آراء

مصر بين مطرقة الجيش وسندان الإخوان

موت ودمار وخراب ومأساة تلك هي أبرز عناوين المشهد السياسي في أرض الكنانة اليوم. باختصار شديد يمكن اختزال ما يحدث في هذا البلد في قطببين متصارعين يبدو أن التعايش بينهما أصبح معادلة صعبة التحقيق. اتجاه علماني يريد الفصل بين الدين والسياسة في ممارسة الحكم واتجاه آخر عريض وواسع يشكل خليطا من الإخوان والمعتدلين والبسطاء والديمقراطيين والأحرار الذين يقبلون بما تفرزه صناديق الاقتراع من نتائج.

اتجاهان يشكلان معادلتان تكادان تتناقضان إحداهما يمثلها الجنرال السيسي والأخرى يُمثِّلها نظام الإخوان بما له وما عليه. فعلى محك هذا الاتجاهان سقطت جميع النظريات التوفيقية بين الإخوان والعلمانيين بشتى أطيافهم لتتهاوى على أرض الواقع المصري الحزين. كتب الكثيرون من مفكرين ومثقفين عن قطبي الصراع هذين ومنهم من ذهب إلى حد القول بإمكانية التعايش بينهما في ظل ديمقراطية تضع الدين موضع مسافة، لكن شتان هنا ما بين ما تقوله النظريات وبين واقع الأمور.

لقد اثبتت المواجهة في ميداني “رابعة العدوية” و”النهضة” أن هذا التعايش معادلة يستحيل تحقيقها على الأقل في الوقت الراهن. لقد حدث ما لم يكن بالحسبان وما لم يدُر بخلد أحد. فلا مراء أن هذا البلد الذي أثرى العقل العربي وزوّده بنخبة من العلماء والمفكِّرين والكُتاب والسياسيين على مدى عصر النهضة إلى اليوم، رغم كل أشباه الديكتاتوريات التي تعاقبت عليه منذ ثورة عبد الناصر والمحن العصيبة، يعيش أحلك فترات تاريخه المعاصر حينما شاهدنا نزيف الدماء تُهدر عبر الفضائيات ورأينا إلى الدمار والموت ينتشر في كل ربوعه.

هنا وخلافا لما قاله السيسي وزير الدفاع (الحاكم الفعلي المجنون) أو مجنون الحكم الذي أثبتت الوقائع أنه جنرال دموي بامتياز يفتقر إلى أبسط المبادئ والأوليات في تقدير الأمور وتحكيم العقل والمنطق، بل ولا يختلف في شيء عن الجنرالات الدوليين سيئي الذكر الذين لن يحتَفظ لهم التاريخ سوى بذكرى القتل والتخريب والدمار من أمثال فرانكو وبينوشي وغيرهما كثير، أقول خلافا لما قاله من “أن الجيش المصري لا يأكل أبناءه” أثبتت الوقائع أنه وزبانيته من البلطجة المدفوعي الأجر قد ألتهم أبناءه وافترسهم ونكَّل بهم أشد التّنكيل ضاربا بعرض الحائط كل نداءات المجتمع الدولي من منظّمات حقوقية وغير حقوقية غير عابئ بنداءات الدول ونصائحها.

السيسي نسج مؤامرة خبيثة عندما اختطف ثورة المصريين وأجهض أحلامهم في الحرية والكرامة، وأراد أن يعود بحركة التاريخ إلى الوراء لاستعادة زمن مبارك وزبانيته (هذا ما تحقق فعلا بعد إخلاء سبيله) الذين أغرقوا البلاد والعباد في الفقر والتخلف والجوع على مدى 33 عاما لم يحرك فيها هذا الجيش ساكنا وهو يرى إلى الفساد يدب في دواليب مؤسسات الدولة بل إنه استكان إلى الدعة والمهادنة أملا من ضباطه وجنرالاته في منصب أو جاه.

هذا الجيش اليوم وبدل أن يقف كحكَم إلى جانب الشرعية لم يكتف بأكل أبنائه وقتلهم وسلحهم فحسب، بل افترسهم والتهمهم ونكّل بهم وقتلهم شر قتلة دون رحمة أو ضمير. وما يدعو للغرابة حقا أن يعجز حُرٌّ واحد من أحرار الجيش عن استدراك الخطأ وإعادة دور الجيش إلى طبيعته الأصلية وهي المحافظة على أمن البلد وحدوده.

تمادى الجيش كله وقواده مع طيش السيسي فكا ما كان من قتل وتقتيل. لقد تنكّر هذا الجيش صاحب التاريخ والبطولات لتاريخه القريب حيث كان سند المصريين في استرداد سيناء وتحقيق النصر في حرب أكتوبر نجده اليوم يلطخ سمعته بالدماء ويمرغ تاريخه في الوحل. هذا الجيل الذي يتزعمه رجل قصير النظر، وهو يتكلم عن الوحدة المصرية وعن مستقبل مصر وعن حرية كرامة المصريين ويعدهم بمستقبل زاهر، هذا الجنرال الذي زعموا أنه هيأ رسالة أكاديمية في تخصصه بدا صغيرا في كل شيء ودفع بالشعب المصري إلى هاوية سحيقة عندما شجع على تقسيمه وتأليب العداء بين طوائفه ولا أدلَّ على ذالك خرجته وهو يتوسّل إلى المصريين للحصول على تفويض لسحق الإخوان بميداني “رابعة العدوية” و”النهضة”.

كيف يُعقَل أن يقوم جنرال على هرم مؤسسسة محترمة بطلب تفويض من التابعين له لقتل فصيل من الشعب يرى مسار آخر غير المسار الذي عوده الجيش المصريين في ممارسة الحكم (مع عبد الناصر والسادات ومبارك) وحقُّهُ في الشرعية برهان ساطع لا يختلف عليه اثنان. اليوم، وعلى مدى العام الذي حكم فيه مرسي، يؤجج السيسي إعلاما تحريضيا للإجهاز على الإخوان وتصفيتهم عن بكرة أبيهم، لا لشيء إلا لأنهم طالبوا بعودة الشرعية. إعلام جنّد لفيفا من الذين لم يهدأ لهم بال طوال حكم مرسي ولم يغمض لهم جفن إلى أن يرووا مرسي خارج دفة الحكم في مصر.

يتفق معظم المحللين المنصفين أن الإخوان قد وقعوا على مدى عام كامل ضحية إعلام مُمنهج ومموّل ومدعوم من دول البيترودولار أمعن في تشويه حكم الإخوان وصوره كبعبع مخيف يتهدد البلاد والعباد. وهكذا استطاع إبراهيم عيسى ولميس الحديدي ومحمود سعد وخيري رمضان وعمرو أديب وهم الإعلاميون الذين مال انفكوا يطلون على المصرين ينادون بقيم الديمقراطية والحرية والشفافية أن يؤلبوا الناس على الإخوان وأن يحشدوا أذهان المصريين لشيطنتهم فملؤوا قلوبهم و عقولهم بألوان شتى من الأكاذيب والأخبار المضللة والإفتراءات تهييئا لانقضاض الجيش عليهم في الميادين؛ خطة شيطانية مدروسة بإحكام اُفتُضحت بتصريح محمد البرادعي مؤخرا عندما كشف عن وجود مبادرة سلمية كان بإمكانها حقن الدماء، لكن السيسي كانت له حسابات أخرى.

وبدا وكأنه كان ينفذ أجندة لا علاقة لها هذه المرة لا بإسرائل ولا بأمريكا وإنما هي أجندة من نفس اللحم والدم والجلد تقضي بأنه لا مناص من إبادة الإخوان إلى الأبد من المشهد السياسي المعاصر في مصر. وعلى الرغم من الأخطاء القاتلة التي وقع فيها فإن المسار الديمقراطي لم يأخذ مساره كما ينبغي في هذا البلد. فما ذا كان يضير السيسي وعملائه لو احتكموا إلى صناديق الاقتراع بعد ثلاث سنوات وأنزلوا هزيمة انتخابية نكراء بالإخوان وببرنامجهم؟ ما ضيره لو استخدم نفس المسار الديمقراطي لإبادة الإخوان من المشهد السياسي بنفس صناديق الاقتراع بدل الدبابة والجرافات، وحقن بذلك دماء الشعب المصري؟ ألم يكن له بد من التعقل والصبر إلى أن تقول تلك الصناديق كلمتها في نهاية المطاف؟ نعم كان من الممكن أن يحدث ذلك.

لكن ثمة حسابات أخرى فيها من العجلة والطيش والغدر ما أوقع البلاد بعد ذلك في كل ما نقلته الفضائيات العالمية من خراب ودمار بل وتصرف أرعن كشف مشهدا مروعا يدمي العقول والقلوب. هكذا أراد السيسي إحياء دور المؤسسة العسكرية التي حكمت البلد دوما بالحديد والنار، وما إخلاء سبيل مبارك أخيرا إلا برهان ساطع على نوايا العسكر ومقاصده.

في مقابل ذلك ما زال يُزج بالإخوان وبرئيسهم وقادتهم في السجون، والتهمة تهمتان رئيسيتان ظلتا تتكرران على لسان النظام العسكري والأمني: “الإرهاب والتحريض على القتل”. ويا لهما من تهمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في تعزيز الباطل والمنكر وقلب الحقائق رأسا على عقب. الأيام وحدها كفيلة لتفسير ما سيكون عليه مستقبل مصر العزيزة. ويبدو أن ما يحدث في هذا البلد أصبح، بحكم سرعة الأحداث وإيقاعها، خارج كل منطق معقول مقبول.

لكن ما يؤسف له حقا أن يتحول المساندون للعسكر من إعلاميين وصحفيين ومثقفين وروائيين إلى أبواق دعائية تمجد العسكر وتبارك كل الدماء التي سالت ضاربين بعرض الحائط كل القيم التي ناضلت من أجلها الشعوب الحرة من أجل الحرية والكرامة وبناء المستقبل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *