آراء

بوعجاجة

من حسن حظ النائب الاقليمي لوزارة التربية الوطنية بسيدي افني، الذي طمر معلمة تاريخية تحت التراب، أنه لم يجد في طريق عبثه بالذاكرة المحلية مجتمعا مدنيا حقيقيا يقف حجر عثرة أمام طموحاته الزائدة.

لهذا وما أن أدرك أن هذا المجال، المعبد بسوء النوايا، فسيحا أمام عينيه، حتى أطلق العنان لطموحاته مستفيدا من غياب وزارة الثقافة التي راسلتنا قبل خمس سنوات تعبر في رسالتها عن اهتمام غير مسبوق بالبنايات الكولونيالية مثلما عن نيتها في تصنيفها كتراث وطني.

فالكثيرون ممن ينسبون إلى انفسهم صفة الفاعلين هنا، ليسوا في الحقيقة سوى بيادق مسخرة، ومستلقية على رقعة اللعبة السياسية، تنتظر الفرصة المناسبة للتوقيع على عقد كراء ل”حنكها”، ولا تتحرك إلا عندما يتشابه عليها البقر لتضرب على وتر الالوان لعلها تفلح في إفساد صورة المدينة في الداخل والخارج.

ومنهم أميين لا يفقهون الكتاب إلا اماني، ومع ذلك تجدهم في المقدمة بحثا عن أي موجة لممارسة “السورف” أملا في تحقيق حلم الوصول الى شاطئ الشعبية المفقودة.

ولهذا السبب، بالإضافة الى أسباب اخرى، يصعب في الحقيقة على هؤلاء أن يقنعوننا بعدالة “قضيتهم” وبمعقولية “مطالبهم” التي لا تبرز على سطح البيانات الا عندما تبرز حاجتهم الى تصفية حسابات عالقة، وفي أحسن الاحوال، الرغبة في إبعاد سيف المحاسبة عن رؤوس أسيادهم التي حان قطافها.

أما غياب التزامهم باحترام القانون، ونأيهم الواضح عن الوفاء بما يفرضه عليهم ضميرهم المهني، الذي يظل مستترا خلف سور الصمت، الى أن يصيرا فجأة متصلا بخيط المصالح التي تشكل الدافع الاول والأخير لحركتهم وسكونهم على حد سواء، فحدث ولا حرج. ولعل رفض مهنيي وسائقي الطاكسيات الصغيرة، مثلا، وضع طاكسي واحدة رهن إشارة المرضى، الدين لا يجدون وسيلة نقل تقلهم من المستشفى الاقليمي الى مساكنهم، لخير دليل على ما نقول.

لذلك فاخر شيء يمكن أن يستقبله هؤلاء الخارجون عن التغطية الشعبية، هو رسالة دعم و مساندة من الشارع الذي لم ولن تخنه الذاكرة كي ينسى في لحظة غضب تلك الوجوه التي تخلت عنه في أحلك ايامه، وتركته يواجه قدره أعزل الا من سلاح النخوة و الكرامة، ووجها لوجه مع القوات العمومية التي تجاوزت كل حدود الدين والاعراف و القانون.

وكثير من هؤلاء الذين يحاولون اليوم رفع صوتهم في محاولة يائسة للفت الانتباه اليهم، يعرفون أكثر من غيرهم أن أول شيء اقدموا عليه، وحتى قبل ان تدخل القوات العمومية الى سيدي افني، هو التنكر للبيانات والفرار بعيدا عن خطر التواجد في المدينة التي كانت تحضر نفسها لموعد غير مسبوق مع التاريخ.

والان بالضبط، وبعد أن “تلات العدة في يد الهراب”، تريد الضفادع التي لا تكف عن النقنقة في مياه “التبنديق” العكرة، الظهور بمظهر الاسود، وتغازل أصحاب السوابق في إشعال نار الفتنة المقيتة.

ومتى كان من حق هؤلاء الذين افاقوا فجأة من “كوما” عميقة، أن يتحدثوا، ودون خجل، عن أحداث السبت الاسود، وعن المطرودين من عملهم، وباقي المطالب التي تصدرت واجهة “مشروع” ولد ميتا؟!

بالطبع لا، فمشروعهم العاجل هو المبادرة الى نقد ذاتي، مشطبين أمام مقراتهم، إن كانت له مقرات أصلا، قبل الخروج الى الشارع العام، والانخراط في مسرحية تمويه و تشويه فاشلة عمد مخرجها الى تهديد الناس و إرغامهم على النزول عند رغباته المرضية، كما لو أن الجميع ملزم بتنفيذ إضراب عام نعرف جيدا أن هدفه أبعد ما يكون من الاحتجاج على رفع الاسعار التي جاءت بها حكومة بنكيران، هذه الاخيرة التي كان من المفروض أن تضع المقص عوض “اللامبا” كرمز لبرنامجها الانتخابي، حيث فضلت قص أجنحة “البوبريا” القصيرة أصلا، عوض تسليط ضوء “اللامبا” على الكوارث التي يجب تجنبها على طريق العدالة والتنمية.

إن الحقيقة التي لا يختلف عليها اثنان هي أن هده الخطوة التي رسمها البيان الاخير على طريق الافلاس الحزبي والسياسي، لا يمكن لها بأي شكل من الاشكال أن تمنح المصداقية لهؤلاء لدى الراي العام، لأنها، وببساطة، لا تعدو أن تكون ورقة خاسرة على طاولة الابتزاز السياسي، ومجرد قفزة في الفراغ الذي يعيشه هؤلاء بسبب عجزهم عن انتزاع تذكرة العبور في مختلف المحطات الانتخابية التي شهدت على ضعف أدائهم و إفلاس مشروعهم.

إن الطريق الوحيد والمخلص لهذه الاحزاب من قبضة الانحسار والانكسار الذي يقوض حركتها المحلية، لا يشقه اللهاث وراء أي “عجاجة” مصطنعة لاستدرار التعاطف الشعبي، وانما التوقف الاضطراري في محطة النقد الذاتي حتى يتاح لها ان تنظر جيدا في مرآة الواقع قصد ترميم اعطابها. إنها الخطوة الاساسية قبل المضي قدما في ممارستها السياسية الحالية التي تبدو معتمة بسبب غياب الرؤية الواضحة لقياداتها.

إلا أن مشكلة هذه القيادات التي سبق وأن اعترفت بعدد منخرطيها الذين لا يتجاوزون “جوج قيوشا”، حسب تعبير أحدهم، أنها لا تبدو مستعدة بالمرة لتغيير سلوكها، ولا حتى لعتبتها، لذلك سيظل النحس لامحالة لصيقا بها وبمبادراتها سواء في دخولها الانتخابات مثلما في خروجها الخجول الى الشارع.

وكم هو واهم من يعتقد أن بيانا تافها، ولد نتيجة ممارسة غير شرعية مع السياسة، سيعفي موقعيه من الاحزاب السياسية من مسؤولياتهم في التأطير، ومن واجب المطالبة بمحاسبة رئيس المجلس البلدي لسيدي افني الذي يتحمل مسؤولية تسيير المجلس البلدي، والذي استخف بهم وبدافعي الضرائب من خلال رفضه الجلوس على كرسي المحاسبة ضدا على القانون، وأهان ساكنة بأكملها بإغلاقه لمصالح البلدية في وجه المواطنين.

إن الصمت المريب لهذه الهيئات على القيام بهذا الواجب، إنما يكشف عن حقيقة نواياها المُعارضة لأي اصلاح لعجلة تدبير الشأن المحلي، وفي الان نفسه فهي تضع نفسها في قفص الاتهام بالتواطؤ الضمني إن هي اعتقدت أن غربال البيانات المثقوب سيمنع تسرب شمس المحاسبة الحارقة.

أوليس حريا بهذه الاطارات، التي تدعي الحرص على مصالح المواطن الإفناوي، أن تمارس عمل الرقابة على الشأن المحلي، الذي غضت الطرف عنه عنوة في بيانها، عوض القفز، من فرط “الفز”، على الحقائق المرتبطة بالخروقات التي تقف وراءها بعض الاطراف الموقعة على بيان “عداء إفني”، والتي تحاول البحث عن كومبارسات لفيلمها الفاقد للتشويق.

اليوم، وبعد أن عُلقت الآمال الكبيرة على خيط الاضراب المترهل، نرى بوضوح كيف أن “العجاجة” التي عول عليها البعض لذر الرماد في عيون الراي العام تختفي بسرعة، دون أي تأثير يذكر، و من يعول على سيول الجماهير في الشوارع ما عليه إلا أن يُجرب حظه كي يكتشف حجمه الطبيعي في مدينة لم يعد الأفق فيها ملبدا بغيوم الوهم الذي يعمي الابصار. والسما صاااااااافية وربي مولاها!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *