مجتمع

بورتريه: الطبيبة “رجاء مارصو” أيقونة إنسانية وصديقة المهاجرين الأفارقة

يرقد مُمدَّداً على سرير مشفى  بمدينة تطوان، عاجزاً عن تحريك رجليه اللتين أصابتهما كُسور مزدوجة بسبب سقوطه عن السياج الحدودي الفاصل بين الأراضي المغربية ومدينة سبتة المحتلة من طرف الإسبان، إلا أن ابتسامة رُسمت على صفحة وجهه العابس فجأة ما إن أطلَّت طبيبته من باب الغرفة.

بونجور «ماما حاجَّة»، هكذا ردَّ محمد دْيالو، مهاجر سينغالي، على تحية ألقتها الطبيبة رجاء مارصو التي جاءت للاطمئنان على حالته وإن كان يستجيب لعلاج يخضع له منذ ثلاثة أشهر.

دخلَت على مهل، قلَّبَت ملفَّه الطبي وطرحت عليه بضع أسئلة، ختمتها قائلة «أرأيت نتيجة مُحاولتك العبور بهذه الطريقة الخطيرة»، لم يتأخَّر جوابُه كثيراً جاء مؤكداً،» حتى لو كانت حياتي على المِحك، سأحاول مرة واثنتين إلى حين تحقيق حلمي والوصول لأوروبا» يقول دْيالو البالغ من العمر 25 سنة.

طبيبةُ المهاجرين

المهاجر السينغالي ديالو، ليس الوحيد الذي تهتم به الطبيبة الشابة وتعتني بصحته، فهي طبيبة المهاجرين القادمين من دول جنوب الصحراء الكبرى بالقارة الإفريقية التي لا تفارقهم إلى حين مد يد المساعدة إليهم ومُداواة جراحهم وإصاباتهم، وإن كانت لا تتوانى في المغامرة بسلامتها الجسدية من أجل شباب وصلوا للمغرب حالمين بدخول أراضي «الفردوس الموعود».

يقفون بمُحاذاة الطريق المُعبَّدة المؤدية لمدينة سبتة، يُلوِّحون باحتِشام وترقُّب للسيارات المارة بسرعة بالقرب من غابة «بليونش»، على أمل أن ينالوا القليل من الأكل يسُدُّون به آلام جوع قد يمتد لأيام خمسة.

وبالرغم من عدم توقف أصحاب السيارات إلا نادراً، تستمر مُحاولات المهاجرين الأفارقة دون توقف مُتفرِّقين على مجموعات صغيرة لا تُثنيهم عن ذلك أشعة الشُّمس الحارقة ولا الأمطار الغزيرة. عربات الأمن وحدها ما يمكن أن يجعلهم يفِرُّون مُختبئين.

معاناة لا حدود لها

تعود الطبيبة الشابة، والأم لطفلتين، بذاكرتها إلى يناير  2014، حين قصدت لأول مرة الغابة الموحشة التي يتخذها مئات المهاجرين السريين مكاناً، يختبئون بين أشجارها داخل خيام بلاستيكية مهترئة، من زيارات غير مرحب بها لرجال الأمن الذين يعملون كل حين على ترحيل المهاجرين وإجلائهم من الغابة الحدودية.

لم تُخفِ رجاء مارصو  حجم صدمتها حين اطَّلَعت لأول مرة على ظروف المهاجرين، والمهاجرات ممن كانت بعضهن من الحوامل أو ممن يحمِلن أطفالاً ورضَّعاً، تحكي الطبيبة بأسى «كانوا عُراة حُفاة، ومصابين بأمراض كثيرة كانت في أغلبها جِلدية ومتعلقة بالجهاز الهضمي بسبب سوء التغذية وانعدام النظافة، أما الأطفال فأغلبهم يعانون الهزال».

ما شاهدته مارصو ووقفت عليه جعلها تتخذ قراراً بعدم التخلي عن هؤلاء المهاجرين، بل عملت رفقة جمعية «الأيادي المتضامنة» التي تشغل منصب نائبة رئيسها على توفير حاجاتهم من المأكل والمشرب والألبسة، فيما اهتمت الشابة بتطبيب المصابين والجرحى والمرضى منهم، تحكي الطبيبة: «أحمل عدتي وأقصدُ الغابة لأكشف عنهم داخل السيارة أو بين الأشجار!».

إنسانية تمدُّها بالجرأة

غرباء عنها وغريبة عنهم، وسط مكان غير مأهول وبعيد، تجدُ الطبيبة مارصو نفسها وسط مهاجرين سريين وفي مواجهة رجال الأمن الذين يرفضون توجه قوافل إنسانية وطبية لتقديم يد المساعدة.

شَجاعَة ممزوجة بالكثير من المغامرة بوَّأت الناشطة الجمعوية في مجال الهجرة كأول طبيبة مغربية تقدم خدمات طبية مجانية لمهاجرين فاقدي الثقة في كل من حولهم إلا من «ماما حاجَّة» كما يُحبون أن يُنادوها عِرفاناً بأياديها البيضاء.

بابتسامة عريضة ونظرات واثقة، أكدت الطبيبة رجاء أنها لم تتعرض لأي مُضايقة أو اعتداء من طرف المهاجرين من أي نوع، متابعة «لا أتوقع ذلك بالمرة، أحبهم ويحبونني، منهم من تمكن من الوصول لأوروبا، وهم دائمو الاتصال بي والسؤال عن أحوالي وعن أسرتي».

حب متبادل

داخل مقر جمعية «الأيادي المتضامنة»، تُخصِّص الطبيبة رجاء موعدين أسبوعيين لاستقبال المهاجرين الأفارقة المرضى بالمجان، فما إن تحضر الطبيبة حتى تنفرج أسارير المنتظرين.

شيباني القادم من دولة مالي يقول إنه يعرف الطبيبة هنا كما الجميع باسم «ماما حاجّة»، ويعتبرها بمثابة الأم أو الشقيقة الكبرى «ألجأ لمكالمتها كلما احتَجت لشيء» يؤكد الشاب.

أما الطبيبة فتعتبر أن هذه العلاقات الإنسانية الجميلة التي نسجتها رفقة المهاجرين نعمة من الله ونور على الطريق يحثُّها على الاستمرار فيما تقوم به بالرغم من كل الانتقادات التي وصفتها بـ»العنصرية» من طرف بعض المغاربة ممن يتساءلون عن أسباب الاهتمام بالمهاجرين على حساب المغاربة في مناطق نائية.

جواب رجاء جاء قويّاً وواضحاً بخصوص تفضيلها للأفارقة عوض المغاربة، وهي المُلزمة بالعمل وفق دوام كامل بإحدى مستشفيات وزارة الصحة، مؤكدة أن عملها الجمعوي يمتد إلى تنظيم قوافل طبية نحو قرى نائية ومعزولة بجبال الأطلس .

ينتهي دوام الموعد الأسبوعي لاستقبال المهاجرين، لتغير الطبيبة رجاء وزرتها البيضاء وتلم أغراضها لتغادر مقر الجمعية، سعيدة هي بما باتت تُمثله في أعين مرضاها من المغاربة كما الأفارقة من مختلف الجنسيات، أما هم ففخورون بابنة مدينة تطوان، شمالي البلاد، التي باتت «أيقونة إنسانية» وصديقة مهاجرين غرباء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *