مجتمع

تقنيات الري في واحات واد نون.. إبداع السابقين في تدبير المياه

حظيت أساليب الري بأهمية كبيرة، منذ القدم، في الواحات الجنوبية للمملكة، ومنها واحات جهة كلميم واد نون والمناطق المتاخمة لسلسلة جبال باني، حيث ما زال بعض المزارعين يلجأون الى أساليب متوارثة وقديمة في الري التقليدي.
وتتجلى هذه الأساليب والأعراف على شكل نظام ابتكرتها ساكنة هذه اللواحات مكنتمهم من تنظيم دقيق لأوقات سقي الحقول، نخلا ومزروعات، في الواحات، ومن توزيع عادل للماء، الذي يتم جلبه من العيون واليناببع، على أصحاب الحقول، آخذين بعين الاعتبار أن الماء من العوامل الحيوية لإستقرار الساكنة في الواحات.
وفي هذا الصدد يقول البشير باحماني وهو فلاح في واحة أداي أيت حربيل (إقليم كلميم) إن المياه توزع على الحقول وفق عرف قديم، لكل عائلة حصتها من الماء التي توارثتها أبا عن جد، موضحا أن هذا العرف يطلق عليه باللغة الأمازيغية المحلية “تيرمت نومان”، (حصة الماء) ويستفيد منها مالكها بشكل أسبوعي، أو كل ثلاثة أسابيع، حسب مساحة الحقل ونوع المزروعات التي يزرعها.
وأضاتف أن عملية السقي تستمر وبالتناوب في الواحة طيلة اليوم ليلا ونهارا، كل حسب حصته ووقته المحدد، مبرزا أن حصة “تيرمت نومان” كانت تقاس باستخدام وسيلة تقليدية تسمى” تناست ” (طست من النحاس) لقياس زمن السقي المخصص لكل فلاح.
وتقدر هذه الحصة ، وفق الفلاح، حاليا بحوالي 12دقيقة لكل حصة أو” تيرمت” واحدة، مشيرا الى أن الحصة تعتبر ضمن الأملاك العائلية الموثقة ، والتي يمكن بيعها وشراؤها بعقود كجميع الممتلكات.
وتعد “تناست” من الوسائل التقليدية التي كانت تستخدم لقياس زمن السقي، لضمان التوزيع العادل للماء وهي عبارة عن إناء مصنوع من النحاس على أسفله فتحة صغيرة، ويتم وضعها داخل دلو أو أي إناء كبير مملوء بالماء لتتسرب منه المياه إلى داخل الطست النحاسي عبر الفتحة.
وهكذا يعتبر، يضيف الفلاح، اتساع الفتحة وحجم الإناء المقياس الذي تقاس به المدة الزمنية اللازمة لضبط زمن الجريان أثناء توزيع المياه بدقة على كل أسرة.
وفي سياق متصل، ذكر بأن الخطارات القديمة التي حفرها الأجدا شاهدة على تاريخ واحة أداي،حيث والتي كانت تستعمل لتأمين جلب الماء من خارج الواحة وربط العيون بسطح الأرض، موضحا أنه يتم تجميع المياه عبر الخطارات قبل توزيعها وفق نظام محدد، في خزان كبير يسمى “الميزان” أو “الشاريج” (الصهريج) باللهجة المحلية.
وكان السكان يعتنون، بالتناوب، بهذه الخطارات من خلال استصلاحها وتنظيفها لتظل قنوات آمنة لعبور المياه عبر السواقي الى الواحة.
ويقول الباحث في التراث والتاريخ الأمازيغي مصطفى أشيبان أن نظام السقي المعمول به في واحات المنطقة كان متوارثا منذ مئات السنين و”يكاد يكون موحدا في جل واحات المنطقة”، موضحا أن تقنيات السقي التقليدي تتنوع عبر أنظمة توزيع الحصص المائية بالمنطقة بين الخطارة والساقية والطاسة في العيون الجارية، و الناعورة و”السبنبت” و”أسقول” في الآبار وخزانات مياه الأمطار.
وبعد أن أشار الى اعتماد الساكنة على السقي بالتناوب والتوالي، أوضح أن “النوبة” (الدور) هي مقدار جريان الماء وسط الحقول لمدة يوم كامل، ويمكن أن تتخد “النوبات” أسماء بعض العائلات والأفراد في القبيلة،خصوصا الذين ساهموا في حفر العيون، كما يمكن إضافة بعض النوبات التي يتم تقديمها كصدقة ودعم لمسجد أو مسيد الواحة .
وقال الباحث إن أهل الواحات جنوب المغرب نظموا عملية السقي تنظيما دقيقا، وتساهم فيها أطراف مختلفة من القبيلة تسعى إلى تطبيق العرف الخاص بالسقي، وتتم عمليات تنظيم ومراقبة السقي، غالبا، في أماكن عمومية (قرب المساجد مثلا)، وفي مفترق السواقي في جلسات خاصة وتعرف ب” مجالس تناست”، وفيها يتدارس السكان القضايا المرتبطة بالقبيلة ومراقبة نظام السقي ومراقبة العيون واستصلاح السواقي وغيرها.
وخلص أشيبان الى أن الباحثينوالمهتمين والفاعلين المحليين وجمعيات مدنية يبذلون ” جهودا جبارة” للحفاظ على هذا التراث والأعراف المتعلقة بنظام السقي وحمايتها من لاندثار والنسيان،رغم التطور و التغييرات الكبيرة التي شهدتها الواحات اجتماعيا واقتصاديا، مع السعي الى التغلب على التحديات الكبيرة التي باتت تهدد الثروة المائية والارث الايكولوجي لهذه الواحات مثل الجفاف والحرائق وتداعيات الاثار السلبية الناجمة عن الاحتباس الحراري والتغيرات المناخية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *