آراء

سيكولوجية المصلين

شهر رمضان شهر القرآن والصلاة والعبادة، ومن العبادات الأكثر حضورا وممارسة بعد الصيام وصلاة الفرض طبعا، صلاة التراويح، فالكل يحج ويقصد بيوت الله للصلاة والذكر والدعاء، وهو لأمر جميل ومحمود، ويزيد صاحبه ايمانا وعروجا في منازل ومسالك التزكية والتهذيب النفسي، إلا أن هناك مجموعة من الأسئلة تفرض نفسها بقوة أمام المتأملين لظاهرة الازدحام والاكتظاظ التي تعرفها المساجد خلال شهر رمضان، وعلى رأس هذه الأسئلة نجد في مقدمتها ما يلي: لماذا هذا الازدحام والاكتظاظ ليس مستمرا في الزمن؟، أي بماذا نُفسر غياب نفس المصلين عن التنافس والتسارع حول الذهاب إلى المساجد بعد رمضان، فبعد تعميق النظر بالتأمل والتفكر تبين أن للأمر أسباب نزول.

فأغلب المقبلين على المساجد قصد صلاة التراويح هو في حقيقته إقبالُ المقلد للجماعة لا إقبالُ الكيس الفطن المُغتنم للأجر والثواب، وقد يقول قائل وما دليلك على ذلك والأمر محله القلب والصدور، فالإقبال بحثا عن الأجر والثواب يجعل الصلاة عامرة بحقائق الايمان، وهي أنها ترقى بصاحبها في منازل ودرجات التشذيب والتزكية، ودليل عمران الصلاة هو أن ينتقل هذا العمران من الصلاة إلى السوق أثناء البيع والشراء، وإلى العمل أثناء الإنتاج والتصنيع، وإلى الأسرة أثناء التربية والرعاية، وإلى كل شؤون ونُظم الحياة، فعمران الحياة يجد أصله في  عمران الصلاة، لكن المؤسف أن أفعال المصلين بعد الصلاة سواء في السوق أو في العمل أو في البيت أو في الحياة هي أفعال لا تعكس حقائق الصلاة وأنوارها الايمانية، لأنها صلاة خاوية وفارغة من حقائقها، والأصل فيها أنها بقدر ما تُبعد صاحبها عن الفحشاء والمنكر تُقربه أكثر إلى الفضيلة والمعروف وهذا ما تنص عليه الآية الكريمة في سورة العنكبوت، الآية:45 “وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر”.

فالآية تؤسس لقانون مفاده أن الصلاة تدفع بصاحبها إلى إنتاج المعروف والإبداع في صناعة الخير في حين أن واقع المصلين هو تفننهم في صناعة الشر والمنكر، وهذا ليدل على ازدواجية وانفصام شخصية المصلي، فلو كانت صلاة تراويحه عامرة بحقائق العروج في مدارك الايمان لكان واقع ومعاش المصلي عامرا بحقائق البناء والإبداع، فمن عمران الصلاة إلى عمران الحياة، فالصلاة التي لا تُنهي صاحبها عن الفحشاء والمنكر لدليل على فراغ محتواها الايماني، فالصلاة في حقيقتها تصنع المؤمن المُحسن، وبيان ذلك أن إحسان الصلاة في خشوعها وقياها وركوعها وسجودها، بمعنى إتقانها في ظاهرها وباطنها ليصنع لدى المصلي قيما وأخلاقا متجاوزتا بذلك ما هو نفسي إلى ما هو روحي، فهي تربط عالم الشهادة بعالم الغيب، هذا الربط أثناء الصلاة يُنتج نفسية وعقلية الإحسان لدى المصلي، فتجده محسنا في عمله، ومحسنا في أسرته، ومحسنا في نُظم حياته، فهو من إحسان إلى إحسان، ومن إتقان إلى إتقان، وذلك لا يكون إلا إذا ما أُحسنت وأُتقنت الصلاة، ومؤشر إتقانها هو أن يكون لها آثر وحضور في فعل وسلوك المصلين خارج المساجد، وفي حياة الأسواق، وفي شعاب الحياة.

وكحل إجرائي لصناعة الاحسان في الصلاة هو أن يتدرب المصلي باستشعار نداء ربه له، حيث يجب عليه الاعتقاد بأن الله سبحانه وتعالى يناديه باسمه للصلاة، والتمرن على هذا من شأنه أن يؤسس لبداية صلاة المحسن، ثم بعد ذلك أن يعي المصلي بأنه أمام مالك الكون والوجود أثناء قيامه   للصلاة، وأخيرا أن يُركز على آيات ونصوص القرآن الكريم أثناء تلاوته في الصلاة، وهذا التركيز سينقله إلى التدبر والتعمق في المعاني الايمانية لكلام الله سبحانه وتعالى، والتمرن والتدرب على هذه الشروط الثلاث من شأنه أن ينقل المصلي من الشريعة إلى الحقيقة، من الصلاة التي ظاهرها حركات إلى الصلاة التي باطنها إحسان، أي أن يتحقق فيها قول الرسول عليه الصلاة والسلام:”أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”، وهذا بشكل حتمي وضروري سيدفع بالمصلي إلى الاحسان في مختلف شؤون الحياة، فمن عمران الصلاة إلى عمران الحياة، ومن صلاة الإحسان إلى حياة الإحسان.

*أستاذة باحثة في الدراسات الإسلامية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *