متابعات

ماذا حدث لفرنسا؟ ولم كل هذا التدهور؟

ماذا حدث لفرنسا؟ كانت ذات يوم أجمل وألمع حضارة على وجه الأرض، لكنها الآن عالقة في دوامة من التدهور التي لا رجعة فيها على ما يبدو، من المسؤول عن تدهور فرنسا لهذا الحد الذي يبدو أنه مرشح للتفاقم؟

هكذا تساءلت صحيفة The Telegraph البريطانية في تقرير عن أسباب تدهور فرنسا، حضارياً وسياسياً واقتصادياً.

ويعرف الفرنسيون أن بلادهم تتدهور -فقد وجدت دراسة استقصائية العام الماضي أنَّ 61% يعتقدون أنَّ البلاد في حالة تدهور- لكنهم يشعرون بالعجز عن منع ذلك.

للأزمة أسباب لا حصر لها. ومع ذلك، يأتي في محورها يأس الناس الذين خُدِعوا لفترة طويلة لدرجة أنهم لم يعودوا يصدقون أي شيء يقوله قادتهم، حتى لو قالوا الحقيقة، حسبما ورد في تقرير صحيفة The Telegraph.

والحالة المزاجية كئيبة، وفي بعض الأحيان شبه مروعة؛ إذ تصالح أولئك الذين ظلوا في حالة إنكار مع الحاضر الذي يسخر من آمالهم المستقبلية.

يعيش الكثير من الفرنسيين في حالة دائمة من الذعر أو الغضب بشأن ما يصفونه بالهجرة غير المنضبطة والادعاءات بأن سكانها المسلمين منعزلون بشدة.

وبينما تأتي الهجرة على رأس جدول أعمال السياسة الفرنسية، على الرغم من أن الهجرة الفعلية إلى فرنسا متخلفة عن مثيلتها في معظم الدول الأوروبية الأخرى، حسبما تقول صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية.

المشكلة بالكاد هي الهجرة. لسنوات، ظلت فرنسا تفقد مهنيين متعلمين تعليماً عالياً يسعون إلى مزيد من الفرص في أماكن أخرى. لكن من بينهم، وفقاً للباحثين الأكاديميين، عدد متزايد من المسلمين الفرنسيين الذين يقولون إن التمييز كان دافعاً قوياً لهجرتهم، وأنهم شعروا بأنهم مجبرون على المغادرة بسبب التحيز والأسئلة المزعجة حول أمنهم والشعور بعدم الانتماء.

الفرنسيون من ذوي الأصول العربية والإفريقية منخرطون الآن في المجالات التي لم يكن لهم فرص كبيرة للوصول إليها قديماً، على الرغم من أننا كنا دائماً نسمع أن المسلمين غير منخرطين في المجتمعات الغربية وغير مؤثرين، إلا أن ذلك لا أساس له من الصحة.

في فرنسا على أرض الواقع الأمر مختلف، وكل ما يثار حول هذه القضية هو رغبة الساسة والنخب الفرنسية في ذوبان المسلمين في المجتمع الفرنسي، عبر التخلي عن أي من مظاهر التدين كالحجاب والصلاة والصيام وغيرها، وتبني أسلوب الحياة الفرنسي العلماني المضاد للأديان.

الانتشار والانخراط في المجتمع مع الحفاظ على بعض مظاهر الدين هو بالضبط أحد أسباب الخطاب التحريضي من قبل النخبة الفرنسية، التي ورثت عن الأجداد أن تلك الأعراق لا تعمل إلا في الوظائف المتدنية وليس في الطب والصيدلة والمحاماة وما يشبهها من الوظائف العليا. وأنهم يحاولون دائماً نشر القيم المحافظة التي تنافي قيم الجمهورية العلمانية.

وخلال السنوات الماضية، أقرَّت فرنسا مجموعةً من القوانين المثيرة للجدل التي وصفتها منظمات حقوقية كثيرة بأنها معادية للإسلام، ومن أبرزها قانون مكافحة النزعة الانفصالية وما يُعرف بوثيقة “ميثاق الإمام” التي يُفرض على المساجد والمؤسسات الإسلامية اعتمادها.

سجلت وزارة الداخلية الفرنسية، في عام 2021، 171 هجوماً بسبب الإسلاموفوبيا، بزيادة نسبتها 32% عن العام السابق.

وفي المقابل، تراجعت الهجمات ضد أصحاب الديانات الأخرى؛ فعلى سبيل المثال، تراجعت هجمات معاداة السامية بنسبة 15%.

وسبق أن أصدرت منظمة “كيج” Cage الحقوقية البريطانية تقريراً اتهمت فيه فرنسا باستهداف سكانها المسلمين استهدافاً منهجياً بمجموعة من السياسات التي استحدثتها إدارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للتصدي لما يُسمى “الانفصالية والإسلاموية”.

ويقول إدريس السحميدي، رئيس جمعية بركة سيتي التي تم حلها، إن سياسات ماكرون ترمي إلى تدجين مسلمي فرنسا وإجبارهم على الانقياد إلى سياسات اضطهاد الدولة لهم في عهده، وأوضح السحميدي أن “فرنسا عزمت على استهداف كبار مجتمع المسلمين في فرنسا، وحشدت كل أنواع الضغوط التي يمكن تصورها للتضييق على الأشخاص الذين يريدون الدفاع عن المسلمين” في مواجهة هذه السياسات.

ولا تختلف سياسة فرنسا في فرض قيود على الحجاب كثيراً عن فرض حركة طالبان وإيران الحجاب على النساء.

والمفارقة أن الدولة الفرنسية تستثني مناطق في شمال شرقي البلاد مثل “الإلزاس واللورين من القيود على الرموز والتعليم الديني”، بل المفارقة أن المدارس الكاثوليكية في البلاد تسمح للطالبات المسلمات بارتداء الحجاب.

وتجدر الإشارة إلى أن منظمات دولية عدة انتقدت قيود فرنسا على حريات المسلمين والمسلمات، ولقد سبق أن وصفت منظمة العفو الدولية القوانين الفرنسية المقيدة لحريات التعبير، وتلك الخاصة بمكافحة الإرهاب، بأنها تثبت أن فرنسا ليست بلد الحريات.

كما سبق أن قالت العفو الدولية إنّ حظر النقاب بفرنسا تراجُع كبير في الحريات.

وسبق أن انتقد الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، قيود فرنسا وعدد من الدول الأوروبية على الحجاب، كما أن صحفاً أمريكية وإنجليزية انتقدت هذه القيود، الأمر الذي استدعى رداً من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، معتبراً أن بلاده لديها نموذجها الخاص للحريات والليبرالية الذي يفرض هوية واحدة على المجتمع عكس النموذج الأنجلوساكسوني المتقبل والمتعايش مع التنوع الديني والإثني.

الأخطر من ذلك أن قيود فرنسا على حريات المسلمين عامة، ومنهم النساء، وصلت إلى حد منع حقهم من الشكوى من التمييز، فالقوانين الفرنسية الأخيرة ضد المسلمين منعت المنظمات المعنية بالإسلاموفوبيا من ممارسة نشاطها بدعوى أنها تمارس التمييز وبالفعل حظرت الحكومة الفرنسية بعد سن هذه القوانين أشهر المنظمات الإسلامية التي تفضح الإسلافوبيا.

ماكرون الذي فشل في تحقيق أي نجاحات تذكر على مختلف المسارات، وكان نتيجة لذلك أن تراجعت شعبيته وتصاعدت حدة الاحتقان الشعبي ضده، بحث خاصة قبيل الانتخابات الرئاسية الأخيرة عن طريق لوقف نزيف جماهيريته من خلال مغازلة اليمين المتطرف، فلم يجد غير استهداف المسلمين وسيلة مثلى وسريعة لتحقيق ذلك، ليقارع منافسيه على أصوات اليمينيين.

المفارقة أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هو نفسه وصل للرئاسة بدعم من المنظمات الإسلامية، التي يناصبها العداء الآن، بل كان يطالب وهو مرشح رئاسي، بتخفيف غلواء العلمانية وقبول الإسلام في الحياة العامة.

ولكن بعد سلسلة من الأزمات والإخفاقات السياسية لماكرون خلع وجهه الوسطي، وعاد للعبة ساسة فرنسا المفضلة بمغازلة المشاعر اليمينية المحافظة والمتطرفة عبر التحريض على المسلمين، علماً أن هناك تراجعاً واضحاً في فرنسا عن الجريمة بصفة عامة وضمنها الإرهاب.

النتيجة هي موجة هجرة عكسية من المسلمين من فرنسا، حسبما ورد في تقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز بعنوان “رحيل في الخفاء لمسلمي فرنسا”، استشهد ببعض الحالات التي غادرت فرنسا قهراً هرباً من الانتهاكات التي تتعرض لها على أيدي اليمينيين، في ظل تصاعد خطاب العداء والكراهية للمسلمين بصفة خاصة والأقليات بشكل عام.

ويبدو أن كثيراً من المسلمين الذين يغادرون بلدهم الأم كانوا من ذوي الكفاءات العالية. لكن بالنسبة للشباب، تعد الغربة بادئ ذي بدء طريقةً لبث روح جديدة في مسيرتهم المهنية، حسبما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.

وساهم ماكرون عبر استهدافه للمسلمين في صعود اليمين المتطرف الذي يقول إنه يحاربه، حيث كان واضحاً أنه يريد أن يصل في أي انتخابات لأن يكون هو في مواجهة لوبان، ليصبح الجميع مضطراً للتصويت له حتى من المسلمين الذين يضطهدهم.

والنتيجة أنه في الانتخابات الأخيرة حصلت زعيمة اليمين المتطرف ماريان لوبان على نحو 42% مقابل 58% لماكرون.

رغم الفارق الذي يتجاوز 16 نقطة بين المرشحين الرئاسيين، إلا أن لوبان تمكنت من تقليصه إلى النصف مقارنة برئاسيات 2017، عندما خسرت أمام المرشح ذاته بـ66.1% مقابل 33.9%، بفارق 32.2 نقطة.

فقد سجلت لوبان أعلى نسبة تصويت يحققها اليمين المتطرف في تاريخ فرنسا؛ إذ حصلت على نحو 42% من أصوات الفرنسيين في الجولة الثانية لانتخابات 2022، مقابل 34% في الجولة الثانية في الانتخابات الماضية عام 2017، والتي كانت أمام ماكرون أيضاً، أي بزيادة تقارب 8% من الأصوات.

ولم يقتصر الأمر على افتعال المشكلات فقط مع المسلمين داخل فرنسا، فلقد أصبحت باريس في الخارج صديقة المستبدين العرب، وداعمة لأمير الحرب الليبي خليفة حفتر الحليف لبوتين، وقبل الحرب الأوكرانية، كانت فرنسا تحتفظ بعلاقة وثيقة مع روسيا، وتقلل من خطرها على أوروبا، بينما في الوقت ذاته تحاول افتعال المشكلات مع تركيا عضو الناتو.

ووصل الأمر بماكرون في افتعاله للأزمات الخارجية، إلى التهديد بحصار بريطانيا وقطع الكهرباء عنها أثناء الكريسماس، بسبب الخلافات حول حقوق الصيد بين الطرفين.

في الأسبوع الماضي، في مقابلة متلفزة، دافع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن سجله في القانون والنظام بعد جريمة القتل المثيرة لفتاة باريسية تبلغ من العمر 12 عاماً، لكنه اعترف لأول مرة بحقيقة مزعجة: “إذا نظرنا إلى الجريمة في باريس اليوم، لا يسعنا إلا أن نرى أنَّ ما لا يقل عن نصف الجرائم تأتي من أشخاص أجانب، سواء كانوا مهاجرين غير شرعيين أو أولئك الذين ينتظرون تصريح إقامة”.

قبل عام من ذلك، كان ماكرون سيدين بشدة مثل هذه الآراء من أحد خصومه اليمينيين. لكن أن يقول ذلك بنفسه الآن هو علامة على يأسه؛ لأنَّ هذا لا يعني فقط أنَّ الدولة الفرنسية فقدت السيطرة على حدودها، بل إنها فشلت في دمج النسبة المتزايدة بسرعة من السكان الذين تعود أصولهم إلى المستعمرات الفرنسية السابقة.

برغم كل شيء، تعد باريس صورة مصغرة لفرنسا. وتنعكس فوضى الخروج عن القانون في الضواحي المحيطة بالعاصمة، التي ترقى إلى مستوى الإرهاب منخفض التهديد، في كل مدينة أخرى تقريباً. إلى جانب ذلك، تنتشر رسومات الغرافيتي والتخريب والقذارة التي تشوه شوارع باريس في كل مكان.

وتعكس البنية التحتية المتدهورة، والآثار البشعة “للمعماريين المشاهير” الطليعيين، انقراض الأناقة الباريسية في الفن واللباس والأخلاق. كما أنَّ الحريق الهائل الذي كاد يدمر كاتدرائية نوتردام في عام 2019 يرمز إلى انهيار المسيحية في أرض كانت ذات يوم أكثر تكريساً للسيدة العذراء من أي أرض أخرى، حسب وصف صحيفة The Telegraph البريطانية.

ويتجلى انحدار فرنسا في نواحٍ كثيرة. فالضائقة السياسية الحالية هي في أساسها أزمة اقتصادية تسارعت وتيرتها، لكن ليس بسبب صدمات جائحة “كوفيد-19” والحرب في أوكرانيا. فقد ترك التاريخ الطويل للحكومات الفرنسية القائمة على اليسار واليمين، التي أعطت الأولوية لسيطرة الدولة على المشروعات الحرة، اقتصاداً مركزياً يبدو غير قادر على التكيف مع الرياح المعاكسة العالمية.

انظر على سبيل المثال لصناعة السيارات؛ التي لا تزال توظف 800 ألف عامل، لكنها غرقت في ما وصفته صحيفة Le Monde في أبريل/نيسان الماضي بـ”أزمة وجودية”؛ إذ انخفضت المبيعات بنسبة 17% في عام 2021. ومنذ ذلك الحين، تركت تكلفة الطاقة شركات مثل رينو وبيجو وسيتروين تكافح من أجل البقاء. وتخلّت أمة من الرواد في الميكانيكا، المهووسين تقليدياً بالطرق المفتوحة، عن حبها للسيارات. ومع ذلك، فإنَّ قادة الصناعة يتصرفون مثل فئران عالقة في مصيدة، حسب وصف الصحيفة البريطانية.

ونفس القصة تنطبق على الطاقة النووية، التي توفر 70% من الكهرباء الفرنسية. فقد أدى الفشل في استبدال البنية التحتية القديمة إلى ترك أكثر من نصف المفاعلات البالغ عددها 56 خارج الخدمة مع اقتراب أسوأ شتاء في الذاكرة الحية.

وللمرة الأولى منذ عقود، تستورد فرنسا طاقة أكثر مما تصدر، وبالكاد تتجنب انقطاع التيار الكهربائي حتى الآن. وفي المستقبل المنظور، لم تتفوق السويد على فرنسا في كونها المصدر الرئيسي للكهرباء في أوروبا، بل فقدت أيضاً سمعتها في مجال أمن الطاقة.

في غضون ذلك، ارتفع تضخم أسعار المواد الغذائية إلى 11.8% الشهر الماضي، مع ارتفاع أسعار المنتجات الطازجة بنحو 17% على أساس سنوي. ورغم أنَّ الإعانات الحكومية أبقت التضخم الإجمالي دون متوسط ​​الاتحاد الأوروبي، لكن سياسة رشوة المستهلكين بأموالهم الخاصة لإخفاء الصورة الحقيقية هي سياسة غير مستدامة على المدى المتوسط.

إضافة إلى ذلك، يعتبر العبء الضريبي في فرنسا من بين أعلى المعدلات في العالم المتقدم. وتقف نسبة الضريبة الفرنسية إلى الناتج المحلي الإجمالي عند 45.4%، وهي ثاني أعلى نسبة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

كما لا تزال بطالة الشباب في فرنسا مرتفعة ارتفاعاً حاداً، عند 15.6%. وفي غضون ذلك سيصل نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 2.5% هذا العام، وفقاً لتوقعات صندوق النقد الدولي.

ورغم تضخم سياساتها المالية التصاعدية، وسياساتها التجارية الحمائية، فشلت الدولة الفرنسية في منع انزلاق مناطقها الصناعية إلى الانحدار النهائي.

إنَّ المشكلة القديمة المتمثلة في البيروقراطية المركزية التي تخنق السوق الحرة تعني أنه على عكس بريطانيا والولايات المتحدة، فإنَّ تراجع الصناعات الفرنسية القديمة لم يُعوَّض عنه بظهور صناعات جديدة. وبدلاً من خفض الضرائب والروتين من أجل الاحتفاظ بالشباب المغامرين وجذب المستثمرين، اتَّبعت فرنسا نموذجاً اقتصادياً أقل فاعلية.

وعلى غرار نظرائهم الأمريكيين، خاض الأكاديميون والسياسيون مؤخراً حرباً بشأن انتشار سياسات الهوية اليقظة، التي يقول الرئيس ماكرون إنها تخاطر “بتقسيم الجمهورية إلى قسمين”.

والمحزن هو تراجع المدارس الفرنسية على جميع المستويات، وخاصة لأولئك الذين عرفوها في أوجها، حيث كانت المدارس الثانوية والمدارس الكبرى تفخر بقدرتها التنافسية العالية، وسياستها النخبوية، لكنها حققت هدفها المتمثل في تجهيز قيادة فرنسا إلى مستوى فائق. ومع ذلك، بعد عام 1968، بدأ العفن يتسلل إليها، وأثر منذ ذلك الحين على كل جزء من أجزاء النظام.

وتكشّفت إحدى نتائج تدهور العلوم الفرنسية خلال جائحة “كوفيد-19″، عندما اضطر ماكرون إلى الاعتراف بأنَّ بلاده غير قادرة على إنتاج لقاحها الخاص المضاد، على عكس الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا. واستغرقت السلطات الفرنسية أيضاً وقتاً أطول بكثير لتطعيم سكانها من نظرائها البريطانيين.

هذه الحقائق ليست مفاجأة، فلم تكن فرنسا أبداً دولة ذات حكم كفاءات مطلق، لَطالما كان نظامها ملطخاً بالعلاقات الشخصية والفساد والطبقية، لكن إفقار البرجوازية التعليمي والاقتصادي أضرّ بمهن مثل القضاء والطب والجيش والإعلام، كما أنَّ جودة السياسيين متدنية بدرجة لافتة للنظر.

ومثلما أنَّ ماكرون ليس شارل ديغول، فلا يوجد صحفيون من عيار الناقد العظيم للجنرال ريموند آرون، الحياة العامة الفرنسية عبارة عن مشهد من أصحاب الأداء الباهت.

علاوة على ذلك، صاحَب هذا الاضمحلال المحلي انحدار جيوسياسي، ففي عهد ماكرون فشلت فرنسا في دعم أوكرانيا ضد الحرب الروسية، وفقدت نفوذها التقليدي في شمال إفريقيا. ومن يستطيع أن ينسى التناقض بين إعجاب فولوديمير زيلينسكي الواضح برئيس الوزراء البريطاني الأسبق بوريس جونسون، وسخطه عندما وجد نفسه مُحتضَناً من إيمانويل ماكرون؟

وقبل أشهر فقط اضطر الرئيس الفرنسي للدفاع عن انسحاب قوات بلاده من مستعمرة مالي السابقة، بعد عقد من القتال ضد الجماعات الإرهابية. وترك قراره، الذي يقف وراءه الخلاف مع المجلس العسكري الحاكم، قوات حفظ السلام البريطانية المتحالفة بدون دعم جوي، وفتح الباب لنفوذ أكبر لروسيا، التي أرسلت متعاقدين عسكريين خاصين إلى المنطقة.

في وقت سابق من العام الجاري، نشر الكاتب الفرنسي ميشيل ويلبيك رواية أكثر نبوءة، تقع أحداثها في عام 2027، وحينها يترك ماكرون منصبه. ويرسم الكاتب في “Anéantir-تدمير” رؤية قاتمة لفرنسا؛ حيث تعاني من الفقر والبطالة، في مجتمع يشيخ بسرعة، ثم ينصبّ تركيزه على المرض المميت. إنَّ كتاب ويلبيك عن نهاية حياة مليئة بالإنسانية.

بالنسبة لويلبيك، كما هو الحال لمعظم مواطنيه، يعجز ماكرون عن الاعتراف في وقت مناسب بإخفاقات القيادة التي أدت إلى وقوع فرنسا في هذا التدهور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والتعليمي القاسي. وتوحي الرواية المتشائمة لأعظم كاتب في البلاد بالكثير عن أمة تسيطر عليها سياسات اليأس الثقافي.

وآخر وصية لويلبيك هي مرثية وداع فرنسا، التي فقدت سبب وجودها. تحت قيادة ماكرون، عكس الفرنسيون فلسفة رينيه ديكارت: “أنا أفكر، إذاً أنا موجود”، لتصير: “لم أعد أفكر؛ لذلك لم أعد موجوداً”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *