مجتمع

ربع قرن في سجون البوليساريو.. عدي عليلوش يروي حكايته -7-

الحلقة السابعة:

دموع رجل

لا يبكي الرجل إلا لأمر جَلل، فيما قد تبكي المرأة كُلما رغبت في ذلك، شتان بين رؤية امرأة تبكي ورجل يذرف الدمع. رؤية رجل يبكي أقسى على المرء من رؤية الموت عيانا. شعور لا يُوصف، تمنيت وقتها أن أكون قد متُّ، وكنت نسيا منسيا على أشاهد دموعه تتدحرج على خدّه الضامر كطفل.

كان ذلك يوم 26 أبريل عام ستة وسبعين. ريح صرصر عاتية لم تجد ما تقتلعه في هذا المكان سوى ما تبقّى من الرحمة القليلة في قلوب السجّانين والحرّاس. دامت هذه الرياح المزمجرة ثلاثة أيام بِلَياليها، فخاف الحُراس أن يهرب الأسرى، خاصة الموريتانيين الذين يعرفون الصحراء ومفازاتها بشكل جيد، فضاعفوا الصّراخ والتعذيب بالضرب والنهش بسكاكين “الكلاش” المثبتة على مقدمة البنادق.

وجدت محمد الوجدي يبكي كطفل فقد شيئا يحبه. كان سائقا لشاحنة. رجل مدني تم أسره في الزاك أيضا. وسِيقَ مع الأسرى لقدره المحتوم.

آثار الكدمات على وجه وما ظهر من جسده والدموع تنزل لتختفي في لحيته. غاظني المنظر، وحاولتُ أن أُواسيه:

ـ لا تبكِ يا مُحمّد. نحنُ رجال والرجال لا يبكون. هذا قَدَرُنا جميعا. أنت مدنيٌّ لم يتم تعذيبك كما عُذِّبنا نحن العسكريون.

قرأت عليه بعض الآيات الداعية إلى الصّبر والرّضى بالقدر مما تعلمته، فانفعل وهو ما يزال يُكفكف دمعته:

ــ اضحك عليّ بتلك الآيات يا عَدّي! فأنت لم تُعذّب كما عُذّبتُ، لم تُهَن كما أُهِنتُ وما عانيت الذي عانيته وما أزال.

ندمت لأني حاورته من أولها، يجدُرُ بي أن أتجنب النظر في مقلتيه المنفوختين وأدعه يبكي لوحده، فلعل الماء المالح يلفظ معه ما يُثقل قلبه، لكنه عزّ عليَّ:

ـ يا محمد! لقد رأيتَ كيف حكموا عليَّ بالموتِ وقرروا أن يسلبوا مني الحياة، وكأنهم من نفخ فيّ الروح. وشاهدتني أخطُو نحو حتفي مُطمئنا أن الموت سوف يخلّصني من هذه الفترة البين بين التي أعيشها، وجاءت إرادة الله التي فوق إرادتنا جميعا وكُتب لي عمر جديد، وتقول بأني أضحك عليك. يا مُحمّد عَزَّ عَلَيّ أن أرى الدمع يُبلّل لحيتك التي غزاها الشيب وأنا مثلك لا أملك لك خلاصا، وأردت أن أواسيك لعل الله يجعل لنا مخرجا.

اغرَورَقت عيناي بالدمع فتركته لوحده.. فالرّجال لا يبكون، على الأقل جمَاعةً!

في الليل استلقيت في مكاني أناجي الله في سِرّي إلى أن غفوت، فجأة شعرت برجل نَقي لا يشبه الأسرى ولا الحُراس. أبيض اللباس نَظيفَهُ. يجثو على رُكبته جهة رأسي وقد لمس كثفي لأستيقظ. كنت نائما على جنبي الأيمن، فتحت عيني ورأيته دون أن أحفظ ملامح وجهه في الظلام، فقال لي بصوت خافت مسموع:

ـ ستغادر هذا المكان يوم 18.

كَرَّرَ هذه العبارة مرتين، فسألتُه:

18 في هذا الشهر أم الشهر المُقبِل؟

ـ الشهر المقبل، أما هذا الشهر فقد بلغ الـ27 هذا اليوم.

استيقظت من نومي، فلم أجد الرجل الجاثي على رُكبتيه. نظرتُ حولي فلم أجد غير الأسرى الذين يغرقون في أحلام السراح والحرية ومعانقة الأهل والأحبة.

لم أنم بعد ذلك. مكثت أفكر في هذه الرؤيا، خاصة وأني لا أعرف كم الشهر اليوم. رتابة الأيام وتشابهها جعلني لا أعرف الأيام ولا الشهور، والكثير من الأحداث كنت أُقَدّرها باستحضار بعض الأحداث الكبيرة والمهمة التي عرفت تاريخ حدُوثها. انتظرت رفيقي مصطفى تعيسات أن يستيقظ. أسير من صفرو ينام إلى جواري وكان أعلم منّي وأدرك للأيام والشهور. لما استيقظ بادرته بالسؤال:

ـ شحال اليوم في الشهر؟

ـ 27. عْلاش؟

ترَدّدت في إخباره، لكن الفرح ولو المؤقت منعني من الاحتفاظ بالسرّ الغريب، فحكيت له الرّؤيا، وبقينا على أمل وصول الـ18 من الشهر المقبل.

بعد يومين أو ثلاثة زارنا رجل يختلف في طريقة كلامه ومعاملته عن الحُرّاس الذين ألفنا تواجدهم معنا. قيل لنا بعدها إنه رئيس الهلال الأحمر الجزائري. لم يأت إلى المعتقل، بل نحن الذين ذهبنا لمقابلته على بعد ثلاث كيلومترات من هذا المحبس كما أمرونا أن نفعل. وجدناه هناك في سيارته، سلّم عليه الحراس الذين كانوا يُرافقوننا. أمرونا أن نشكل نصفي دائرتين كي يتمكن من مُخاطبتنا فنسمعه جميعا. وقف قبالة القوسين اللذين شَكّلناهما ثم طلب من الحُراس أن يأتوه بمن يتكلم الفرنسية ويفهمها. أرشدوه إلى الأسير الوحيد الذي يتكلم تلك اللغة. اسمه ميمون عزّة، لكنه مُسجل في سجلات البوليساريو باسم عزيز حميد عندما تم أسره. ظل بهذا الاسم المستعار إلى أن تُوفي رحمه الله في إحدى مستشفيات الجزائر سنة 1984.

نُودي عليه ورافقه بعيدا عن أعين حراس البوليساريو فأراه المعتقل وأماكن العمل الشاق، وأخبره بكل ما نُريد أن يعلمه، تفاصيل عن الأكل السيئ والماء المتعفن وغياب التطبيب والدواء وقلة النوم والعمل المستمر بالليل والنهار. أخبره أيضا عن الأسير الذي مات مؤخرا بسبب الجوع والقمل. بحسب ما نقله إلينا رفيقنا ميمون عزة بعد ذلك اللقاء، فإن رئيس الهلال أخبره أن بومديان يرسل نفقة الأسرى تشمل كل احتياجاتهم من أكل ولباس ودواء ولوازم النظافة ودُخان. أخبره أنه سينقل هذه الصّورة القاتمة لبومديان شخصيا ووعده أن الأمور سوف تتغيّر في غضون أُسبوعين. شاهدناه يغادر المكان دون أن يُحيي مسؤولي البوليساريو الذين يشرفون علينا، عرفنا أنه غاضب منهم وسمعنا بذلك بعدها.

أعادونا إلى المحبس كما يُعيد الراعي قطيع معز. طلب منا عويمير رئيس المعتقل أن نُشكل دائرة كبيرة. دخل إلى الحلقة التي شكّلناها وهو يجرّ الأسير عزيز حميد من لحيته الشقراء. وبدأ يتوعّد:

ــ ماذا قلت له؟ بماذا أخبَرتَه أيها الحمار؟ هاهو قد رحَل وتركك هنا بين يدَيّ لأفعل بك ما أُريد. بإمكاني أن أقتلك الآن كما لو دُست على حشرة ولن يُحاسبني أحد. لكني لن أقتلك، سأتركك هنا لأقتلك كل دقيقة لتموت مرات عديدة، أما هؤلاء المعتوهين فإن رصاصة واحد سوف تكفيهم، سأجعلهم صفا واحد وأضغط على الزناد لأوفّر خبزهم اليومي.

كان يشهر مسدّسه الشخصي. مرة يصوبه إلى حميد الذي يمسكه من لحيته ويجرّه منها بشدة، ومرة يصوبه تجاه واحد من الأسرى المتحلّقين حوله.

يصرخ إلى أن بدأ لعابه يتطاير، لم يترك شتيمة إلا قالها، وفي الأخير خرج من الحلقة آمراً الحُرّاس ألاّ يتوقف العمل الشاق وأن يحرمونا من الأكل والشرب.

بعد أيام قليلة زارنا وفد جزائري مكون من أربعة أفراد، نُودي علينا من الأعمال التي كنا نزاولها وتم تسجيل معلوماتنا وأسئلة سبق أن أجبنا عنها ألف مرة، مع ذلك نُجيب عنها كلما سُئلنا متشبثين بكل أمل.

انتظرت ذلك اليوم الذي حلمت به كما تنتظر أم أخبار ابن غائب. لما بزغ فجر 18 ماي من سنة 76، لم أنم كطفل ينتظر شمس العيد ليرتدي الملابس الجديدة المطوية قرب وسادته. أردت أن أتأكد من تلك الرؤيا.

لما أشرقت الشمس ساقونا لمزاولة تلك الأشغال التي نزاولها كل يوم. لا شيء تغير، حتى تيقنت أن ما رأيته في منامي قبل عشرين يوما، ماهو سوى متمنيات تجلت لي في صورة ملاك، أو شيطان يحب العزف على ما حُرمت منه؛ الحرية ..

مر الزوال وجاء المساء، ولا شيء ينذر بأننا سنغادر هذا الأسر نحو ديارنا. اليوم الموعود يقترب من نهايته ورؤياي ليست سوى أضغاث أحلام. انهمكنا في العمل كما يأمرنا السّجان الجاثم على أرواحنا.. لما بدأت الشمس في الاختفاء سمعنا هدير شاحنتين عسكريتين، ونادى مناد أننا اليوم سنغادر هذا المكان، لكن ليس إلى الديار، بل نحو الجزائر!

أعدت الحوار المفترض الذي دار بيني وبين “الملاك” الذي زارني. لم يكذب، قال بأنني سأغادر هذا المكان دون أن يُحدد الوجهة! وها أنا أغادره.

قسّمونا ليلتها إلى نِصفين. اعتقدت أن كُل نصف سوف يرحل في شاحنة. لكننا ملأنا إحداهن بالبضائع والمواد الغذائية، بينما نقلت الأخرى نصف عدد الأسرى فقط، فيما بقي النّصف الآخر إلى الثلث الأخير من الليل، إذ عادت إحدى الشاحنتين. كنت ضمن النصف الثاني.

كلما ركبت آلية عسكرية إلا وأتذكر أول مرة ركبت فيها الشاحنة في اتجاه الصحراء. لم أكن وقتها عبوسا كما اليوم، لكن زملائي الذي سبقوني لحمل السلاح كانوا أكثر تشاؤما. أخبروني يومئذ أن أغلبهم قام بتنظيم عشاء وداع لأهل في الدوار، كتَأبينٍ لحيّ لم يمت بعد، لكنه قد يموت بِلغم أو بسبب ما. لذلك ودّع الأقارب وعانقهم واحدا واحدا. قد لا يطول عمره ولا يتمكن من رؤيتهم مرة أخرى، ويرحل عن هذه الدار وفي قلبه اشتهاء عناق. قالوا لي أن الذي يأتي للصحراء في وقت الحرب قد يعود وقد لا يعود، لذلك يودعون أهلهم بالبكاء، ويتمنون ألا يكون هذا “البرمسيون” هو الأخير الذي يعانق فيه الأهل والأقارب.

مع مرور الوقت أصبح ذلك من سُنن العسكر القادمين من التخوم. وكلما عاد جندي من عطلته نحو الثكنة يستقبلونه مقهقهين وهم يمازحونه: هل قرأ الفقهاء بعض الآيات على روحك؟ هل أقمت لنفسك حفلة تأبين قبل الرحيل؟ أستمع إليهم في اهتمام، وكلي يقين أن أقدارنا قد اختارتنا ولا مفر لكنني في هذه المرة لا أركب شاحنة نحو الصحراء، بل مغادرا إياها. والشاحنة التي تقلني ليست تابعة لجيشي، بل في مِلك الأعداء، ولا أعرف نحو أية وجهة، فأين تذهب بنا هذه الدابة المهترئة، وأي قدر ينتظرنا في ذلك المكان المجهول!

كان الطريق طويلا وكأننا نسير في مسار دائري. سرعان ما أشعر أني أمر من نفس النقطة التي مررت منها قبل قليل. بلغنا موضع توقف الشاحنة الأولى في تمام الواحدة زوالا، رأيت ذلك في ساعة يدوية لأحد الحُرّاس. توقفنا قليلا لتناول وجبة من اللوبيا على الغذاء.

بعد ذلك جاء صحراوي طويل أسود اللون يَسُوق شاحنة ثالثة. أمرونا أن نركب معه ويذهب بنا نحو تيندوف. سار بنا بشاحنته طويلا إلى أن وجدنا في الطريق شاحنة محملة بالذخيرة الحربية. أمرونا أن نقوم بتفريغها في الشاحنة التي كانت تُقِلّنا ونركب تلك الحربية.

في مَدخل تيندوف أوقفنا كومندار جزائري وطلب من السائق أن يعود إلى الرّابُوني ويترك هناك الموريطانيين ويعود فقط بالأسرى المَغَارِبة.

بعد أن تم إنزال الموريتانيين في الرابوني عُدنا عبر نفس الشاحنة إلى مطار صغير بتندوف. وقفت الشاحنة قبالة مدخل الطائرة، ووقف ضابطان في باب الشاحنة يقومان بانزالنا عدّا. بدأ يَعُد ويسمح للفرد المحسوب بالخروج من الشاحنة كما يفعل الرّحل مع العنزات المحلوبة. يخرج الأسير فيوجّهه حارس نحو سُلّم الطائرة، يدله بعد ذلك على مقعده ثم يقوم بتصفيده إليه. لما بلغ إثنان وأربعون فردا توقف عن العدّ وطلب من سائق الشاحنة أن يعود بالثلاثة عشر المتبقين نحو الرابوني حتى مطلع الأسبوع المقبل.

انطلقت بنا الطائرة الصغيرة تشق عباب السماء نحو وجهة لا يعلمها سواهم. كنّا خمسة وأربعون شخصا باحتساب الحُرّاس.

توقفت بنا قليلا في مطار بشّار، كان المطر ينهمر مدرارا، فنزل بعض المسؤولين لوقت قصير وعادوا ورفقتهم ثلاثة أسرى مصفدين، علمت فيما بعد أنهم مغاربة تم أسرهم قبيل عيد الأضحى الماضي. كان بينهم رجل من رُحّل محاميد الغزلان، سمعت ضابطا يقول لزميله إن هذا الرجل من الجواسيس الرّحل الذين ينقلون للمغرب كل كبيرة وصغيرة على الحدود، وهاهو قد سقط بين يدينا ليدفع الثمن.

اتجهت الطّائرة نحو مطار البليدة بعد ذلك. لما توقفت، ركبنا شاحنة عسكرية والمَطر المنهمر ما يزال يربط السماء بالأرض بواسطة خيوط رفيعة. كانت الشاحنة التي أَقَلّتنا إلى بوغار باردة جدا، ولم يمنع تزاحمنا من أن تصطكّ أسناننا بقوة، ضحكنا من ذلك جماعة فشعرنا ببعض الدفء.

بلغنا المَوضِع الذي يُرِيدوهُ لنَا مع بزوغ فجر يوم عشرين ماي من سنة 1976.. نظرتُ إلى السماء فتذكّرتُ أيام قريتي البعيدة بُعَيدَ السّحور. أيها الكبير الذي في السماء وفي كل مكان، لماذا لا يكون كل هذا مجرد كابوس مزعج، أستفيق منه وأجد نفسي في قريتي الهادئة، أجوب الأزقة المتربة حافي القدمين. لا نعل في رجلاي ولا أصفاد تثقل حركة يداي.

وَلَجنا قاعدة عسكرية، توجد في قصر بُوخاري بولاية المدية. يوجد داخل القاعدة معتقل صَغير شُيِّدَ منذ عهد الاستعمار الفرنسي، ولا يبعد المكان عن العاصمة الجزائرية سوى بـمئة وخمسون كيلومترا. يتحصّن المعتقل وسط ثلاثة تلال صغيرة. وجدنا في مدخله ضابط صف جلس يُدوّن معلوماتنا فردا فردا. أدخلونا بعد ذلك غرفتين، ووجدنا أن اثنا عشر أسيرا قد سبقونا إلى هذا المكان. حييناهم كما نحيي سكان المقابر التي تتواجد بجانب الطرقات: السلام عليكم أيها الأموات، أنتم السابقون وهانحن اللاحقون..

نام بعضنا، وبعضنا هام في الذكريات المؤلمة، وصدمة انكسار أحلام الإفراج على صخرة التنقيل من أسر لآخر.. لم يطرقوا أبواب الغرفتين حتى توقفت العقارب في الساعة العاشرة. وقتها خرجنا لتناول أول وجبة في هذا المعتقل الجزائري؛ قطعة خبر بداخلها قليل من مربى المشمش وكأسا من الحليب المنكّه بالبُن.

بعد أن تناولنا الفُطور في هذا المكان، تم اقتيادنا إلى ساحة تتوسطُ المعتقل كما يقود الرعاة قطيع أغنام لجز صوفها. جاؤوا بمجموعة من الحلاقين لتخليصنا من هذا الشعر الكث المقمل. كانوا يقُصون ويتندرون منا، بعد ذلك جمعوا كل ذلك وملابسنا المتسخة لحرقه في مكان بعيد كمواد محظورة، بعد أن استحممنا وارتدينا منامة جديدة سُلمت لنا.

تمنينا أن تُحرق مع تلك الملابس ذكرياتنا الأليمة ويكون ذلك فأل خير لنعود إلى أوطاننا التي حملناها في أفئدتنا معنا أينما تنقلنا. لكن هؤلاء الذين استقدمونا إلى هذا المكان كانت لهم أغراض استغلالنا في ما يخدم أهدافهم وطروحاتهم.

ذات يوم اقترحوا علينا أن نكتب لأهلنا رسائل إخبار، ننقل فيها ما نشعر به، ونخبرهم فيها بأننا بخير وعلى خير، بين يدي “إخواننا”. وأنهم سيتكفلون بإيصالها والتوصل بالأجوبة عن طريق بريد المرادية. تداولنا الأمر فيما بيننا وأخبرنا بعض زملائنا أن نرفض هذا الأمر، لأن ذلك يعني اعترافنا الضمني بالبوليساريو ككيان قائم الذات، ما دمنا نعترف ببريدهم وطوابعهم البريدية وأختامهم، فرفَضنا. وبقيت أخبارنا لا يعرفها سوى هؤلاء الذين يتناوبون على حراستنا كل يوم ورؤسائهم في العاصمة.

لم ننل تلك الحرية التي ننشدها، وإن تحسن حالنا لبضعة أيام مقارنة بحالنا في مكتب عويمير ولد علي بويا. قلّ التعذيب وانعدمت الأشغال غير المجدية التي كنا نزاولها في المأسر الصحراوي. كتحويل الكثبان دون جدوى أو حفر خندق اليوم وردمه غدا. ينادى علينا كل يوم للقيام بأعمال التنظيف وتقشير الخضر وبعض أعمال المطبخ.

أحيانا تصلنا بعض الأخبار عن البلد، سواء مما نسمعه من الأسرى الجدد، ومنها أن المملكة السعودية حاولت هذه الأيام التدخل لدى الجزائر لإطلاق سراحنا. قيل لنا أن ولي العهد فهد بن عبد العزيز توسط بين ملكنا وبومديان لرأب الصدع، وأنه تنقل في يوم واحد ست مرات بين الجزائر والرباط. كان ذلك سيثمر تحريرنا من الأسر حتى قاموا بتوزيع بعض الملابس الجديدة على الأسرى لارتدائها أثناء العودة للوطن. لكن الضغط الليبي والسوڤياتي على الرئيس الجزائري جعله يتراجع، فقاموا باسترجاع تلك الملابس التي وزعوها علينا، ونشرت صحف الجزائر في صفحاتها الأولى أن الجزائر لا تبيع مبادئها بالريال السعودي ولا بالدولار الأمريكي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *