مجتمع

تندوف…صرخة من داخل “الستالاك” الكبير

يستطيع مهندس فكرة تبادل الزيارات بين الأهالي المتحدرين من أصول صحراوية، في اتجاه الوطن الأصل ومخيمات تيندوف جنوب غربي الجزائر، أن يطمئن إلى أن رهان بناء الثقة يمكن أن يثمر نتائج طيبة عند اقترانه باستبدال النظارات الأحادية المنغلقة، بأخرى واقعية تعرض للحقائق كما هي.

غير أن الفكرة، في حد ذاتها، ليست هي التي مكنت جيلا جديدا من الصحراويين الذين كانوا يقيمون في زنازنَ سياسية ونفسية أطلق عليها، مجازا، اسم “المخيمات”، من اكتشاف حقائقَ كانت مغيَّبة عنهم، نتيجة فرض سيطرة الرأي الاستبدادي الواحد، ولكنها ساعدت في ذلك في ضوء الواقع الذي يميز الحياة في الأقاليم الجنوبية ـبصرف النظر عن أي نوع من المؤاخذات التي تتوخى اكتمال الصورة ديمقراطيا وعملياـ ذلك أنه لو لم تكن الصورة مشجعة تشي بأكبر قدر من الانفتاح ودمقرطة الحياة وإفساح المجال أمام بلورة مظاهر التعددية السياسية والفكرية في إطار الوحدة والتنوع، لما صحت المقارنة بين واقعين.

لعل ما زاد في فضح التناقض بين الواقع والخطاب في طروحات البوليساريو أن هذه الأخيرة اضطرت، تحت تأثير الكثير من المتغيرات، إلى أن تحتمي بارتمائها في أحضان الخطاب الحقوقي ذي المرجعية الكونية، وجاءت “سقطتها” مدوية، حين أرادت التلويح بورقة احترام حقوق الإنسان، عساها تستعدي بعض الأوساط المشبوهة للانضمام إلى جوقة المتباكين على أوضاع حقوق الإنسان، علما بأنه إذا كان هناك واقع مأساوي يشكل أقصى درجات الاضطهاد وانتهاك حقوق الإنسان وسلب الحريات وضرب مقومات الهوية، فهو الذي يعيشه المحتجزون داخل “الستالاك” الكبير.

ولأن الشيء بالشيء يُذكَر، فإن هذا الواقع لم تجلبه المخيمات من غير البلد الذي كان وراء إقامتها، أي الجزائر التي لا تستطيع أن تصدر إلى أقرب حلفائها الذين صنعتهم على قياس الإذعان لمخططاتها غير ما تنتج: فكر أحادي منغلق، بالرغم مما حاولت نهجه من انفتاح محدود، سيطرة قوية للمؤسسة العسكرية التي ينطبق عليها المثل: إن الدول إذا كانت لها جيوشها، فإن الجيش الجزائري له دولته التي يتحكم فيها، ثم أوهام لا تنتهي حول زعامة المنطقة، أدت، ضمن تداعيات عدة، إلى إهدار واستنزاف ثروات الشعب الجزائري في غير ما يعود عليه بالنفع.

لم يعد واردا في كل الحسابات، أن تحجب الأسوار التي أقيمت حول “الستالاك” الكبير ما يجري داخله من انتهاكات ومظاهرَ استبعاد تحظرها كل الشرائع والقوانين، وإذا كانت قد أفلحت في ذلك بعض الوقت، فإن الأسوار لا يمكن أن تسيج فضاءات العالم، خصوصا في أقرب منطقة إلى الحدود مع تندوف، ونعني بها الأقاليم الصحراوية المغربية التي باتت تعبر عن ذلك بسلاح الشفافية والديمقراطية والحرية. وما لم تستوعبه قيادة البوليساريو التي ترعرعت في كنف النظرة الانغلاقية المحلية هو أن “شباب التغيير” ومن وراءه آلاف الشباب لم يعودوا مهتمين بحمل الكلاشيكوف الذي لم يجلب عليهم غير البؤس والحرمان وشظف العيش، ولكنهم مصرون على التخاطب بلغة العصر، لغة الأنترنيت والتواصل وإلغاء الحواجز وتدفق المعلومات.. هذه اللغة التي أصبحت وسيلة العالم في التقريب بين الأفكار والثقافات والحضارات، لا يمكن أن تستثني جيلا كاملا من الصحراويين، ظل يرزخ تحت نير الاضطهاد والقمع، وبالتالي فإن الصورة المشوشة التي كانت الدعاية الجزائرية تحاول إلصاقها بكل ما هو مغربي، انهارت من تلقاء نفسها، ومن خلال بلورة وعي جديد في الإحاطة بالواقع الإقليمي الذي لم يعد بالإمكان إلغاء تأثيره، سلبيا وإيجابيا، على تطورات ملف الصحراء. فعدوى انتشار الديمقراطية التي تلهب المشاعر لا يمكن الحد منها، لمجرد وضع أناس في أقفاص اسمها المخيمات، خصوصا إذا كان الوضع في هذه الأقفاص لا يتيح حرية التعبير والتنقل والاجتماع.

ما فعله ابن السمارة، مصطفى ولد سلمى ولد سيدي مولود، يختلف عن كثير من ردود الأفعال الاحتجاجية التي يلجأ إليها منشقون سابقون عن البوليساريو. فهو اختار أن يوجه نداء عودة الوعي من الحاضرة الروحية للأقاليم الصحراوية، تلك الحاضرة التي يحفظ لها التاريخ أنها كانت محطة بارزة في زيارة المولى الحسن الأول إلى الأقاليم الصحراوية، منذ سنوات عدة، كما أن جثمان شيخ قبائل الركيبات الولي الركيبي يرقد هناك. وبالتالي، فالمكان له دلالته، خصوصا أنه يقترن بإصرار ابن الركيبات على العودة إلى المخيمات لاختيار «وهْم» ديمقراطية الجبهة التي لا تقبل بغير الرأي الذي تفرضه الجزائر الوصية.

غير أن التوقيت في تزامنه مع المساعي التي يعاود الدبلوماسي كريستوفر روس، الممثل الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة، بذلها لاستئناف المفاوضات، يشير إلى أنْ لا سبيل لتجاوز مأزق المفاوضات إلا من خلال إقرار قرارين أساسيين:

الأول، يهم الاتفاق على إقرار الحكم الذاتي أرضيةً للمفاوضات قابلة للنقاش وإغناء المشروع، بما يكفل إقرار نموذج متطور في مفهوم الحكم الذاتي الموسع، الذي يجمع حوله كل السكان المعنيين من داخل المغرب ومن مخيمات تندوف، بهدف القطع مع سياسة التفتيت وتفرقة شمل الأهالي، لاسيما أن تجارب دول أوربية عديدة أكدت على البعد الاستراتيجي لهذا الخيار الذي يضمن الوحدة والتعددية.

أما الجانب الثاني فيطال تخليص المقيمين في المخيمات من جبروت الوصاية الجزائرية التي تعيق الذهاب نحو أي حل سياسي مشرف يضمن ماء وجه الجميع، وهذا لن يتأتى إلا من خلال القيام بثورة حقيقية داخل المخيمات، تسمح للأصوات المقموعة ولذوي النوايا الحسنة بأخذ زمام المبادرة في تكريس الخيار الوحدوي الذي لا بديل عنه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *