ملفات

انتفاضة 88 بتيندوف .. حينما تفاعل الحسن الثاني بوطن غفور رحيم

الرد الشرس وغير المبرر للبوليساريو على خطاب الملك محمد السادس، وقلقها من مضامينه ومسارعتها الى بعث رسائل الشكوى للأمم المتحدة واستعانتها بمن تعرف ومن لا تعرف، لم يكن سيرا على نهجها التقليدي في محاولة الظهور بوضع المظلوم والمغلوب على أمره بمناسبة أو بدون مناسبة، بقدر ما كان خطاب المسيرة الخضراء إعلانا حقيقيا لحالة الطوارئ بالمخيمات وحدثا جللا استدعى تحريك كل مؤسسات الجبهة من اصغر عضو الى اكبر رأس في البوليساريو – محمد عبد العزيز- الذي نسق خروجا إعلاميا تحت مسمى “خطاب للشعب” أراد له امتصاص أو التخفيف على الأقل من وقع خطاب الملك محمد السادس الذي جاء مزلزلا بكل المقاييس.

سياق الخطاب الملكي

يأتي خطاب محمد السادس في ظل ظروف استثنائية تعيشها مخيمات تندوف، على مختلف الأصعدة، في ظل تأكيد رئيس حركة البوليساريو غير ما مرة إن 2015 سنة الحسم في ملف الصحراء، دون أن يلمح إن كانت النتائج لصالح البوليساريو من غيرها، إلا أن إعلانه شخصيا عن إطلاق حالة الاستنفار قبل شهرين، وشى بما لم يستطع البوح به، وأبان عن قلق رسمي من مجريات وأحداث داخلية وخارجية قد تنسف أحلام قيادة البوليساريو ومن يدور في فلكها.

قضية محجوبة وأحداث المخيمات

لم يدم الانتظار طويلا قبل أن تنقلب الدنيا على رأس البوليساريو خارجيا بسبب احتجازها للشابة محجوبة محمد حمدي الداف، أثرت على علاقتها بأقرب حلفائها وصلت حد قطع المساعدات الإنسانية عنها، قبل أن تنفجر الأمور داخليا بخروج مظاهرات منددة بتورط عبد العزيز المباشر في تهريب نفس الشابة دون إذن عائلتها رضوخا لضغوط اسبانية.

مظاهرات عائلة الشابة وبعض أقاربها لم يكن ليكون ذا أهمية لو تعلق الأمر بعائلة لا تنتمي لقبيلة لبيهات أو أنه جاء في غير هذا الوقت الحساس الذي لا مجال فيه لقبول خروج عن الصف في حرب البوليساريو لكسب معركة السنة الحاسمة، فكان لزاما أن تتحرك البوليساريو بسرعة لاحتواء تظاهرة عائلة محجوبة ومعارفها.

فأعطت أوامر للحد من تزايد المتظاهرين بأن تدخلت عبر وساطة وزيرها الأول لمنع مظاهرة لأبناء قبيلته كانت مقررة للتنديد بإطلاق سراح خمسة أشخاص تورطوا في قتل أحد أفراد القبيلة، قبل أن تقرر البوليساريو منع عائلة محجوبة بالقوة وتتورط في تأليب ميليشياتها للتنكيل بالمتظاهرين.

الأمر الذي استدعى تحركا فوريا على مستوى قبيلة لبيهات للرد على استهداف واضح في حق أبناءها، ومعاملة عنصرية تمس كرامة أبناء القبيلة، فكان الرد بمسيرة سلمية لمئات الأشخاص في اتجاه مقر زعيم البوليساريو، قوبلت بقمع شديد، استدعى دخول بعض أبناء القبيلة في مواجهات مباشرة مع قوات الدرك والشرطة، نجحت بعده مجموعة مكونة من 500 رجلا و 60 امرأة في اقتحام مقر رئاسة البوليساريو.

تلتها أحداث متفرقة تمثلت في اقتحام مقرات ولايتي العيون والسمارة وبعض المؤسسات التابعة للبوليساريو وتكسير سياراتها وتخريب كامل محتوياتها. لتستدعي البوليساريو الجيش وتقسمه على المخيمات الخمسة التابعة لها، فكانت النتيجة كارثية بكل المقاييس: عشرات الجرحى والمعطوبين ومئات المعتقلين في صفوف الشباب والنساء.

الخوف من تكرار انتفاضة 1988 بمخيمات تندوف

استعانة البوليساريو بجيشها لقمع المظاهرات، وقبولها فيما بعد الدخول في مفاوضات مع المحتجين عبر ما يسمى وزير داخليتها لحثهم على قبول عقد هدنة مؤقتة الى حين تحقيق مطالبهم، لتفسح المجال لتجييش بلطجية تابعة للنظام للخروج في مظاهرات موازية رفعت فيها صور زعيم البوليساريو وأعلامها تحت حماية الجيش تتهم المتظاهرين الذين هادنتهم بالخونة والعملاء وتدعي حماية المؤسسات الوطنية.

وحتى عندما منعت البوليساريو قبيلة أولاد ادليم من التظاهر بالتزامن مع مظاهرات قبيلة لبيهات لم تخشى في الحقيقة سوى تكرار انتفاضة 1988 التي قادتها القبيلتين إلى جانب قبائل أخرى قسمت ظهر البوليساريو، وخلفت أثارا بليغة على بنيتها لا زالت لم تتعافى منها الى اليوم.

ورغم أن البوليساريو نجحت في منع قبائل أخرى من التظاهر إلا إنها فشلت في منع قبيلة لبيهات من الخروج في مظاهرات تحولت فيما بعد الى انتفاضة عارمة، ترجمت واقع سنين من الإقصاء والتهميش عاشته القبيلة منذ انتفاضة 1988 إلى اليوم، عانت خلالها الحذر والمنع والتخوين، فعاش أبنائها مواطنين من الدرجة الثالثة رغم أن قبيلة لبيهات تشكل 33 بالمائة من ساكنة المخيمات حسب إحصائيات البوليساريو نفسها، وهو سبب آخر يجعلها تمعن في إقصائها من أية مسؤولية.

لمحة تاريخية عن أحداث 1988 بالمخيمات

بعد وفاة الولي مصطفى السيد بدأت المؤشرات الأولى لمؤامرة ضد أبناء الساقية الحمراء ووادي الذهب عبر استهداف قياداتها المؤسسة للبوليساريو، ومحاولة تجاوزها وتهميش دورها، ونهج سياسية إقصائية في حقها لمنعها من المشاركة بأي شكل من الأشكال في السلطة، مقابل محاولة صنع قيادات جديدة وإعطاء زخم سياسي لشخصيات على أساس الإنتماء والولاء للجزائر.

من هنا بدأ وعي قيادات مؤسسة للبوليساريو وعدد من الأطر بمخطط الجزائر بأن تبقى البوليساريو أداة ضغط ضد المغرب وعامل تصفية حسابات معها. فظهرت بوادر انتفاضة 1988 بالتنسيق بين نخبة من القيادات المفكرة والأطر الواعية لمحاولة مواجهة المخططات التي تروم استغلال ساكنة الساقية الحمراء ووادي الذهب، ومواجهة التحالفات التي بنيت لمواجهتها.

فلم يعد خافيا حجم السخط والتذمر على تدبير القيادة، فكانت انطلاقة الانتفاضة بزعامة عمر الحضرمي (محمد عالي العظمي والي جهة كلميم-السمارة حاليا) تضامنت معها الجماهير وخرجت في تظاهرات عارمة قمعتها البوليساريو بإشراف من ضباط من الجزائر.

تبني الحسن الثاني لانتفاضة 1988 ونداء “إن الوطن غفور رحيم”

” … في هذه السنة، ومن هذا المنبر أقول لجميع من لديهم النيات الحسنة ولجميع الذين تسري في دمهم ولو نقطة تربطهم بالمغرب إن الوطن غفور رحيم.. أعلم أن هناك أسرا أكبادهم منقسمة بين شطرين، قلوبها تبكي وتدمي، لأن منها من هو هنا ومنها من هو هناك، فأقول لمن ظلوا الطريق وابتعدوا عن السبيل عليهم أن يتقوا الله في الوطن والرحم، وأن يعلموا أن الوطن غفور رحيم.. والله تعالى أرجو أن يهدي الضالين… “، من خطاب المرحوم الحسن الثاني بإفران بمناسبة الذكرى 13 للمسيرة الخضراء، 6 نونبر 1988.

جاءت هذه الكلمات أياما قليلة عقب انتفاضة 1988 بمخيمات تندوف، وأبانت عن فهم عميق لملك حكيم لحقيقة ما يجري من أحداث بالمخيمات، أراد أن ينقذ الصحراويين الأصليين أبناء الساقية الحمراء ووادي الذهب، ففتح الباب على مصراعيه لعودة الراغبين منهم الى الوطن بعدما تيقنوا بحقيقة استغلالهم من طرف الجزائر لضرب وحدة المغرب الترابية، وبعد أن أصبحت المخيمات وبالا على كل من شارك في الانتفاضة المجيدة.

وصل الخطاب الملكي الى مخيمات تندوف، فكان بداية تنسيق تاريخي بين الملك الحسن الثاني وعمر الحضرمي زعيم الثورة ضد البوليساريو، الذي فهم رسالة الملك وأيقن من صدقها، فاتخذ قرار بطوليا بأن اتصل بجلالته عبر سفارة المغرب بالولايات المتحدة الأمريكية طالبا الإذن بالعودة، حيث عاد إلى المغرب يوم 9 غشت 1989، فكان قرارا غاية في الشجاعة بسببه عاد آلاف الصحراويين إلى حظيرة الوطن، ولعل هذا ما يثبت الشعبية التي لا زال يحظى بها الرجل إلى اليوم داخل المخيمات.

عودة جعلت الحسن الثاني يطلق نداءه الثاني – بعد 10 أيام على عودة الحضرمي- لمن لا زالوا يشككون في نية المغرب في عفوه عن الصحراويين ممن استفاقوا من وهم أطروحة البوليساريو: “.. فأملي في الله أن يرجع المضلون إلى رشدهم، ويتقوا ويؤمنوا بأنه عندما يقول الحسن بن محمد بن يوسف بن الحسن عبد ربه، والله وليه ـ إن الوطن غفور رحيم ـ لا يقولها عبثا، يقولها بكل ما في هذه الكلمة من مسؤولية والتزام باسمه وباسم جميع المغاربة.. “، من خطاب المرحوم الحسن الثاني، بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب، 20 غشت 1989.

بعد نداء الحسن الثاني، ساهمت عودة القيادات الشرعية والزعامات المؤسسة للبوليساريو إلى أرض الوطن، في فقدان البوليساريو مصداقيتها وأضاعت بوصلتها التوجيهية إلى الأبد، تاركا إياها تتخبط في المجهول، وحكم عليها بالموت البطيء التي تقترب منه بأخطاء قاتلة تقع فيها جراء فقدان سيطرتها على الانفتاح الذي أسسته انتفاضة 1988، وأجواء التعددية الفكرية التي ربتها في الصحراويين من خلال تنوع اختياراتهم أفرادا وجماعات لحل قضية الصحراء، والقطعية مع الاختيار الوحيد والأوحد بأن الاستقلال هو النتاج الوحيد لتقرير المصير.

البوليساريو تخشى مبادرة ملكية جديدة لدعم الانتفاضة الجارية بالمخيمات

شكل دعم الحسن الثاني لانتفاضة 1988 وقبوله عودة الصحراويين الوحدويين الى المغرب، نقطة تحول بارزة في مسار قضية الصحراء، ساهمت بشكل كبير في الضغط على قيادة البوليساريو من اجل القبول بوقف أطلاق النار، والدخول في مفاوضات مع المغرب، بعد إحساس هذه القيادة بهشاشة التماسك الداخلي وفقدان الجندي الصحراوي لاندفاعه وحماسه وروحه القتالية، وتحوله من محارب من أجل قضية إلى جندي يدافع عن مصالح أفراد من القيادة ويقوم بضرب النساء والرجال من أجل قيادة متسلطة، حتى صارت الجندية وصمة عار، وأصبح الجنود يسمون “الجويندة”، فانهار جيش البوليساريو.

تخشى البوليساريو اليوم أن يعيد التاريخ نفسه ويدعم محمد السادس الانتفاضة الجارية بالمخيمات، فمحمد السادس أطلق خطابا ناريا قويا مفعما بالثقة أكد كلام زعيم البوليساريو أن سنة 2015 سنة الحسم فعلا، لكن على عكس محمد عبد العزيز فالملك كان واضحا حين أكد أنها لصالح المغرب وليس لغيره، وبعث برسائل صاروخية صدمت أنصار البوليساريو وجمدت الدماء في عروقهم.

فمحمد السادس أبان عن فهم لما يجري بالمخيمات من أحداث تعيش البوليساريو بسببها على وقع انقسامات خطيرة، وأن بالمخيمات صحراويين يناضلون في سبيل الانتصار على البوليساريو والجزائر من أجل إنهاء معاناتهم والعودة إلى وطنهم الأم.

الملك محمد السادس تفاعل مع الأحداث، فأكد أن المغرب يتفاوض من أجل المغاربة بمخيمات تندوف، وأن الوطن غفور رحيم لمن يتوب توبة لا لبس فيها، مشددا أن مبادرة الحكم الذاتي أقصى ما قد يقدمه المغرب من أجل إنهاء نزاع الصحراء.

ومخافة أن يتكرر ما فعله الحسن الثاني إبان أحداث 1988 بالمخيمات باستقطاب رموز الانتفاضة آنذاك، عن طريق مبادرة ملكية جديدة بالاعتماد على عمر الحضرمي (محمد عالي العظمي) الذي ينتمي لقبيلة لبيهات التي تقود الانتفاضة الحالية بالمخيمات.

وأكثر من ذلك لا زال يعتبر زعيما حقيقيا داخل المخيمات، ليس فقط من طرف قبيلة لبيهات وإنما من ساكنة المخيمات جميعا حسب استطلاع الرأي الذي نظمته الجزائر بالمخيمات قبل سنتين لمعرفة رجل الثقة لدى القاعدة ضمن ثلاث شخصيات من قادة البوليساريو.

قبل أن يفاجأ المنظمون بتواجد اسم عمر الحضرمي على أغلب الاستمارات، مما اعتبر في حينه ارتباط ساكنة المخيمات بزعيم قاد انتفاضة ضد البوليساريو من أجل تحرير الصحراويين قبل أن يضع يده في يد الحسن الثاني لصنع تحالف أضعف البوليساريو إلى يومنا هذا.

البوليساريو من منطلق معرفتها بشعبية عمر الحضرمي بالمخيمات، وخوفا من تنسيقه مع أبناء عمومته المنتفضين ضدها وهو التنسيق الذي لم ينقطع قط، حاولت في الأيام الأخيرة اتهام الحضرمي بالإشراف المباشر على تلك الأحداث عبر أشخاص تربطهم به أواصر القرابة، متهمة إياهم بالعمالة للمغرب ورفع الأعلام المغربية وصور محمد السادس بالمخيمات، في محاولة منها لتأليب أنصارها من باقي القبائل على قبيلة لبيهات لإضعاف ثورتها وإخضاعها بالقوة، خوفا من مبادرة ملكية غير متوقعة قد تدمر ما تبقى من جبهة البوليساريو.

زعيم البوليساريو حاول أن يجد مبررا للخروج الإعلامي بالتزامن مع خطاب محمد السادس بحجة افتتاح السنة القضائية الجديدة ليلقي خطابا إلى ساكنة المخيمات لم يتكلم فيه عن القضاء لا من قريب أو بعيد، بقدر ما أعطى الوقت كله للحديث عن الأحداث الدائرة في المخيمات.

وحاول قدر الإمكان تهدئة الأوضاع ودغدغة المشاعر، وأسهب في الكلام على غير عادته، وحاول أن يخاطب الصحراويين باللهجة الحسانية فقط، فيما يفهم أنه خطاب يحاول أن يصل من خلاله إلى مختلف الشرائح بما فيها الأمية باعتبار أن الانتفاضة ضمت إلى جانب الشباب شيوخا ونساء من كبار السن، ما يعكس حرص عبد العزيز على إيصال رسالته الى الجميع دون استثناء.

الرسالة التي جاءت لينة ومرنة، وطالبت المحتجين بالتعقل وتغليب المصلحة العامة، وتحدث فيها بلغة أقرب إلى الاعتذار لقبيلة لبيهات حين وصف المنتفضين ضده بالوطنية بعدما كانوا قبل خطابه يوصفون بالشياطين وبالخونة والمخربين، قبل أن تتكشف أسباب اعتذاره الذي لم يكن سوى تلبية لطلب شيوخ القبائل الصحراوية التي حذرت الزعيم من خسارة قبيلة لبيهات التي تشكل غالبية ساكنة المخيمات، وأن أي استهداف في حقها يعني القضاء على المخيمات، قبل أن يعلن بالمغرب عن خطاب الملك محمد السادس فحاولت البوليساريو استباقه بامتصاص غضب قبيلة لبيهات وأن تطلب الأمر اعتذارا من الديكتاتور محمد عبد العزيز.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *