آراء

المهنة.. رجل أعمال !

كم تمنى أن يكون رجل أعمال. لما سألته المعلمة في الفصل، كان حينها في الرابع ابتدائي، يجلس قربي في طاولة قديمة أكبر منّا سنّا، أصبحت سوداء بخربشات أجيال متعاقبة من التلاميذ.

حين اقتربت منا المعلمة سُعاد، كنا نرتجف، قامتها طويلة، خصرها كبير، ولون بشرتها يشبه لون التراب، شلال لطيف ينهمر من أعلى رأسها،  تحمل هضبة لذيذة تتدلى من صدرها. كنا ننظر إليها بخوف مُبتسم، وقفت بحذر، ثم طرحت السؤال في أول حصة، ماذا تحب أن تكون في المستقبل؟

لم أعرف حينها لماذا أجابها بسرعة وبدون تردد ”أتمنى أن أكون رجل أعمال Homme d’affaires، وهو مازال يحتفظ ”بشكارة مْقطعة من التّحضيري”، سرواله متقوب، وسندالته تبدو وكأـنه شارك بها في الحرب العالمية…

هل قال رجل أعمال.. ربما لأنه سمعها في فيلم مصري على قناة الإثم، أو في وصلة إخبارية، لكنه يعرفها بالفرنسية ! لم نكن نجيب كثيرا على أسئلتها فيما بعد، لكننا نراقب كل تحركاتها، لم يكن ذلك برغبة ذاتية، هي من كانت ترغمنا على ذلك، لأنها لم تكن ترتدي ”الطابلية” ورغم ذلك أجابها بكل ثقة، أريد أن أكون رجل أعمال. لا أعرف كيف فكّر هذا البئيس في هذه المهنة ! لكنه الأن يبيع التمر في إحدى ضواحي كازا.

لم أدرك حينها أن رجال الأعمال سعداء جدا في هذا البلد التعيس، ففي أول سفر لي على مثن حافلة مهترئة إلى الجامعة، عبر تيشكا، استرجعت تفاصيل حديث ذلك الفصل، واخترقتني ذكرياته المضحكة، لكنها امتزجت بمشهد مرعب لمنعرجات تيشكا الضيقة. بشاعة الحوادث التي عرفتها هذه الطريق الوطنية رقم 9 على طول سنين، تجعل المارين منها يستعدون مسبقا لموت محتم، أو على الأقل إلى دخول غمار قصة رعب مجهولة المصير، تستمر ساعةً على الأقل، تهتز معها أنفاس المسافرين وتنقطع كلما سمعوا منبّها صغيرا لسيارة قادمة من الجهة المقابلة، لأن الطريق هنا لا يكفي إلا لحافلة واحدة أو سيارتين من الحجم الصغير، وبمجرد التقاء حافلتين من الحجم الكبير، تبدأ قصة أخرى من الانتظار ..

كل ما تراه من زجاج النافذة، نهر يبعد بعشرات الأمتار إلى أسفل. حينها أدركت كم هم سعداء للغاية، فرجال الأعمال يستطيعون  الوصول إلى مراكش في أقل من 45 دقيقة على مثن طائرة، بدل 5 ساعات في غياهب هذا الجحيم.

ما أسعدهم أكثر، بسياراتهم الفارهة التي تقيهم شر عناء الطريق وتساعدهم على قضاء حوائجهم، لهم سائقهم الخاص، أو ربما طائراتهم الخاصة، أو قطارهم الفائق السرعة، الذي سيبعدهم من ضجيج الأطفال و الركاب، يقيهم شرّ العذاب على مثن حافلة حقيرة أو قطار مكتظ كخم دجاج، خاصة أيام المناسبات والأعياد.

كم هم سعداء فربما لم يسبق لهم أن تزاحموا في مقاطعة، أو سوق شعبي، لم يسبق لهم أن انتظروا في زحام مستشفى منتصف الليل وهم على حافة الموت، مستشفيات خاصة تنتظرهم، أطباء خاصون، حراس، وخدام.. أطباؤهم يبتسمون، إنسانيون، ولطفاء..

ما أسعد رجال الأعمال، فهم لا يسجنون إن ارتكبوا جريمة، لأنهم يعرفون لغة القضاة المُدْهنة، ولا يؤذون غرامات، لأن الشرطة تحترم مخالفاتهم، وحتى إن سجنوا ”لا قدّر الله”، فإنهم يحضون بغرف خاصة فاخرة، بحي رياض السجن، قرب السوبرماركيت، والبار، أي أن خدماتهم الاجتماعية و بنيتهم التحتية مجهزة حتى داخل السجن. فما أسعدهم، قد يخرجون أيضا لمجرد إشارة من فوق ويعودون إلى حياتهم الطبيعية على مثن طائرة أو سيارة أو داخل مكاتب فاخرة.

ما أسعدهم لأنهم لا يحزنون، وربما لا يمرضون، حياتهم غير معقدة مثل هؤلاء الجوعى و المرضى…

ما أسعهم لأن ثرواتهم تبقى على حالها حتى في أكبر الأزمات، أموالهم موزعة على حسابات وهمية في أبناك خارج الوطن..

لأن مهنتهم ”رجال أعمال”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *