ملفات

30 يونيو 1969 .. يوم سلمت إسبانيا سيدي إفني للمغرب

تختزن الذاكرة الجماعية لمنطقة افني- آيت بعمران، حقائق مثيرة، لتاريخ مثير أيضا، ورموز صنعته أسماء نتجاهل قيمتها التاريخية وتركت لمسات في استعادة سيادة المغرب. كما تختزن هذه الذاكرة تجربة سياسية مازالت قيد الطمس والكتمان، ولم يقرأها بعد أبناء الوطن، وقائع جديرة للتمعن، من خلال أرشيف تصل وثائقه السرية إلى الآلاف، تؤرخ لفترة الإدارة الاسبانية للصحراء، مازلت تحتفظ بها الدولة الاسبانية ولم ترفع عن سريتها بعد، دون طبعا أن تكون للحكومات المغربية المتعاقبة من جهتها نية إقناع الدولة الاسبانية لاستعادة هذا الأرشيف، مادام أن الأمر يدخل ضمن الذاكرة الوطنية. وتبقى بعض الكتابات الإسبانية تؤرخ للمرحلة يمكن الاستئناس بها ولو بتوجه كولونيالي، غير أنها تبقى مفيدة لفهم تاريخ افني.

وسنحاول من خلال هذه الزاوية محاولة ترجمة بعضها، والهدف من هذا الإنجاز هو رد الاعتبار لتاريخ المنطقة ولفهم الماضي من اجل الحاضر والمستقبل، مادام أن عدو السياسي يبقى هو المؤرخ، فلنبدأ بقراءة متأنية في تحقيق لكتاب “تسليم سيدي افني أراء ومواقف”، بدء بما حدث في مثل هذا اليوم من 30 يونيو 1969.

قرار تسليم افني

تسبب توقيع معاهدة التسليم سيدي افني إلى المغرب، في غليان اجتماعي، على إثر الضجة الإعلامية التي أثارها القرار الذي انتقدته الصحافة الإسبانية، واعتبرته مهزلة بكل المقاييس، فتوالت انتقاداتها اللاذعة حول طبيعة النقاش الذي كان سائد بالبرلمان (الكورطيس)، وما خلفه التصويت على القرار من ردود أفعال متباينة، خاصة وأن فرز الأصوات أبان عن ترتيبات معدة مسبقا من مسوؤليين إسبان لمعالجة المشكل، ورغم ذلك، التزمت وسائل الإعلام الإسبانية بنوع من الاستقلالية في المواقف، ولم تعاكس توجه البرلمان بشكل علني، خاصة وأنها لم تعطي للموضوع ما يستحقه، مخافة أن تتهم بتحريض الشعب، ضد إعلان التخلي عن مستعمرة افني.

من جهتها تسجل نفس الصحافة مؤاخذات على المنتظم الدولي، فتعتبر تسليم افني نوعا من الإجحاف وعدم المساواة في قراراتها، خاصة وأن هذا التسليم يعتبر بالنسبة إليها هدية، إذا ما قورنا بحالة الإسبان في نفس الوضع، وهي مافتئت تطالب بجبل طارق غير أنها تصطدم بموقف المملكة المتحدة المتعنت.

وعموما، فإن التوقيع على معاهدة تسليم افني إلى المغرب يشكل بالنسبة للصحيفة أمرا ايجابيا للجماهير الإسبانية، وفي نفس الوقت يعتبرا قرارا شجاعا، ومثالا لدول يقتدي بها في الإمتثال لقرارات الأمم المتحدة وعلى رأسها المواثيق الدولية. إجمالا يبدو أن المصادقة على وثيقة التسليم صيغة قدمت على شاكلة تصور لموقف ايجابي للرأي العام الاسباني، انفردت به اسبانيا يجب الاقتداء به في تطبيق التعهدات والالتزامات الدولية، وكعرض كريم للشعوب المستضعفة، ودرس للقوى الاستعمارية الأخرى.

التسليم .. بين القبول والرفض

وظهر أيضا، في أعقاب هذا القرار خطاب مزدوج يختلف عن الخطاب المعتاد للنظام ينشد بالتقاليد والروابط العريقة للصداقة الاسبانية المغربية، وشدد بشكل ملحوظ على دلالات ومعنى ذكريات “الحرب المنسية” مابين فترة 1957-1958 في وسائل الإعلام أو في خطابات النظام إلى غضون الأشهر التي سبقت عملية التسليم. وما أعقبه بعد ذلك من نقاش استغرق مدة طويلة حول الموضوع تم طرحه على مختلف المستويات، وفي نفس السياق تم استثناء خطاب المعارضة وتجاهله رغم أنه كان المهيمن، والذي صاغته القوة الجديدة Fuerza Nueva، التي رفضت تسليم افني.

تميزت المفاوضات مع المغرب بشأن قضية إفني، بنوع من التبصر والحكمة والطاعة أيضا، حيث تم الإتفاق بين الطرفين على أن تمر الأجواء بشكل عادي، أثناء تسليم السلط، وإحاطة مضامينها بالسرية التامة، حتى يتم في نفس الوقت تسهيل مأمورية عودة الجيش الاسباني إلى ثكناته العسكرية.

وفي هذا الصدد كتب المؤرخ العسكري غابرييل كاردون، عن هذه اللحظة، وقال عن الجيش: أن لا أحد “انتقل إلى أماكن المغادرة” قبل التسليم، وقد أبانت القوات المسلحة الإسبانية عن تبثاها، وأبانت عن حسن إخلاصها وتقديرها للحظة بل جدارتها في الانضباط.

البيان الرئيسي الذي تمت كتابته، يتعلق بالمقيمين الإسبان في المنطقة المستعمرة، أسبوعية A.O.E. Semanario Gráfico de Africa Occidental Española الناطقة الرسمية باسم الطوابير العسكرية الاسبانية، أشارت إلى بدء المفاوضات مع المملكة المغربية في أكتوبر 1968. في 31 ديسمبر من العام نفسه، وسبق للصحيفة  أن نشرت أخبارا تتعلق بما يحيط بملف افني من ردود أفعال وأوردت في نفس الوقت خبر مغادرة الإسبان للمدينة.

مجلة Reconquista، أو مجلة “الروح العسكرية الإسبانية”، مقالاتها تعكس الحزن والحسرة في فقدان المدينة، وسوء الفهم الكبير عن الإجراء الذي اتخذته الحكومة الاسبانية واعتبرته عبثا وموقفا غير رزين اتخذته اسبانيا في حق المدينة. وفي افتتاحيتها عبر مقال رئيس تحريرها، العقيد لويس سايز Govantes، لاحظ أن الزمن قد تغير واختفت جبهة “الشعور والإجماع” التي أشعلت القتال من 1957 من أجل شرف الدفاع عن الوطن، والآن تسليم المنطقة فقط يعني عدم “اللامبالاة” عموما. توديع إفني يعني إغلاق “التاريخ الكبير لإسبانيا”. إن بلدنا ينسى همومه ومشاكله، وينكب على طاعة المخططات الواسعة لحفظ السلام في الأمم المتحدة. وكان تسليم افني خيبة أمل، مادام أن الجيش كان يشعر دائما أن افني جزء من بلده.

يتبع ..

جانب من لحظة توديع سكان افني للإسبان في سيدي افني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *