الله ولعلو… وآخرون للجهات التي احتموا بها، عن علاقاتهم مع البصري، التي كانت تجعل منهم منتخبين فائزين بكل محطة انتخابية من دون مشاكل”، فإنما يريد أن يعطي الانطباع (الذي لن ينطلي إلا على السذج ولن يرضي إلا الذين لهم حساباتهم الخاصة في النيل من الأشخاص المذكورين) بأنه لا يستثني في “شهادته” لا اليمين ولا اليسار.

وبما أن تاريخ الرجل غير مشرف لكون اسمه ورد ضمن لائحة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، التي وصمت جبين المغرب خلال ما يعرف بسنوات الجمر والرصاص، فقد اختار، بوقاحة ما بعدها وقاحة، أن يسيء إلى سمعة رجال يعرف، أنهم وطنيون ومستقيمون ومناضلون ضد الاستبداد الذي لم يكن البصري سوى إحدى أدواته. فهل نسي أو تناسى أن القيادة الاتحادية، وعلى رأسها القائد الفذ، الفقيد”عبد الرحيم بوعبيد”، قالت “لا” ليس فقط للبصري، بل للملك الراحل الحسن الثاني حين قبل بالاستفتاء في أقاليمنا الجنوبية؟ وكان ما كان من محاكمة صورية ومن إبعاد إلى “ميسور”، الخ. فصراع الاتحاد ضد الاستبداد له تاريخ وله تضحيات جسام، لن تنجح المحاولات في طمس معالم حقيقة ذلك. فالتاريخ يصنعه الرجال والنساء بتضحياتهم واستماتتهم في مواقفهم. ولم يكن الجلادون أبدا من صناع التاريخ، إلا تاريخ الخزي والعار.

وزيادة في جرعة الوقاحة، سمى بعض الأسماء بالشخصيات الورقية، حيث أكد أنه رأى من ضمن زوار الليل لـ”إدريس البصري” “شخصيات ورقية مثل الريح وإدريس لشكر وعليوة، والذين كان عدد منهم يتسلون بلعب أدوار كوميدية في البرلمان، وعلى مستوى لجانه وجلسته العامة بتوجه انتقادات لاذعة لإدريس البصري، وكأنه لم تربطهم به أية علاقات”. وكأني بـ”عرشان” قد استنجد، في وقاحته، بذاك الأعمى الذي كان يردد دائما في دعائه:”الله إيكَادْها”؛ بمعنى أن هدف الأعمى هو أن يصبح كل الناس عميانا؛ وكذلك الأمر بالنسبة لصاحب المذكرات المعنية. فهو يعتقد أنه بتلطيخ سمعة الأسماء المذكورة في مذكراته، سوف يتساوى الجميع وينسى الناس ماضيه كجلاد، اكتوى بسياطه خيرة المناضلين وصناديدهم.

وإمعانا في محاولة التضليل، للرفع من قيمة ولي نعمته، من جهة، وتبييض تاريخيه المقيت، هو كجلاد، بمحاولة تشويه تاريخ شخصيات وطنية مشهود لها بالعلم والمعرفة وبالتضحيات الجسيمة، من جهة أخرى، فقد ادعى أن الوزراء، كذلك، “تكنوقراط وسياسيين من اليسار واليمين، (كانوا) يطوفون بالكيلومتر 5.5 طلبا لمباركة مشروع ما، أو حماية لمنصب في تعديل حكومي محتمل أو طلب توجيه النصيحة فيما ينبغي أن تكون عليه درجة الخطاب والموقف داخل المجالس الحكومية، أو ببساطة لأجل التصفيق لمبادرة من مبادرات البصري اليومية”. ويتحدث الرجل بوثوقية تامة وكأنه كان كاتم أسرار البصري وذراعه اليمنى، بل وظله الذي لا يفارقه.

ألم يكن حريا به أن يعنون مؤله بـ”مذكرات جلاد”، بدل “من أجل الوطن والشرف”؟ فلو كان فعل، لأسدى خدمة كبيرة للتاريخ وللمؤرخين الذين يهتمون بفترة ما يعرف بسنوات الجمر والرصاص، وستكون أفيد للوطن الذي يتوق إلى الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وبناء دولة الحق والقانون ودولة المؤسسات. وقد يحترمه الناس، آنذاك، على جرأته. لكن، ليتأكد “عرشان” بأن حبل الكذب قصير وأن “الحق يمحو الكذب”، كما قال “محمد بن حمو” في شأن ترهات وأكاذيب “أحرضان”. وعلى الأقل، كان عليه أن ينتظر حتى ينقضي (أو يتضاءل) عدد الذين عانوا من الاعتداء على آدميتهم ولا زالوا يحملون في أجسادهم آثار التعذيب الوحشي والهمجي الذي مارسه “عرشان” وأمثاله. لكن من أين له بحكمة ذاك الرجل الذي أجاب ولده حين قال له: “أبَّا بْغِينا نْوليْوا شُرفا، قالو حتى إيمُوتوا أولدي لِّي كَيْعرفونا”.

يبقى أن نشير إلى أن هناك ما يحير في إصرار بعض المنابر على ترويج الأضاليل التي ينسجها أمثال “عرشان” وبعناوين مثيرة، مثل “فضيحة… هؤلاء السياسيون الذين كانوا يتسللون إلى بين إدريس البصري ليلا”. هل الصحافيون العاملون بهذه المنابر لا يعرفون تاريخ المغرب الحديث ويجهلون من هو “محمود عرشان”؟ فإذا كان الأمر كذلك، فهم، ولا شك، يعتقدون أنهم يحققون سبقا إعلاميا كبيرا، دون أن يدروا (وقد يكون من بينهم من يدري؛ وبهذا فهو يساهم في جريمة ضد الوطن وضد التاريخ وضد الذاكرة الوطنية الجماعية…) أنهم يساهمون في نشر ثقافة الإشاعة التي لا علاقة لها بالحقيقة؛ وبذلك يعملون على بث الشك وزعزعة الثقة ويدفعون بالشباب إلى الهروب من السياسة. ويخدمون بذلك مشروع الجهات التي تعمل على إجهاض المشروع الوطني الديمقراطي، خصوصا بعد أن هيأت تلك الجهات لمشروعها “جيلا من الضباع”، كما تنبأ بذلك الفقيد الكبير”محمد كسوس”.

في الختام، أود أن أعتذر للذين ألفوا قراءة مقالاتي المتواضعة عن الهفوات والأخطاء التي قد تكون بقيت في هذا المقال؛ وذلك لكوني كتبته (على غير عادتي) ليلا بسبب السهاد وهجران النوم لجفوني حيث قضيت ليلة السبت إلى الأحد بيضاء بكل معنى الكلمة. ويرجع السبب، فيما أعتقد، إلى المضاعفات الجانبية للدواء الذي وصفه لي الطبيب لأني طريح الفراش منذ مساء يوم الأربعاء الماضي. ومن حسن الحظ أن المادة كانت متوفرة لدي والموضوع كان قد اختمر في ذهني. لكن، من حيث الصياغة، لا أعتقد أنه سيكون في مستوى المقالات السابقة. فمعذرة، مرة أخري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *