آراء

“خدعة” الإرهاب بالعاصمة باريس

شهدت فرنسا يوم الجمعة الماضية أحداثا دامية نتيجة التفجيرات الإرهابية في ستة مواقع جغرافية بالعاصمة الفرنسية، ولإبداء بعض الملاحظات عن وقائع الأحداث، وعن الملابسات المرتبطة بها، لابد من التذكير بمايلي:

أولا: أن الحدث الإرهابي وقع يوم الجمعة، وهو يوم له دلالة خاصة بعد ثورة مايسمى بالربيع العربي، إذ بدا الإسلاميون يوظفون كل المبادرات الاحتجاجية يوم الجمعة بل سموه “الجمعة المباركة”، وهو يوم يرمز بهذا المعنى لأحداث ساحة التحرير بمصر والتي ركب عليها إخوان المسلمون لإزاحة نظام الرئيس السابق حسني مبارك.

ثانيا: الأحداث الإرهابية في فرنسا ليست جديدة، بل سبق أن عايشت وقائع مماثلة أرعبت الشعب الفرنسي وأدلته، كانت أخرها العملية الإرهابية في مقر “مجلة ايبدو”، والتي راح ضحيتها صحفيون فرنسيون بسبب رسومات كاريكاتورية تسئ الى رسول محمد “ص”، كما هاجمت مطعما قتل فيها يهود فرنسيون، وهناك التحق قادة العالم بباريس ونظموا مسيرة حاشدة استنكروا خلالها ما حدث مواساة للشعب الفرنسي ورئيسه.

ومن ضمن الحاضرات الرئيسة الألمانية ميركل وهي التي فضلت الذهاب الى باريس أمس الجمعة لحضور بمعية الرئيس الفرنسي هولاند مبارة حبية تجمع فريق الالماني بالفريق الفرنسي. المباراة التي تجسد نوعا من المصالحة التاريخية بين البلدين وهي مبادرة لحسم الأمور بالروح الرياضية ويريح الأفئدة، خاصة إذا كان البلدين احتاجا الى ذلك في ظروف إقليمية صعبة، وقتها وفي السابق، كان الغريمين يعيشان صرعا شرسا ممثلا في الحرب العالمية والنزاع حول منطقة الالزس واللورين حول الحدود على سبيل المثال.

ولأن طعم الود ونسيان ألماضي لم يكتمل بحضور ممثلي الشعبين الجارين فعكر صفو الجو اقتحام الإرهابيون لعدة مناطق في العاصمة الباريسية، هذا الصخب تسبب في كسر شيم الإمبراطوريتان وأصبح يومه أكثر تعاسة، وكان السبق لمذيع أحد القنوات التلفزية العربية، ذكر في نقله للمباراة الودية عبر المباشر أن الأجهزة الأمنية الفرنسية تلقت مكالمة هاتفية تخبرها بوجود قنبلة في فندق يقيم فيه الفريق الألماني، وهو ما اضطر حسب نفس المذيع الى إخلاء هذا الأخير للمكان.

ألمانيا قبل أشهر استقبلت الآلاف من اللاجئين السوريون على أراضيها، كما تحتضن فرنسا هي الأخرى حوالي ثمانية في المائة من المسلمون المقيمون بالقارة العجوز، وفي السياق نفسه شهدت الدانمارك مؤخرا، قيام مظاهرات صاخبة قادها اللاجئون السوريون يطالبون فيها بإحكام الشريعة الإسلامية وإقرار نظام الخلاقة الإسلامية بكوبنهاكن.

ثالثا: الحدث الذي وقع في العاصمة باريس لا نعرف دقة ما وقع، لكن لايمكن فصله عن أحداث متسلسلة موازية ومنها، صعود حزب العدالة والتنمية الإسلامي بتركيا، وسقوط الطائرة الروسية بشبه جزيرة سيناء بمصر بمحادة قطاع غزة، كما لايمكن فصله عن العملية الإرهابية التي تعرض لها القطاع الجنوبي بلبنان معقل حزب الله اللبناني، وإذا اعتبرنا هذا تسلسلا وتنظيما مواكبا للعمليات الإرهابية، فإن من حق المواطن الفرنسي والأوروبي على العموم أن يتساءل عن المراد من توجيه الإرهاب الى أوربا الغربية، والتي تحتضن حوالي 2مليون مسلم؟

كما يحق له أن يساءل أيضا عن علاقة ذلك بسوريا، خاصة وأن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري طالب المجتمع الدولي بالانتظار على إبقاء الرئيس بشار الأسد لشهور أخرى إضافية، ولا يمكن أن نستبعد أن تكون فرنسا تساير هذا الموقف مادامت أنها حليف إستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية.

كما يمكن أن يتسأل البعض عن سبب هذه الأحداث وعلاقته بالتقارب الأمريكي الإيراني والسوري الروسي، وهذه السيناريوهات تلعب الدور الأساسي في حصار حسابات ورهانات المملكة العربية السعودية، خاصة وأن هذه الأخيرة أصبحت سياستها تحت المجهر منذ أن شنت الحرب على اليمن، وما واكبه من احتجاج على أحداث “مينة” ومقتل الحجاج الإيرانيون.

كما لايمكن فصل ذلك باعتقال أحد الأمراء في لبنان بدعوى تهريب المخدرات، وفي أرذل اللحظات الوهن، كان موقف الصندوق النقد الدولي واضحا من العربية السعودية بتنبيهها بترشيد نفقات الميزانية ووقف الإعانات بسبب تراجع أسعار النفط. هذا أدى الى إلحاق الضرر بها وإحراجها أمام مواطنيها والرأي العام الدولي.

وبين كل هذه الحقائق والأسئلة المطروحة، فالمواطن الفرنسي اليوم لايحتاج إلى تأويلات لفهم ما يحدث ولا إقرار قوانين جديدة ضد المهاجرين، رغم أن ما حدث أذهل الجميع، نشرح أكثر ونقول أن هشاشة أمن فرنسا في الأحداث الأخيرة أبانت على أن مايحتاجه الموطن الفرنسي هو حماية النفس والجسد أمام الصمت على عمليات تكرار هذه الأفعال الإجرامية.

وإذا اعتبرنا وجود جواز سفر أحد الارهابين الحامل للجنسية السورية كما تناقلته وسائل الإعلام، فإن فرنسا كان لها السبق في فتح حدودها للمتشددين الإسلاميون بالتحاقهم بسوريا ضد نظام بشار الأسد بقايا جيوب حزب البعث الاشتراكي، ولأن رد هذا الأخير كان واضحا، وعبر خطاب له مؤخرا ترجم على نطاق واسع، نبه فيه المجتمع الدولي أن الإرهاب لا ملة له، وأن من ساهم حسب رأيه في تحريض المتشددين ضده، عليه أن يستعد للأسواء وان البلدان الداعمة ستعاني منه أيضا كما شعوبها، ولن يهدأ لهم بال على حد قوله.

إجمالا، هناك حقائق يجب ألا تغيب عن الفرنسيون، هو أن منفذي العمليات الإرهابية مؤخرا شبان يحملون الجنسية الفرنسية لاتتجاوز أعماره الأربعون سنة، وهو ما يعني أنهم من الجيل الرابع صنعتهم مساجد فرنسا، هؤلاء المهاجرون يصلون ويصومون لكنهم يحسون بفقدان الهوية، أجدادهم بنوا فرنسا وانقدوها من الديكتاتور هتلر، ورغم ذلك وفي اعتقادهم مواطنون فرنسيون من الدرجة العاشرة، لذلك التجأت هذه الفئة إلى الدين، لعلها تجد فيها متنفسا، إنها “زفرة الإنسان المضطهد” كما قال ماركس.

فرنسا اليوم، مدعوة قبل أي وقت مضى، إلى إعادة النظر في سياستها اتجاه الشعوب المحرومة والتي تستغل خيراتها وتنقل ثرواتها وتبتز أنظمتها من أجل البقاء. فهي حقائق لايجب أن تغيب عن أحد، ففرنسا هي التي كانت إلى عهد قريب تدعم سياسية العروبة واحتضنت الإسلامويين بأرضيها بطوائفها المتصارعة، ألم يكن الراحل الخميني الرئيس السابق لإيران منفيا في فرنسا، ألم تستقبل أيضا رساميل دولة قطر في عز أزمتها الاقتصادية؟ ألم يحتج الفرنسيون بعدها على الملك السعودي واستوعب اللحظة وغادر الى طنجة؟

فرنسا اليوم تجني ثمار سياستها الخارجية ضد العجم من أمازيغ وأكراد وأتراك وفرس، وهي قضايا جوهرية وخلافية في حين أصبحت لديها التعددية شعارا ووصفا أدبيا وفلسفيا فقط. أسئلة تبقى معلقة وسياسات فرنسا مجحفة في حق العجم، وتبقى حقائق لاغبار عليها، لكن القائم حسب الفيلسوف جون بول سارتر، “أن كل جماعة ليس لها عدو تضمحل وتموت”، فهل إرهاب باريس “خدعة” لبداية صناعة عدو آخر؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *