آراء

التطرف الفكري بين تحرر “الحداثيين” وتشدد “المحافظين”

في عصرنا هذا، اختلط الحابل بالنابل وامتزجت الإيديولوجيات ببعضعها البعض وتشتتت المجتمعات بين تيارات فكرية متنوعة ومختلفة تصل في كثير من الأحيان حد التناقض والتنافر. وأصبحت المجتمعات عبارة عن حلبة لصراع الأفكار التي غذّت النزعات العرقية والفكرية فيها بما يخدم تٓكون أركان وأقطاب فكرية متطرفة وفيما بينها صنف معتدل لا هو من هؤلاء ولا من هؤلاء.

من جهة أولى، يسار متطرف في تحرره وماديته ومن جهة ثانية يمين متطرف ومتشدد في دينه وفكره حد التعصب بعيدا عن منطق الإعتدال والتعايش السلميين بين مختلف مكونات المجتمع الواحد.

يُمكن تعريف التطرف بكونه ذاك الميول الراديكالي نحو قراءة ما ونظرة ما، الأمر الذي ينتج عنه إيلاء نظرة دونية للطرف الآخر وهو بصيغة أخرى، في شقه اللغوي، تجاوز حد الإعتدال وعدم التوسط. وهو موضوع قد يكون فكريا أو سلوكيا ويمكن أن ينتج عنه عنف قد يصل حد التعصب للرأي تعصبا لا يعترف للآخرين برأي وهو ما نلاحظه في واقعنا المعاصر إذ انقسم المجتمع لقطبين متصارعين فكريا.

هناك قطب يدعي التحرر يسعى لفرض نظرته للأمور عبر إباحة كل ما يُرسخ الحرية الفردية والحس المادي للحياة من متعة وشهوة وغريزة وعدم تحريم مجموعة من الممارسات التي تدخل، حسب اعتقاد أصحاب هذا التوجه، ضمن الحريات الفردية التي يكفلها الدستور والمواثيق الدولية ضدا على الحس المحافظ والمتدين الذي يتميز به المجتمع؛ وقطب متشدد في كل ما يتعلق بالحريات يولي أهمية كبيرة للطابع المحافظ للمجتمع وللدين بل وقد يصل حد التعصب الديني والفكري، وهو ما ينعكس سلبا على نظرة أصحابه للآخر، وقد تصل بهم الأمور حد تكفير هذا الأخير وإهدار دمه وهو ما نشهده في عالم الجماعات المتطرفة في مواجهة العالم الآخر.

ونحن هنا بصدد حالة نفسية ونظرة غير ودية تجاه الآخر ينتج عنها سلوك عدواني، قد يُفعَّل بالقول أو الفعل السياسيين أو الثقافيين تجاه هذا الآخر. وهو ما أشار إليه جان بول سارتر عندما قال بأن: “الآخرون هم الجحيم”، ونبه في نفس السياق إلى أن “الآخرين هم طريق التعرف على الذات” ليصل من بين ما وصل إليه بأن العلاقات بين البشر ليست سوى علاقة تصادمية المضمون. وهو ما لا يجب أن يتحقق إذا أردنا الخروج بالمجتمع المغربي لبر الأمان في خضم التنافر والصراع الفكريين الذين يعيش على وقعهم المغاربة في الآونة الأخيرة.

وفي واقعنا المغربي، عديدة هي مظاهر الغلو والتطرف الفكريين التي غزت كل مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، إذ نلاحظ بين الفينة والأخرى تزمت ايديولوجي من أقطاب الصراع الفكري ببلادنا كلما لاحت في الأفق قضايا حساسة تتكرس من خلالها دعوات الأطراف لمواجهة ومحاربة الأطراف الأخرى المعارضة لها.

فالطرف الذي يدعي التحرر والإنفتاح من دعاة العري والإجهاض والمساواة في كل مناحي الحياة والإفطار العلني وممارسة الحرية الجنسية بدون قيود يصف الآخرين المعادين لأفكاره بالظلاميين والتكفيريين والمنغلقين والمكبوتين مستغلا في ذلك الحملات الإعلامية والسياسية التي يشنها الغرب على ثقافات البلدان الإسلامية وتقاليدهم، والطرف الثاني يعمل على إثارة الطابع المحافظ للمجتمع وعقيدته الإسلامية وهوية المغاربة للتعبير عن رفضه لممارسات الطرف الأول أوما يسمون أنفسهم بالحداثيين بنعتهم بالعملاء والخونة والزنادقة واللجوء في كثير من الأحيان لمصطلح المؤامرة لتبرير ما يقومون به بل وقد يتجاوز الأمر ذلك ليبلغ محاسبة الناس والعنف في التعامل والخشونة في الأسلوب وسوء الظن بالآخرين.

وهو ما ظهر جليا في لحظات بعينها عرف فيها النقاش بين الطرفين ذروته وصل حد التراشق بالسب والشتم وتبادل الإتهامات بالولاء والعمالة كل لجهة معينة. ونذكر هنا كمثال فترة المهرجانات الصيفية من قبيل موازين ونقل حفلات مغنيين أكثر جرأة في التعري عبر القناة الثانية وفيلم “الزين اللي فيك” لنبيل عيوش وقبلات فتيات “فيمن” والشواذ الجنسيين، وهي أمور من بين أخرى تؤجج الصراع الفكري الذي تشهده “الأكورا” المغربية.

وفي سياق هذا العنف والتطرف المتغلغلين في مجتمعنا، نمت بشكل ملحوظ نزعة وميول عارم لإقصاء الآخر وعدم التسامح معه بل ولم يقتصر ذلك على عدم الإعتراف به بل وتجاوز في كثير من الأحيان ذلك بالدعوة إلى مواجهته ومحاربته.

وهنا، تجدر الإشارة إلى أن ثقافة الإقصاء هاته واحتقار الآخر ما هي إلا نتيجة حتمية لتربية يشوبها الكثير من عدم احترام وحب الآخرين بل وتمرير رسالات مغلوطة عن الآخر وسيادة تعصب الرأي ورفض الرأي الآخر وبالتالي خلق تطرف فكري معاكس لما يؤمن به الآخر من مباديء وميولات فكرية لا تتناسب وفكرة الفئة الأولى.

وهو ما يجد جذوره في اختلافات ثقافية واجتماعية وسياسية يتحمل فيها الجميع كل من موقعه مسؤولية ما آلت إليه الأمور من انحرافات فكرية وسلوكية تنم عن تنامي التطرف والغلو في الإتجاهين معا.

نحن إذن إزاء معضلة كبيرة تواجه الفكر المتبصر برمته وهي التطرف والغلو والتشدد الفكري. وحتى يتم معرفة المخارج الممكنة لمواجهة التطرف بشقيه وجب البحث في مسبباته والرجوع بشكل دقيق لمصادره ولأصوله على يد مؤسسات وخبراء مؤهلين علميا من مختلف التخصصات المتدخلة في تشخيص المعضلة برمتها حتى يصل الجميع لفكر متنور معتدل ووسطي يراعي توجهات الجماعة مع احترام الآخر بدل السماح للمتطرفين فكريا من كلا التوجهين باحتلال الساحات السياسية والثقافية والإجتماعية ونشر أفكارهم المسمومة والفتاكة والسماح لمن ينصبون أنفسهم أوصياء على هذا البلد العزيز للإفتاء والتنظير الفاسد المفسد لمباديء وأعراف المجتمع المغربي التي توارثها المغاربة أبا عن جد والتي تأسست على الحب والتسامح والإعتدال والوسطية واحترام الآخر كيفما كانت ديانته ولونه وجنسه وميولاته ومعتقداته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *