ملفات | هام

دارفور سوس .. عندما يحكم البؤس على ساكنة قرية بالتهجير

من كان يظن يوما بأن تلك المساكن التي كانت يومئذ تعج بالساكنة صباح مساء، سيتساقط جلها ويصبح أطلالا، وما لم يتساقط بقي جدرانا هامدة تناشد الزمن الجميل، أبوابا موصدة يعلوها الصدأ والغبار تحن إلى الخوالي، وبيوت تسكنها الأفاعي، تتمنى لو عاد بنو البشر يوما ليضيئوا فيها الشمعة ويقاوموا الأيام الصعاب بما تيسر لديهم من القوت والعزيمة، ودروب ضيقة كانت تحتضن صخب الأطفال وسجال العيال، لا أثر فيها اليوم إلا لأثر أقدام كلاب وحشرات زاحفة.

إنها حكاية قرية منسية، قرر أهاليها النزوح بما يشبه الإجماع وتغيير موقعها الجغرافي وتحويله مئات الكيلومترات بحثا عن ظروف عيش أفضل، فاستقر بهم الزمن في ضواحي اشتوكة جنوب أكادير، هناك أسسوا “وطنا جديدا لهم”.

عنق العظام

في أقصى غرب الجماعة القروية لأيت الرخاء بإقليم سيدي إفني، يوجد دوار “تمكرط إخسان”، وهو كلمة أمازيغية مركبة من “تمكرط” وهي مؤنث “أمكرض” وهو العنق، أما “إخسان ” فهو جمع “إخس” وهو العظم، وحسب الروايات الشفهية المتداولة، فثمة جبل هناك يطل على المنطقة ويفصلها عن مناطق “الأخصاص”، ويروى أن الجبل عرف في زمن من الأزمنة قتالا قبليا شرسا، خلف العشرات من القتلى دفنوا في مناطق متفرقة وبشكل عشوائي على سفح الجبل لاعتبارات عديدة تتحكم فيها الحرب الضروس التي لا مجال فيها للتريث.

قبل عشرات السنين من الآن عادت معاول الساكنة لتحفر الجبل آملة في شق طريق سالك يفك العزلة عنها، فوقع أن عثر هؤلاء أشياء غير عادية في سفح الجبل، ومع تقدم السنين، أصبحت الساكنة المحلية تكتشف في كل وقت وحين ذات الأشياء لتجزم بعدها أن ما يعثر عليه ليس سوى عظام آدمية خارجة من باطن الأرض، فتأكد للجميع أن ثمة في ذاك المنحدر الشبيه بالعنق مقابر جماعية تعود لسنوات الحرب التي تنشب بين قبائل المنطقة، حينها لم يجدوا بدا من تسميتها بـ “تمكرط إخسان”.

دوار "تمكرط إخسان"

دارفور سوس

دوار منسي يقبع على الحدود مع مناطق “الأخصاص”، وبالضبط مع جماعة أيت بوفولن التابعة إداريا لعمالة إقليم كلميم. يضم دوار  “تمكرط إخسان ” تحت لوائه ثلاث قرى صغيرة هي “إد العود”، “أحواش”، و”أواسا”، وتبعد هذه المناطق عن مركز الجماعة بحوالي 15 كيلومترا، كما يغلب على تضاريس المنطقة الطابع الجبلي الذي يؤزم وضعية المنطقة ويحد بينها وبين العالم الخارجي.

وما زاد المنطقة بؤسا بحسب أبناء المنطقة هو تعاقب منتخبين على تسيير دواليب جماعتهم بشكل غلب عليه توزيع مشاريع على مناطق دون أخرى، وقد كانت لحسابات سياسية دورا في إقصاء  “تمكرط إخسان ” من مشاريع هؤلاء لعقود طويلة.

حال المنطقة المشؤوم كان السبب في تنظيم مسيرة احتجاجية سابقة بالدواب إلى مركز الجماعة والتهديد بتنظيم أخرى إلى مقر العمالة قبل أن يتدخل حينها عامل تيزنيت لتهدئة الأمر. كما وجد ذات الحال طريقه من ذي قبل إلى عدد من وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة، والتي سبق لها أن أطلقت على المنطقة إسم “دارفور سوس “، باعتبار أن كل أوجه الإقصاء والتهميش والبؤس تلتقي فيها، فهي بحسب أبنائها لا تعرف عن المسؤولين شيئا، اللهم في تلك الحملات الإنتخابية الموسمية، هناك يحلون عليهم ضيوفا يصنعون لهم أحلاما وردية ما تلبث أن تكون سرابا.

مشاريع متعثرة

بعد دوار “تمكرط إخسان ” عن المركز، أصبح عذرا كافيا ليتخلى عنها المسؤولون الذين تعاقبوا على تسيير الشأن المحلي، فلا طريق سالكة إلا ما أنجز مؤخرا وهو لا يشفي غليل متى تبقى من الساكنة هناك، كما يبعد الدوار عن أقرب مركز صحي بحوالي 06 كيلومترات، وهو مركز موصد الأبواب في غالب الأوقات.

ويتأسف سكان المنطقة حتى قبل أن يتخلوا عن بلدتهم مكرهين، كيف يتم تأخير الدوار ووضعه في اللوائح النهائية، وربما في لوائح الإنتظار في كل المشاريع المبرمجة، كما وقع مع الربط الكهربائي الذي وصل المنطقة متأخرا، أما الماء الصالح للشرب فمازال حلما منشودا، ويقارب ثمن الصهريج منه في سنوات الجفاف 800 درهم.

في فصل الشتاء والبرد تفصل الوديان الساكنة عن العالم الخارجي، وفي أيام الصيف الحارة، تفرض الحشرات السامة والزواحف نفسها بالمنطقة، وكثيرة هي الحالات التي لقي فيها أشخاص حتفهم نتيجة لدغات أفاعي ولسعات عقارب، أخرهم الطفل ذو التاسعة من عمره الذي ينحدر من منطقة مجاورة للدوار، صوب له عقرب لسعة، وفي غياب مركز صحي نقل بالكاد إلى مدينة “بويزكارن” ثم إلى كلميم، هناك أسلم الروح لباريها.

دوار "تمكرط إخسان"

الهجرة .. الشبح

يحكي بعض السكان البسطاء الذين ما زالوا يقبعون في المنطقة ولو إلى حدود اليوم، أن دوار “تمكرط إخسان”، كان واحدا من أكبر الدواوير من حيث الكثافة السكانية على مستوى القبيلة، لا بل على مستوى الاقليم، وكانت ساكنتها تشكل أكبر التجمعات في التي يضرب بها المثل لاعتبارات عديدة، كما كانت أيضا مهد القائد “بوطعام” الذي كان بالمرصاد للإستعمار في حقبة من الحقبة الغابرة، وهي العائلة المتجدرة في عمق التاريخ بالمنطقة.

إلى حدود سنة 1996 كانت القرية ملأى بالساكنة، وكانت الحيوية شعارها الوحيد، لكن السنة الموالية كانت السنة الفيصل بين سعادة المنطقة وبؤسها، بين قوة الساكنة ووهنها، فعدم سقوط الأمطار لسنوات وفرض الجفاف لنفسه عجل بعدد من الأسر إلى شد الرحال إلى وجهات مختلفة، أهمها مناطق “اشتوكة أيت باها بحثا عن ظروف عيش أفضل ولو بقليل، فحدث ما لم يكن في الحسبان عندما انسلت الأسر تباعا، تاركا وراءها مساكنها وحقولها وبيادرها، وتاركة معها همومها أيضا.

“موغا” الثاني

لم يكن نزيف النزوح الجماعي تلقائيا، بل كان شخص يدبر له بطريقته الخاصة، إذ كان يحفز على الهجرة، ويتوسط لعائلات كثيرة من أجل حصولها على سكن قار وعمل بمنطقة أغرايس اشتوكة حتى لقبه كثيرون بـ “موغا الثاني”، وموغا هو ذاك الهولندي الذي قدم لأرياف المغرب في ستينيات القرن الماضي بحثا سواعد للعمل ببلدان أوربية من أجل توظيفها في أوراش شاقة، وقد استطاع حينها أن يهجر كثيرين عن ذويهم لعشرات السنين.

هاجر السواد الأعظم من الساكنة فأصبحت الأسر الباقية اليوم في الدوار تعد على رؤوس الأصابع، بعدما كانت حتى الأمس القريب تجاوزت المائة أسرة، ومن بقي اليوم إنما ينتظر دوره ليحزم الأمتعة ويحدد وجهته، ثم يوقع هو الآخر عقد فراق مع مسقط رأسه.

دوار "تمكرط إخسان"

أشتوكن “المستعمرة”

كل الأسر التي غادرت المنطقة لم تكن وجهتها غير مناطق اشتوكة أيت بها، بلفاع، أيت ميمون إنشادن، وغيرها، لكن السواد الأعظم من هؤلاء حطوا الرحال على تراب الجماعة القروية خميس أيت عميرة، وبالضبط على مستوى دوار “احساين” التي فتح ذراعيه للوافدين الجدد دون أن يكون على علم بأن هؤلاء جل مساحته في سنوات قادمة.

الظروف الإجتماعية القاهرة أرغمت “اللاجئين” الذين حلوا بالمنطقة إلى العمل في البيوت البلاستيكية التي كانت وما تزال في حاجة ليد عاملة بأقل الأجور في غياب فرص عمل أخرى، وهو الأمر الذي حتم على الجميع الرضوخ لسلطة الواقع المزري، والاستسلام لقدر بئيس.

لكن وإن كان الأخير كذلك فقد تحملوا تبعاته، على الأقل فهو بالنسبة إليهم يوفر لهم قوتا يوميا يفتقدونه في مسقط رأسهم.

اليوم وبعد نحو 18 عاما، يبدوا دوار “احساين”  باشتوكة مكتظا بأجناس بشرية مختلفة قدمت من مناطق مغربية عديدة، لكن الذي يميزه أن عشرات العائلات تجاور بعضها البعض هناك، وهي التي كانت قبل نحو عقدين من الزمن تجاور بعضها في دوار بئيس، اسمه “تمكرط إخسان” ولقب بـ “دارفور سوس”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *