آراء

مسمار جحا

اتخذه المغاربة وسيلة للتسلية فكونه من أهم وسائل الاتصال في زمن “فلينستون”، منحه ذلك مكانة في زمن قلت فيه التكنولوجيا. فقد ظل المذياع صديقا وفيا لكل أفراد الأسرة قبل وبعد أن يدخل بيتنا شيئ اسمه التلفزيون.

يستيقظ الناس على ساعة المذياع ويقودون سيارتهم الى العمل مستمعين اليه فكان لهم خير جليس يرافقهم في راحتهم و ترحالهم. فأصبح هذا الجهاز قبل أن يتحول الى نقرة على جوالك كمسمار جحا ذلك المسمار العالق بأرواحنا لا ننفك أن نتخلص منه إلا بقدرة قادر “وماشي بعيد زمن الأبيض والاسود هو اللي موصي عليه قبل ميشد الطريق” فوجوده في حياتنا يجعلنا لا نتوانا لحظة عن التجوال في المنزل بحثا عن الاشارات والموجات الكهرومغنطيسية كفأر يبحث له عن قطعة طعم يسكت بها أمعاءه هنيهات قليلة أو روحه الى الأبد.

فمع هذا الجهازكانت الأسر المغربية تتجمع في غرفة واحدة يتولى رب الاسرة مهمة النقر على الأزرار، فنتحلق حوله لنستمع لحلقات جديدة من التمثيليات والبرامج المرحة الخفيفة وبرامج المنوعات والخطب الدينية وبرامج الوعظ والارشاد فلم يكن ليفوتنا سماع البث المباشر لمجلس النواب والمستشارين.

ولا أخفيكم سرا أني كنت في صغري لا أطيق سماع جلسات البرلمان فقد كانت تلك القبة تعكر صفو مزاجي فلم تكن لي جرأة البوح لوالدي بأنه تملكني رغبة شديدة في كسر ذلك المذياع الخشبي الذي ورثه عن أمه أيام الأبيض والأسود في كل جلسة برلمانية أو العبث بأمعائه “اللي ليها ليها” فهي لا تصلح حتى للنقانق لكنت اتخذتها لذلك الغرض ففي مساء كل ثلاثاء ومع قدومي من المدرسة كان صوت الوزير الأول يصلني صداه في مؤخرة الزقاق فقد كان صوته “اللهم بارك وزد على ذلك” يعلوا على صوت طاحونة العم مسعود في بيتنا القديم. على الأقل في زمن “فلينستون” كانت لتلك القبة قدسيتها الى أن جاء التلفاز ففضح المستور فما خفي كان أعظم.

تذكرت عندما كنت طفلة كان بحوزتي مذياع صغير اهداني إياه والدي بطريقة غير مباشرة فنظرا لسلطته الخارجة عن المألوف لم يكن يتجرأ أن يهدي أحدنا شيئا بشخصه خوفا من ان نتمرد عليه في اليوم الموالي فنسعى الى إسقاط النظام في اليوم التالي. فلو كان والدي رئيس دولة فما كان مصيره الآن يا ترى؟

والواقع أن الروايات متضاربة بخصوص حصولي على ذلك المذياع فأمي تقول بأني وجدته في كيس خردة أمام بيت جارنا الإيطالي وأخي الأكبر يقول بأني ولدت وفي يدي اليمنى مذياع وكل تلك الروايات ضعيفة وقد تكون الرواية الأولى قد رويت بسند حسن فلا أظن أن والدي سيهديني مذياعا في ذلك الوقت وانا لا أتجاوز سبع سنوات ولن أفصل أكثر في هذا الموضوع حتى لا يتهمني صاحب المذياع بالسرقة استنادا على محضري هذا.

أتذكر الان كيف نجح هذا الجهاز في إشاعة جو من الخوف والرعب في نفسي فقد كنت خلالها من المدمنات على برامج البوح عبر الأثير أتذكر صوت محمد عمورة في برنامجه “منكم وإليكم” الذي كانت الإذاعة الوطنية أنذاك تؤنسنا به أو بالحرى ترعبنا به مساء كل احد. فأستيقظ في الصباح الباكر الى المدرسة وكلي خوف فترتعد فرائسي بمجرد أن أصادف أحدا في الزقاق في طريقي الى المدرسة لكن سرعان ما يزول ذلك الشعور مع ارتدائي لبزتي المدرسية ليضرب لي موعدا جديدا في الأسبوع المقبل مع بوح جديد.

ومن شدة تعلقي بذلك المسمار فقد كنت أنفض عنه الغبار باستمرار فأمسح جلاده بالماء الحار فبين الفينة والأخرى كنت أنفض الغبار عن أمعاءه فأعيدها الى مكانها فأحكم إغلاقه قبل موعدي الليلي مع برنامج المنوعات “بيت الصداقة” على أثير إذاعة “ميدي أن” الى أن أغفو فأستيقظ في الصباح الباكر ومذياعي يئن محتضرا فأنذب حظي على نومي المفرط الذي ابتلاني الله به فأخبطه بيدي لعله يستعيد البث ما يدفعني بالرغم عني الى عض بطارياته السامة لعلها تفي بالغرض في سمر ليلي قادم.

فمع هذا الكم الهائل من الموجات الإذاعية فقد عاد الراديو الى حياتنا من جديد وفي جعبته الكثير ليحكيه حيث يحاول أن يمنح لكل واحد منا جرعته اليومية من خلال سلسلة من البرامج التي تتخبط بنا و لا نستفيد شيئا في نهاية المطاف بابتليت النساء بوصفات جمال الصقلي وتغنت الفتيات بمصطفى الهردة وتوأمه أديب سليكي “ها سمير الليل طلع ها بصراحة نزل” حتى قرفنا من هذه البرامج ومن قصصها ومشاكلها التي لاتنتهي كمسلسل مكسيكي لا يأتينا بجديد إلا في بعض الحالات الناذرة التي يموت فيها البطل دون أن يتزوج من البطلة هذه هي حال برامج البوح بمذياعنا العزيز قبح الله التخلف وما تلاه.

شخنا وشاخ مذياعي الصغير فأحيل على خردة بيتنا وأحلت أنا على شراء مذياع جديد فرب قائل” الجديد لو جدة والبالي لا تفرض فيه” ولو كان مجرد مسمار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *