متابعات

وهبي يكتب: النيابة العامة أو الطريق نحو مقصلة الديمقراطية

ينظر المحامي والقيادي في حزب الأصالة والمعاصرة عبد اللطيف وهبي، بكثير من الحذر لمشروع قانون يهدف إلى جعل النيابة العامة مستقلة عن سلطات وزير العدل، معتبرا في مقال رأي أن الإصلاح القضائي في المغرب وعلى رأسه استقلال النيابة العامة تتحكم فيه مصالح شخصية وحزبية بعيدة عن مصلحة الدولة.

واعتبر وهبي أن الصلاحيات التي ستمنع للنيابة العامة في مشروع القانون الجديد، سيجعل منها إما حامية لحريات الناس ولرقابهم وإما متسلطة عليها، متسائلا في هذا الصدد، “كيف إذن يمكن إصلاح جهاز النيابة العامة دون أن نمنحه هذه السلطة المطلقة التي هي جد خطيرة ليس على المواطنين فقط ولكن على نظامنا القانوني برمته؟”.

وشدد وهبي على أن سمي بـ “إصلاح النيابة العامة”، وجعلها تحت سلطة الوكيل العام بالمجلس الأعلى، أي تحت وصاية شخص له حصانة مطلقة بحيث لا تتم متابعته أو مسائلته، وهو الوحيد الذي يمكن أن يحاسب جهاز النيابة العامة، هو منطق خطير جدا.

وأبرز أن “استقلال السلط لا يعني بتاتا الفصل المطلق، بل يقصد بالأساس مراقبة هذا بذاك، بحيث من حق النيابة العامة مراقبتنا عند إدارتنا للشأن العام حماية له من استغلال السلط والنفوذ، ولكن في نفس الوقت من حق البرلمان أن يراقب من منحت له سلطة المساس بحريات وبحقوق وبحرمات المواطنين باسم القانون”.

وفي مايلي نص المقال:

أثير نقاش كبير ببلادنا ولا يزال حول الإصلاح القضائي، والغريب في الأمر أن الكل في هذا الإصلاح يجذب الحبل إلى مصلحته دون التفكير في مصلحة الدولة، في حين أن إعادة النظر في مؤسسة العدالة هو إصلاح في عمق الدولة، فالعدل أساس الملك ومن حق المواطن أن يطمئنوا إليه وعليه.

ومن المواضيع الأكثر جدلا في هذه المنظومة هو ما سمي ب “إصلاح النيابة العامة”، خاصة وأنها مؤسسة يمنحها القانون سلطات كبرى تجعلها إما حامية لحريات الناس ولرقابهم وإما متسلطة عليها، ولأن القانون منح للنيابة العامة سلطات الملائمة _أي سلطة الاعتقال والمتابعة_ فإن ذلك لا يمكن وضع حدود له إلا بالقانون، وهذا الأخير غالبا ما يكون يتيما يمكن تجاهله أو حتى رميه عرض الحائط، فكيف إذن يمكن إصلاح جهاز النيابة العامة دون أن نمنحه هذه السلطة المطلقة التي هي جد خطيرة ليس على المواطنين فقط ولكن على نظامنا القانوني برمته؟.

فالنيابة العامة يمكنها أن تعتقل المنتخب وحتى الوزير، ولها الحرية والحق في ذلك، كما لها الحق كذلك في أن لا تعتقل وأن لا تتابع، فمنطقها هو القانون، وهذا الأخير بإمكاننا تكييفه بشكل قد يرضي هذا الطرف أو ذاك.

لهذا اتجه العالم كله نحو التفكير في كيفية ضبط هذه السلطة، بين من منح للقضاء الجالس سلطة المراقبة المستمرة والفورية، وبين من حول النيابة العامة إلى مكون إداري ذو صبغة سياسية يخضع لسلطة البرلمان وللمراقبة.

وفيما يتعلق بالإصلاح القادم في بلادنا في إطار “مشروع السلطة القضائية”، فقد جعل النيابة العامة تحت سلطة الوكيل العام بالمجلس الأعلى، أي تحت وصاية شخص له حصانة مطلقة بحيث لا تتم متابعته أو مسائلته، وهو الوحيد الذي يمكن أن يحاسب جهاز النيابة العامة، وهذا منطق خطير جدا، لكون استقلال السلط لا يعني بتاتا الفصل المطلق، بل يقصد بالأساس مراقبة هذا بذاك، بحيث من حق النيابة العامة مراقبتنا عند إدارتنا للشأن العام حماية له من استغلال السلط والنفوذ، ولكن في نفس الوقت من حق البرلمان أن يراقب من منحت له سلطة المساس بحريات وبحقوق وبحرمات المواطنين باسم القانون، وبالتالي فالرقابة التي هي مسؤولية أساسية وثابتة نجدها قد ضاعت في مشروع القانون الجديد بين وزير العدل والوكيل العام.

فإذا كان الأصل أن الوزير يرسم السياسة الجنائية العامة والوكيل العام ينفذها، فإن مبدأ المسؤولية هذا قد زاغ في المشروع الجديد، بحيث هل نترك مسؤولية محاسبة النيابة العامة إلى الجهاز الحكومي من خلال وزير العدل – وهذا الأخير يخضع لمراقبة البرلمان بالإضافة إلى مراقبة المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية ويصبح من حق المؤسسة التشريعية محاسبته على أي إخلال يمس بالحريات أو يتجاوز الاحترام الواجب لمكونات الثوابت الدستورية التي تدخل فيها الحريات والديمقراطية كثابت أساسي؟-، أم أننا سنقف عاجزين أمام سياسة الوكيل العام التي سيطبقها على الوكلاء العامين الذين لا يملكون في الأصل سلطة الاستقلال، لكون النيابة العامة جهاز يتسم بالتدرج الإداري، هذا علما أننا كبرلمان لا يمكننا أن نستدعي الوكيل العام بصفته القضائية، وهذا مخل لمبدأ دستوري سياسي هام هو ربط المسؤولية بالمحاسبة؟.

إن الأمر أخطر مما نتصور، فاستقلال القضاء الجالس تحت إشراف السلطة القضائية قضية متفق حولها، أما استقلال النيابة العامة فهي قضية ثانية، بحيث لا يمكننا أن نقبل داخل مجتمع ديمقراطي وفي ظل دستور 2011 أن تكون هناك سلطة “النيابة العامة” تملك قوة القمع القانونية خارج المسائلة؟، إنها مسألة مصير حريات الناس وضماناتهم، وأما الذين يدافعون عن خلاف ذلك تحت شعار “الدفاع عن استقلال القضاء” هو كلام حق يراد به باطل، لكون النيابة العامة موضوع والقضاء الجالس موضوع آخر، ولا يجب أن نتحمس أكثر من اللازم في مواضيع لها حساسيتها المطلقة، خاصة حينما نكون أمام جهاز بهذا الحجم من السلطات القانونية والبشرية والمادية ولا يمكن للبرلمان أن يسائله أو يراقبه، وأما استقلال قضاء الموضوع فتلك سلطة نقر بها ونحترمها، واستقلاليتها ضمانة أساسية لأي مجتمع ديمقراطي و هي عمق العملية الديمقراطية، ولقد أصابت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان حينما رفضت أن تعتبر جهاز النيابة العامة بفرنسا _الذي يشبه جهازنا_ جهازا قضائيا لفقدانه مبدأ الاستقلالية.

وأخيرا وليس آخرا أتمنى أن يتم التأخر والتريث في هذا الموضوع الحساس والمصيري في مشروع إصلاح القضاء، وذلك بهدف تعميق الحوار حوله، وأن لا يحال على مجلس الوزراء، وأن تعود فيه الحكومة إلى فتح نقاش موسع مع جميع الفاعلين والمختصين حتى اتضاح إصلاح قضائي يساهم في البناء الديمقراطي، وليس في اتجاه خلق جهاز قد نضطر مستقبلا وفي القريب العاجل إلى إعادة النظر في تشريعه، لكون الاستقلالية التي قد تمنح له ليست منطقية لا سياسيا ولا قانونيا ولا ديمقراطيا، وقد نكتشف أنها كانت نوعا من المزايدات الحقوقية التي تفتقد إلى العمق وإلى التفكير في ضبط السلط وفسح المجال لمراقبتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *