ثقافة وفن

صورة الطفل الشهيد .. بين عين الكاميرا وبصيرة الشاعر

من فرط الاعتياد، تألف أنظار العالم مشاهد الحرب المستعرة في أكثر من منطقة.. مشاهد الدمار والخراب، وصور الأجسام الدامية، المقطعة الأوصال، والوجوه المعجونة بالإسفلت والحجارة والحديد (..) أضحت مادة “دسمة” في نشرات الأخبار.. تتصدرها غالبا، وتتوسطها أحيانا، ويحدث أن تدرج في ذيلها.. فثمة اختلاف في أشكال توظيف المادة وفق توجه وزاوية نظر كل وسيلة إعلام..

لكن، يحدث في خضم عبثية الحرب ووحشيتها، أن “تهز” صورة ما يوصف بـ “ضمير العالم!”.. وهل يستقيم الحديث عن ضمير عالم يقف عاجزا أمام الزحف الكاسح لآلة الفتك الجهنمية؟.. الصورة تلك تظل “خالدة” لا تؤرخ للوحشية فحسب، بل تلاحق باللعنة والعار مقترفيها الطغاة العتاة، المخططين للحرائق ومشعليها وفق أحدث ما جادت به العبقرية التكنولوجية العسكرية، ومقابلها العقلية البدائية لجماعات الظلام الخارجة من جحورها المدلهمة، متعطشة للبطش والقتل.

هل حقا أحدثت صورة الطفل السوري الذي طفت جثته، مؤخرا، على شاطئ بتركيا بعد أن قضى غرقا وهو يحلم بدفء حياة في أرض آمنة، “صدمة” حول العالم؟ هل قضت مضجعه وجعلته لا يغمض جفنا إلى حين استئصال الداء من جذره¿.. أثيرت ضجة بعد نشر الصورة، وتحركت دول لاستقبال آلاف اللاجئين وتمنعت أخرى، ومازال حبل الجدل مشدودا حول مصير شعوب منكوبة متروكة لقدرها المشؤوم..

قبل ذلك، من لا يتذكر صورة الطفل محمد الدرة وهو يحتمي رفقة والده خلف برميل إسمنتي، في انتفاضة الأقصى عام 2000، على مرمى بنادق جنود الاحتلال الإسرائيلي؟.. صورة الطفل الذي خمدت روحه على فخذ والده تؤرخ، حتما، للقطة من لقطات الوحشية.. إلا أنها أضحت صورة من الماضي، “محفوظة” ضمن الألبوم الأسود لأعمال البطش والقتل المتتالية على مدى عقود أمام أنظار العالم..

صورة الطفل الشهيد الملتقطة بعين الكاميرا تثير المشاعر والأحاسيس على مدى أوسع، كونها تلج كل بيت وتطوف العالم – القرية. لكن ثمة بالمقابل صورة أخرى أبعد عمقا في كشف الوحشية، وإن كانت محدودة الانتشار، كون تداولها يظل نخبويا.. إنها الصورة الإبداعية في الشعر، والقصة، والرواية، والتشكيل، والسينما..

في رواية جورج أورويل “1984”، يشد القارئ تصوير مدهش لمشهد مفزع من فيلم حرب.. مشهد سفينة في عرض البحر محملة بلاجئين وهي تتعرض لقصف الطيران.. رجل يحاول النجاة عبثا، قبل أن يبتلع الماء جثته بعد أن غمر ثقوبها الرصاصية.. ثم مشهد امرأة فوق قارب نجاة تحمي طفلها في حضنها .. ينفجر القارب جراء قنبلة ملقاة من مروحية.. وتتطاير ذراع طفل في السماء..

الخزانة الأدبية والفنية الفلسطينية تزخر بأعمال متفردة حول مأساة شعب يجسدها أطفاله الراحلون الشهداء، والمقاومون الأحياء.. إبداعات متميزة من قبيل قصة “الصغير يذهب إلى المخيم” لغسان كنفاني، وصور الطفل “حنظلة” في لوحات ناجي العلي، وصورة الطفل الذي سيولد في شارع الموت ليلعب بطائرة من ورق بألوانها الأربعة ثم يدخل في نجمة شاردة، في “حالة حصار” لمحمود درويش..

الشاعر اللبناني بول شاوول تألم كثيرا بعد أن رأى على شاشة التلفاز أطفال غزة تحصدهم آلة القتل الإسرائيلية ذات رأس سنة (2008 – 2009).. كان عليه إما أن يخبط رأسه في الجدار أو أن يبكي طويلا.. بدل ذلك قضى الليل في كتابة قصيدته الطويلة: “هؤلاء الذين يموتون خلف أعمارهم”.

الشاعر السبعيني ذو الملامح الطفولية افتتح بهذه القصيدة أمسية شعرية نظمها الأسبوع الماضي (بيت الشعر) بالمنامة، واختتمها بقصيدة أخرى عن الأطفال الشهداء بسورية، بإلقاء شعري لم يخل من “مسرحة”.. كان في إيماءات حركته وإيقاعات صوته أشبه بمن يحضن طفلا..

شعر بول شاوول تجريبي طالع من الحياة، لا نظري. شعر حرفي أنضجته المعرفة والخبرة والتراكم. والكتابة لديه ليست بالعملية السهلة، كونها مخاض مشروع لغوي وداخلي كبير، قائم دوما على فعل التجريب الذي ينهل من مخزون ثقافي ولساني وإنساني.

“هؤلاء الأطفال الذين لم يكبروا/ كما يكتمل بدر أو تعتدل ظهيرة/ أو يرمش مغيب/ وعندما لن يكبروا تخلت أيامهم/ عن أيديهم أمامهم/ هؤلاء الأطفال الذين لن يكبروا/ ضاق الفضاء بكواكبهم المكسورة/ بجذوعهم الطرية/ بأصواتهم البطيئة”.

أمام مشهد الدم الفجائعي التراجيدي، ثمة بصيرة شعرية متقدة تعيد صياغة تيمة الموت.. الأجساد الغضة البريئة للأطفال الشهداء تكبر خلف موتها، والقتلة – الوحوش الضارية، يهرمون بقتلهم، قبل موتاهم، كما هرموا بكلامهم..

التخيل الصوري لدى صاحب “أيها الطاعن في الموت” و”كشهر طويل من العشق” يرسم مدارات أخرى للزمن، والولادة والموت.. ” كأنهم لم يولدوا (وماتوا)/ أو كأنهم ولدوا لحظة كثيرة/ لتكون لحظاتهم أكثر/ لتكون لحظاتهم القليلة أعمارا خاطفة ولا نهارات/ أعمارا تقفز فجأة من العدم إلى البياض الأخير”.

وفي التشكيل البصري للقصيدة ، تدخل “لا” النافية بقوة في تركيب الكلمات.. “لا” الدالة على الفقد، الانقطاع، أو التلاشي.. “هؤلاء الذين يكبرون خلف موتهم/ ولا سنوات تحصى، ولا أسماء/ ولا لحظات تروى/ لإرث أو لمقام”.

ولو أنها كتابة شعرية مرتبطة باللحظة، في شراستها وعنفها الوحشي، جاءت قصيدة شاوول متحررة من الخطابة والانفعال والتحريض.. فثمة اشتغال حذق بالمجاز على صياغة الفكرة، وتوليد الصورة تلو الأخرى، في ما يشبه ملحمة تنتصر للحياة الطالعة من الموت، بضخ الروح والنضارة في جسم الطفل – الشهيد، وكشف عجز وتلاشي الوحش – القاتل..

“للموت ملمح طفل واحد في ميتات كثرى واحدة/ للموت طرق لا تعبر الليل/ إلا بأخفاف غامضة/ ولا أطراف أو أنفاس/ تمسك ولو هبوبا خفيا أو صرخة غير معلنة كأن تسقط نوافذ على حلم سحيق خلف أيامهم المسبوقة/ ولا سابق إلا ما يسرده الصمت على جلودهم”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *