وطنيات

تصريحات الزفزافي تعيد قانون مناهضة التعذيب إلى الواجهة

هل تصريحات ناصر الزفزافي أمام هيئة المحكمة التي ادّعى فيها أن رجل أمن “عبث بمؤخرته” تشكل عناصر تكوينية مادية ومعنوية تقوم معها جريمة التعذيب كما هي محددة في التشريع الجنائي الوطني وفي الاتفاقية الدولية ذات الصلة؟ وبتعبير آخر، هل نحن أمام جريمة التعذيب أم في مواجهة جرائم شطط الموظفين المرتبطة بالصفة والتي يرتكبها الموظفون العموميون؟ وهل السياق، الزمني والمكاني، الذي أثيرت فيه هذه التصريحات يُعطيها الحجّية لترتيب الآثار القانونية؟ وهل يمكن الاعتداد بمزاعم التعذيب في المناقشات النهائية للمحاكمة رغم عدم إثارتها أمام قاضي التحقيق في جميع مراحل التحقيق الإعدادي؟

ما من شك، أن الجواب على هذه الأسئلة يشكل مدخلا رئيسا لفهم النقاش العمومي الذي أفرزته التصريحات الأخيرة لناصر الزفزافي أمام غرفة الجنايات في معرض محاكمته على خلفية أحداث الحسيمة، وذلك بعيدا عن لغة التراشق بالاتهامات، واحتكاما فقط للغة القانون والنصوص التشريعية. كما أن التحليل الهادئ للجوانب القانونية من هذا الموضوع، ستسمح بتوضيح الرؤية لدى الرأي العام، خصوصا في ظل بعض الخرجات المتسرعة لأطراف عديدة جزمت بوقوع التعذيب، ورتّبت على تصريحات ناصر الزفزافي آثارا حقوقية وإعلامية.

وبالرجوع إلى النظام القانوني الوطني، خصوصا الفصل 1-231 من القانون الجنائي المغربي، نجده يشترط لقيام جناية التعذيب ضرورة توافر عناصر أساسية ومتلازمة، وهي ارتكاب فعل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد جسدي أو معنوي؛ وأن يرتكبه عمدا موظف عمومي أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه؛ وأن يرتكب الفعل في حق شخص بغرض تخويفه أو إرغامه أو إرغام شخص آخر على الإدلاء بمعلومات أو بيانات أو اعتراف بهدف معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه هو أو شخص آخر، أو عندما يكون هذا الألم ناتجا عن التمييز أيا كان نوعه.

والسؤال المطروح هنا، هل تصريحات ناصر الزفزافي تتوافر فيها عناصر الركن المادي لجريمة التعذيب كما حدّدها -على سبيل الحصر والتلازم- الفصل القانوني أعلاه؟ في البداية، لابد من التأكيد على أن القول بتوافر الألم والعذاب الشديد، الجسدي والنفسي، هي مسألة واقع وليس قانون، وتحددها الخبرة الطبية التي هي من يجزم بتعرض الشخص المشتبه فيه لألم شديد من عدمه، وفي هذه الحالة، فإن تصريحات ناصر الزفزافي تبقى مجرد مزاعم إلى أن يتم تثبيتها طبيا ونفسيا.

وبخصوص العنصر الثاني، المتمثل في ارتكاب الألم أو العذاب الشديد من طرف موظف عمومي أو أن يحرض عليه أو يسكت عنه أو يوافق عليه، والذي يجعل جناية التعذيب من جرائم الصفة التي تبقى حكرا على الموظف العمومي بمفهومه الواسع والموسع، طبقا لمقتضيات الفصل 224 من القانون الجنائي. ففي هذه الحالة، فالمتهم ناصر الزفزافي يشتكي من عناصر أمن تدخلت لتوقيفه بمنزله، أي أننا فعلا أمام موظفين عمومين. لكن، هل يتعلق الأمر بالعناصر المكلفة بالتدخلات الميدانية أم بضباط للشرطة القضائية مكلفين بالتحقيق والاستجواب؟

قد يتساءل سائل! ما هي القيمة القانونية التي يحققها التمييز بين رجل الأمن المكلف بالتدخلات الميدانية وبين ضابط الشرطة القضائية المكلف بالبحث والاستجواب وغيرها من الإجراءات المسطرية، ما دام أنهما يحملان معا صفة موظف عمومي التي اشترطها المشرع المغربي لقيام التعذيب؟ إن مسألة التمييز هنا بالغة الأهمية من المنظور القانوني، لأنها هي التي تحيلنا على العنصر الثالث في الركن المادي لجريمة التعذيب، والذي يعدّ أهم ركن تقوم معه الجريمة.

فالتعذيب، هو ذلك العنف المنتج للألم والعذاب الشديد الذي يرتكبه الموظف العمومي بمناسبة البحث مع متهم أو استجوابه أو مواجهته مع الغير، بغرض الحصول منه على اعترافات أو إقرارات بغرض معاقبته أو معاقبة شخص آخر. وبتعبير أكثر بساطة، فالتعذيب لا يمكن تصور ارتكابه من طرف عناصر فرقة التدخل، لأنهم لا يتوفرون على الصفة الضبطية، وبالتالي لا يمكنهم استجواب المشتبه فيه أو إرغامه على الإدلاء باعترافات أو إقرارات ضده أو ضد غيره، على اعتبار أن دورهم يقتصر على المداهمة والتدخل لتوقيف المشتبه فيهم، وتحييد الخطر الناتج أو المحتمل أن ينتج عنهم في العمليات الأمنية الميدانية.

وبالرجوع إلى تصريحات ناصر الزفزافي نجده يتحدث عن العناصر الأمنية التي تدخلت لتوقيفه بمنزله خلال عملية الضبط، وليس ضباط الشرطة القضائية الذين باشروا الإجراءات القضائية المتمثلة في البحث والاستجواب، وبالتالي فإننا أمام اتهامات تصلح لأن تكون جريمة عنف أو شطط يرتكبها الموظف أثناء مزاولته لمهامه، في حال تأكيدها قضائيا طبعا، وليس أمام جريمة تعذيب بالمفهوم القانوني.

إن الخلط الذي تثيره جريمة التعذيب، هي من دفعت العديد من الجهات والأشخاص (دونما حاجة لتسميتها في هذا الصدد) إلى الجزم بحدوث التعذيب في حق ناصر الزفزافي، مستندة فقط على تصريحات هذا الأخير، وعلى تأويلها الخاص للمفهوم اللغوي، وليس القانوني، لكلمة ” التعذيب”.

لكن ما هو مصدر هذا الخلط؟ قبل تجريم المشرع المغربي لجناية التعذيب بموجب القانون رقم 04. 43 المنشور في الجريدة الرسمية بتاريخ 23 فبراير 2006، استعمل (أي المشرع) لفظة التعذيب في سياقات أخرى تختلف تماما عن التعذيب كجريمة يرتكبها الموظف العمومي للحصول على اعترافات أو إشهادات ضد أشخاص آخرين. فالفصل 399 من القانون الجنائي كان يعاقب بالإعدام على جناية القتل العمد إذا ارتكبت بواسطة التعذيب أو وسائل وحشية، كما أقر المشرع نفس العقوبة في الفصل 438 من القانون الجنائي بالنسبة لكل من استعمل التعذيب ضد الشخص ضحية الاختطاف أو الاحتجاز.

فالمشرع المغربي قبل سنة 2006، أي تاريخ صدور قانون التعذيب، كان يعتبر “التعذيب المتمثل في الأعمال الوحشية” ظرفا مشددا في جنايات القتل العمد والاختطاف والاحتجاز، لكنه أبقى على هذه الظروف المشددة في هذا النوع من الجنايات، وأوجد بالموازاة معها جريمة مستقلة تسمى ” التعذيب” التي يرتكبها الموظف العمومي. فهذا التباين في التعذيب كظرف مشدد، والتعذيب كجريمة قائمة الأركان، هو من يجعل البعض يقع ضحية خلط وإبهام إن توافرت لديه النية الحسنة، أما إذا كانت له توظيفات أخرى أو أجندات بعيدة عن القانون، فإنه سيستغل هذا الخلط لتصريف رسائل سياسية أو إيديولوجية يبقى القانون بريئا منها.

وبصرف النظر عن الركن المادي لجريمة التعذيب، الذي لا يتوفر قانونا في تصريحات ناصر الزفزافي، فإن السياق الذي أثيرت فيه يطرح هو الآخر عدة أسئلة قانونية ينبغي توضيحها للرأي العام. فالمشرع المغربي يرتب آثارا قانونية، وبشكل تلقائي، على مزاعم التعذيب التي يدفع بها المشتبه فيه أمام النيابة العامة خلال مرحلة الاستنطاق، بحيث يتوجب على هذه الأخيرة أن تأمر بإجراء فحص طبي إذا طُلب منها ذلك أو عاينت ذلك من تلقاء نفسها. كما يتوجب على السيد قاضي التحقيق القيام بنفس الإجراء في أي وقت من مراحل التحقيق الإعدادي (المادة 88 من قانون المسطرة الجنائية).

وهذه المسألة تبقى مقبولة ومستساغة من الناحية القانونية والمنطقية، على اعتبار أن الاستنطاق الذي تباشره النيابة العامة يأتي مباشرة بعد انتهاء فترة الوضع تحت الحراسة النظرية، مما يسمح بالوقوف على علامات العنف أو التعذيب من عدمها لأنها تكون حديثة الوقوع. نفس الشيء بالنسبة للاستنطاق الأولي الذي يتولاه قاضي التحقيق، والذي يكون مواليا لملتمس فتح تحقيق الذي تتقدم به النيابة العامة المختصة.

فالتعذيب المنسوب لضباط الشرطة القضائية يتم الدفع به أمام سلطة الإدعاء وأمام قاضي التحقيق، بيد أن وثائق التحقيق الإعدادي ومحاضر الاستنطاق في أحداث الحسيمة لم تتضمن أية مزاعم مماثلة. أما خلال سريان المحاكمة، وأثناء المناقشات النهائية قبل النطق بالحكم، فإن التعذيب الوحيد الذي يمكن تصوره هو ذلك الألم أو العنف الشديد الذي قد يرتكب داخل السجن بغرض الحصول على معطيات أو بيانات من شأنها أن تستغل ضد المعتقل لمعاقبته. وفي هذه الحالة، فإن السلطة التي لها حق تحريك المتابعة هي النيابة العامة، في حين أن تصريحات ناصر الزفزافي لم تستعرض أي شيء من هذا القبيل، وإنما أدلت بمزاعم سابقة تعود إلى تاريخ التوقيف بمنزله.

هذا ما يقوله القانون….أما ما يتم الترويج له في التدوينات الفايسبوكية وفي التصريحات الإعلامية بشأن تصريحات ناصر الزفزافي، فإنه يبقى قريبا من لغة العوام، بعيدا عن لغة القانون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *