ثقافة وفن

الصويرة تكرّم أيقونة موسيقى كناوة محمود غينيا

خلال دورة هذه السنة من “مهرجان كناوة وموسيقى العالم” تخلف محمود غينيا عن المشاركة، فلم يسمع صوته أو تتردد نغمات هجهوجه، الآلة الوترية التي رافقته على مدى سنوات طويلة.

غيّب الموت هذا الفنان المتميز، غير أن طيفه ظل حاضرًا، بشكل عميق، من خلال تساؤلات عشاق فن “كناوة” ومنظمي المهرجان، بخصوص الكيفية التي يمكن لدورة المهرجان، لهذه السنة، أن تنجز وتنظم من دون مشاركة محمود غينيا، أحد أهم نجوم فن “كناوة”، الذي فقدته الساحة الفنية خلال السنة الجارية، وكيف يمكن تجاوز الفراغ الذي سيتركه غياب قيمة فنية من طينة محمود غينيا، الذي كان من الوجوه الرمزية، بل الوجه الرمزي لمهرجان “كناوة”.

ركن أساس

أعطت مشاركات غينيا للدورات السابقة دلالة وعمقًا، فهو كان يستنشق الموسيقى ويعيش بالموسيقى، فعاش فخورًا بفنه بكاريزما خاصة وموهبة موسيقية عظيمة، جعلته لؤلؤة “التكناويت” في الصويرة، ولذلك كان طبيعيًا أن يترك رحيله العائلة “الكناوية” يتيمة، كما ترك فراغًا في “مهرجان كناوة وموسيقى العالم” في الصويرة، هو الذي وهب موسيقاه إلى العالم.

أقرت نائلة التازي، منتجة المهرجان، بقيمة الفنان الراحل وإسهاماته الكبيرة في إشعاع فن “كناوة”، وتميز مهرجان الصويرة، الذي شهد ولادته وشارك في تطوره، كما عاين نموه وعاش معه، مشيرة إلى أن تنظيم دورة هذه السنة، أشهرًا بعد رحيل أيقونة فن “كناوة”، “كان صعبًا على المنظمين وعلى عائلة الراحل والجمهور”؛ قبل أن تواصل شهادتها في حق الراحل، قائلة: “لقد كان محمود الأب الروحي للمهرجان وأيقونة فن “كناوة” ووجهًا بارزًا لمدينة الصويرة. كما كان يجلب جمهورًا غفيرًا، وكانت له مكانة مميزة في المهرجان، ولذلك كان يحظى ببرمجة خاصة”.

وبقدر ما تجمع مختلف الشهادات، التي صدرت في حق محمود غينيا، الذي توفي يوم 2 أغسطس الماضي، في مدينة الصويرة، عن عمر 64 عامًا، بعد معاناة طويلة مع المرض، على قيمة الرجل ومساهماته في الارتقاء بموسيقى “كناوة” إلى العالمية، رأت أن رحيله يشكل “خسارة كبيرة” لهذه الموسيقى التي تمثل أحد عناوين الانتماء الأفريقي للمغرب.
مزج موسيقي

من جهته، وصف أندري أزولاي، مستشار العاهل المغربي والرئيس المؤسس لـ”جمعية الصويرة موغادور”، الراحل بـ”أيقونة تراث كناوة”، وبـ”المعلم الكبير المتمكن من فنه”، الذي “كان شخصية أساسية في نجاح واستمرارية “مهرجان كناوة وموسيقى العالم” في الصويرة”.

ويعد محمود غينيا أحد أبرز رموز موسيقى “كناوة”، ويحسب له أنه تمكن من امتلاك التقليد “الكناوي” الأصيل امتلاكًا تامًا، بل وتعدى ذلك، بحكم ميزته كموسيقي عالمي، انفتح على موسيقى العالم، وانصهر فيها، بانسجام بارع. كما استطاع أن يغري آلاف عشاق الموسيقى، الذين استحسنوا موسيقاه وموهبته وحضوره في المسرح الفني.

وبفضل جاذبيته وابتسامته الأزلية، كان يحوِّل مروره العابر على المسرح الفني إلى ذكرى راسخة تثلج الصدور وتغذي الأرواح. واستطاع محمود غينيا أن يستثمر إرثه ويسافر به ويوظفه بشكل جيد، حيث يحسب له أنه كان من المبادرين إلى المزج مع موسيقيي الجاز، فسجل ألبومًا مع عازف “الساكسوفون” فاروا ساندري، سنة 1991، بعنوان “جذبة سبعة ألوان”.

اتقان الهجهوج

وبفضل مهرجان “كناوة” صار لغينيا صيت عالمي، فسافر بموسيقاه إلى اليابان والولايات المتحدة وكندا والشرق الأوسط وغالبية دول أوروبا، كما تقاسم المنصة مع أكبر الفنانين، فأنجز مزجًا موسيقيًا غير مسبوق مع موسيقيين عالميين، أمثال أدام رودولف وويل كالون وإسحاق صو وعلي كيتا وودابي توري، فضلًا عن لقائه مع كارلوس سانتانا سنة 1994 في الدار البيضاء، حيث أثبت أنه “معلم”، فعلًا، بحكم قوة شخصيته والكاريزما الفعلية التي يمتلكها.

ولد محمود غينيا في مدينة الصويرة سنة 1951. ويذكر اسمه العائلي بالتجذر الأفريقي، حيث ترجع أصوله إلى السنغال من جهة جد أمه، وإلى مالي من جهة جد والده، الذي جاء إلى الصويرة سنة 1927. وكان الجد سامبا غينيًا، وهو اسم يمزج وحده الموسيقى والرقص والسحر الأفريقي، كان طبيبًا برتبة عريف آنذاك، وكان يعالج، أيضًا، الاختلالات النفسية من خلال حصص الجذبة، مرة في الأسبوع.

وقد انصهر هذا التقليد في محمود غينيا، بفضل جده ووالده أبو بكر، حيث كان يحضر “الليلات (ليالي كناوة) في سن مبكرة جدًا. وهكذا، جيلًا بعد جيل، كانت الموسيقى تجري في دم محمود غينيا، وفي جيناته، بفعل ولع وإرث عائلي، حيث سينقل “المعلم” أبوبكر غينيا، إلى ابنه محمود موهبة اللعب على آلة “الهجهوج”، منذ أن كان يبلغ من العمر 12 سنة، قبل أن يحوز، بعدما أكد قيمته وحضوره، لقب “معلم المعلمين”، وهو الذي، حين كان يبدأ العزف، كانت الحشود، التي تفيض بها ساحات الصويرة، لتصيح طربًا، كأن حالة هستيريا مسّتهم.

انسلاخ

وحين كان يطلق الجملة الأولى من أغنيته، بلغة أقرب ما تكون إلى الرطانة الأفريقية، تتحرر أجساد الناس من كل قيد، وتنخرط الساحة كلها في الرقص، فيما يتعالى صوت محمود غينيا كأنه في أرض خلاء، في مجاهل أفريقية، هو الذي كانت “تكناويت” تبدو كما لو أنها قدره، إذ عندما كان يؤدي مقطعًا موسيقيًا تجده يغيب عن الوجود، ويحرق المسافات بينه وبين عشاقه، لتسبح روحه في ملكوته الخاص، ويحمل معه مستمعيه فوق السحب، فـ “تكناويت” شفاء، أيضًا، ولطالما تداوى بها العديد من الأشخاص.

خلال دورة هذه السنة، افتقد الجمهور محمود غينيا. وفي ليلة التكريم، التي خصصت له ولـ”ساحر الطبل السنغالي”، الراحل دودو ندياي روز، خفف تواصل عطاء شجرة أسرة غينيا في إمتاع عشاق موسيقى وفن “كناوة” من الفراغ الذي تركه الراحل الكبير.

وغير بعيد عن منصة مولاي الحسن، احتضنت زاوية سيدي بلال تكريمًا خاصًا للراحل، أقامته له مجموعة من “المعلمين”، يتقدمهم سعيد بولحيماس وعلال ونجيب السوداني وسعيد بوركي. وحين انتهت ليلة التكريم، ترحم الجمهور الغفير على الراحل محمود غينيا، مستحضرًا جملة الوداع الشهيرة، التي ألقاها في الجمهور، خلال فعاليات الدورة الماضية: “مات محمود .. وسيبقى غينيا خالدًا”.

* موقع إيلاف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *