خارج الحدود

ساركوزي…او ترامب الفرنسي

على مدار حملته الانتخابية كي يُصبح المرشح الرئاسي للحزب الجمهوري دعا نيكولا ساركوزي إلى عدة أمور جعلت البعض يقارنه بدونالد ترامب. ولم تأتِ هذه المقارنة من قِبل منافسيه من الأحزاب اليسارية وأحزاب الوسط فحسب، بل أتت أيضاً على لسان رئيس الوزراء الاشتراكي مانويل فالس، حيث تحدث عن تحول ساركوزي لترامب آخر، بل إن الأصدقاء السابقين من اليمين يرون أن الاثنين يجمعها تشابهات رئيسية.

وفي وقتٍ سابق أدلى جان فرانسوا كوبيه حليف ساركوزي وشريكه بتصريح في شتنبر الماضي، قال فيه مازحاً “بعض المُرشحين يكثرون من مشاهدة دونالد ترامب”. وذلك لأن ساركوزي وعلى الرغم من ادعائه بأنه صديق لهيلاري كلينتون، فإن بإمكانه منافسة ترامب بقوة عندما يتعلق الأمر برسم صورة قاتمة حول المصير الذي تتجه البلاد إليه.

 

رؤية ساركوزي

 

وفقاً لساركوزي، فإن فرنسا في خضم حرب أهلية بين من يرغبون في رؤية هويتها تتلاشى وبين من يريدون حمايتها. بمعنى آخر فإن الرئيس الفرنسي السابق يرغب في أن يكون البطل القادم المُنقذ لفرنسا. وكما أشار في كتاب حملته الانتخابية المُعنون “كلنا لأجل فرنسا” والمنشور هذا الصيف “لا يمكن أن تكون هناك هوية سعيدة طالما نحن لا نؤكد على أن الهوية الفرنسية ليست أكثر أهمية من هويات معينة”. وفي حملته الانتخابية، يبذل ساركوزي ما بوسعه ليظهر قدرته على تحقيق وحماية هذه الهوية، وهو ما يخوله بالتالي ليصبح رئيساً. ويُصر ساركوزي على أن جميع المواطنين الفرنسيين- وبغض النظر عن خلفياتهم الإثنية- يدعون أن قبائل الغال هي أسلافهم.

وفي السياق ذاته تعهد ساركوزي بحظر ارتداء النقاب في الأماكن العامة وبمحاربة البوركيني. ووعد ساركوزي أيضاً بإلقاء كل الإرهابيين المحتملين فيما يُسمى مراكز “تفكيك الإرهاب”، وهي المراكز التي وصفها رئيس حزب ساركوزي وبدون أي حرج بـ”معسكرات الاعتقال”، ولم يُلقِ صاحب هذا الوصف بالاً لصدى هذه العبارة في التاريخ الفرنسي عندما كانت حكومة فيشي تتولى مقاليد الأمور.

وأياً ما كانت دوافع ساركوزي، سواء كانت أيديولوجية أم مجرد مناورات سياسية، مع العلم بأن الأمرين يصعب فصل كل منهما دون الآخر بالنسبة له، فإن الرئيس السابق يُراهن على أن الناخب الفرنسي سيتبنى رؤية أن أمته في أزمة.

جدير بالذكر أن ذلك ليس رهان ساركوزي وحده، إذ إن زعيمة الجبهة الوطنية ماريان لوبان تدعو دائماً إلى ما تُسميه “صفر هجرة”، كما أنها لا تتوقف عن وصف صلاة المسلمين خارج المساجد في باريس “بالاحتلال”، ومن جانبه فإن فرانسوا هولاند هو الآخر لا ينفك يصور فرنسا والهوية الفرنسية على أنهما مهددتان، ففي أحد الكُتب الذي نشر الشهر الماضي، وتحت عنوان “يجب ألا يتفوه أي رئيس بهذا” نُشرت مقابلة للرئيس هولاند قال فيها “لا أحد يشك في أن فرنسا لديها مشكلة مع الإسلام”. وهكذا فإن الرئيس الاشتراكي يكرر ما قاله رئيس الوزراء فالس، الذي يصر هو الآخر على أن “النساء المسلمات المنتقبات اليوم سيُصبحن قوات الماريان في الغد”، في إشارة إلى الرمز النسوي الفرنسي الشهير الذي غالباً ما يصور امرأة عارية الصدر.

 

هوية فرنسا

 

وسعياً من أجل منح ترشحهم وخطابهم حول هوية فرنسا شرعية، فإن ساركوزي ولوبان وهولاند قد انضموا إلى المفكرين المهتمين بما بات يعرف اليوم بخطاب الأزمة الوطنية. وهذه السردية تصور ما يعتقده هؤلاء تراجعاً عن مكانة فرنسا التاريخية، التي انجرفت إلى القاع بفعل العولمة والهجرة. وفي وقت سابق كان ساركوزي قد أشار إلى المفكر “ألين فينكيلكروت” المنتمي لتيار المحافظين الجُدد، الذي صدر له كتاب في عام 2013 بعنوان “الهوية التعيسة”، حيث يرسم صورة قاتمة لبلد تُمزقة الاختلافات الدينية والعرقية. وكان المؤرخ روبرت فرانك صاحب الكتاب الشهير “الخوف من التراجع”، اقترح أن مصطلح “التراجع” القديم قد تحول ليُصبح “الانحطاط”. فبالنسبة للكثيرين في فرنسا “لم يعُد مصدر الخطر غزو من الخارج، بل التمزق في الهوية الفرنسية هو مصدر الخطر”.

وعلى الرغم من كل ذلك، فإن سلسلة من الاستطلاعات تُظهر أن كثيراً من المواطنين الفرنسيين لا يصدقون هذه السردية. في 18 من أكتوبر قامت مجلة “إكسبرس” بنشر استطلاع يُظهر ترتيب المرشحين الرئاسيين من حيث الشعبية. وجاء ألين جوبيه عمدة مدينة بوردو في المقدمة بنسبة 42%.

وفي وقت سابق، شغل جوبيه منصب رئيس الوزراء في عهد الرئيس جاك شيراك بمنتصف التسعينيات، وهو المنصب الذي جعله في وضع لا يُحسد عليه بسبب إجراءاته غير الشعبية والفاشلة الخاصة بخفض التأمينات الاجتماعية.

وعقب فشله في هذا المنصب، تمكن جوبيه من تحسين صورته مرة أخرى من خلال منصب عمدة بوردو، حيث نجح في إعادة إحياء المدينة، وهو ما أكسبه دعم الحزبين الرئيسيين في البلاد. وعندما يشُن ساركوزي هجموماً على الداعمين لفكرة “الهوية السعيدة”، فهو يقصد جوبيه بهجومه. صِيغ المصطلح لأول مرة من قِبل جوبيه في عام 2014 رداً على كتاب فينكيلكروت، فيما بعد صار هذا المصطلح شعاراً غير رسمي لحملته الانتخابية. وحين سئُل هولاند عن رأيه في الأمر علق بحكمة قائلاً “إن فرنسا ليست سعيدة أو تعيسة”، مُستخدماً نفس النمط البائس في التفكير وهو ما أدى لتدهور شعبيته إلى 4%. وعلى الجانب الآخر، لم يتراجع جوبيه في مواجهة ساركوزي، بل أصر على استخدام مصطلحه بشكل أكبر.

وبدلاً من التراجع أو الخضوع أمام أزمة التنوع العرقي والديني، أعلن جوبيه أنه يسعى إلى “توحيد” واقع المجتمع الفرنسي تحت راية المُثل الجمهورية. وتحدث عن بعض الأمور التي يجب على الدولة حلها مع المسلمين، وركز حديثه على الأمور العملية مثل توفير وجبات حلال في المدارس. وانتقد أيضاً “جنون بعض المثقفين”، إذ اقترح بعضهم ضرورة إلزام الآباء والأمهات باستخدام الأسماء الفرنسية التقليدية مثل ماري وجاك عند اختيار أسماء أبنائهم. وهذا الاعتدال لدى جوبيه هو الذي جعله الأول في الاستطلاعات.

تحقير ساركوزي لجوبيه وقوله بأن الأخير”ساذج” و”ملائكي”، كان في صالحه. ففي استطلاع للرأي العام أجرته Odoxa ونشرته في منتصف شهر أكتوبر، الذي يقوم بقياس شهرة الساسة الفرنسيين البارزين، قبع ساركوزي في المركز رقم 14، إذ لم يحظَ إلا بتأييد أقل من ربع عدد المشاركين في الاستفتاء. وصلت نسبة المشاركين الذين يحملون شعوراً سلبياً تجاه ساركوزي ويعتقدون بأنه غير مرغوب فيه إلى 55%، أما عن الساسة غير المرغوب فيهم بدرجة مُقاربة للدرجة التي وصل إليها ساركوزي، فهم مارين لوبان وابنة أخيها ماريون مارشال لوبان، وهي واحدة من النجوم الصاعدين للجبهة الوطنية. وفيما عدا الحدث الذي سيكون له تأثير الزلازل على المشهد السياسي -والسيناريو الأكثر احتمالاً هو حدوث هجوم إرهابي آخر- فيبدو وكأن أحلام ساركوزي بالعودة إلى قصر الإليزيه سيتم القضاء عليها بحلول الانتخابات الأولية في أواخر شهر نونبر. ويبدو وكأن الرئيس الراغِب في العودة مرة أخرى أخطأ في تقييمه للمزاج العام لجمهور الناخبين الفرنسيين.

الدليل على أن الوسط لا يزال مُتماسكاً في فرنسا، يأتي أيضاً من يسار الطيف السياسي، إذ جاء إيمانويل ماكرون في المركز الثاني بعد جوبيه مع نسبة تأييد وصلت إلى 34% في استطلاع الرأي العام، الذي قامت به L’Express، وماكرون هو وزير الاقتصاد السابق في عهد هولاند. وبدأ ماكرون البالغ من العمر 38 عاماً في تكريس وقته لبناء حركته السياسية الخاصة، بعد أن استقال من منصبه في شهر غشت الماضي، بعد سلسلة من الخلافات مع الحكومة حول الاقتراحات التي عرضها من أجل تخفيف رقابة الدولة على قوانين العمل. وأطلق على تلك الحركة اسم En Marche (إلى المسيرة!).

وبسبب تخرجه في المدرسة الوطنية للإدارة في فرنسا، التي تُعد ساحة تدريب مرموقة لأنصار التقنية الفرنسيين، اعترف ماكرون بأن الشعب الفرنسي ما عاد مؤمناً بالحلول التقنية. وبدلاً من ذلك، فإنه يقوم بالتدخل بقوة لعمل تدابير على نطاق واسع، من شأنها “تنشيط” الديمقراطية الفرنسية، بما في ذلك التمثيل النسبي لمجلس الشيوخ والجمعية الوطنية. ويأتي رده لمن يساورهم القلق من أن ما يقوم به قد يزيد من تمثيل الجبهة الوطنية، فيقول: “بدلاً من الحد من التطرف عن طريق إقصاء أصحابه، نقوم بتعزيز دورهم ودعمهم”.

والأهم من بين ذلك كله، أن ماكرون، مثل جوبيه، احتشد إلى نظام جمهوري شامل ومتسامح. وانتقد ما أسماه ” laïcité revancharde”، أي العلمانية المستقيمة التي تم تبنيها، والموجودة على نطاق ضيق، بدرجات متفاوتة، وليس فقط عن طريق لوبان وساركوزي، بل أيضاً الكثير ممن هم في صف اليسار، بما فيهم رئيسه السابق، رئيس الوزراء، فالس. وجادل كثيراً في أن العرض الذي تقدم به ساركوزي من أجل منع الطالبات المسلمات من ارتداء الحجاب في الجامعات الحكومية، لا يُعد فقط غوغائياً، بل أيضاً كارثياً. ومثل تلك القوانين، كما قال، بجانب “تهميشها للطلاب المسلمين، لن تؤدي إلى وقف صعود الأصولية، ولا إلى تعزيز العلمانية”. وعندما نأتي إلى المعتقدات الدينية، فإنه يصرّ على الحيادية الصارمة للبلاد. وطالما الكاثوليك يحترمون حقوق الآخرين بدرجة لا تقل عن المسلمين، فإن الجمهورية ليس لها حق في التدخل في المعتقدات “المُتعالية” للفرد. وفي خطوة تنم عن الشجاعة السياسية، اعترف أيضاً بالعنصرية الهيكلية في العديد من مجالات الحياة الفرنسية “إن كان اسمك يوسف أو إبراهيم في دولتنا، فستكون حياتك أكثر صعوبة”.

وليس هناك شك في أن شعبية كل من ماكرون وجوبيه، نابعة عن صورتهم كمُدرين أكفاء ومتخصصين في حل المشكلات. ولكن هيمنتهم، وسقوط ساركوزي، يشيران أيضاً إلى حدود سياسات التراجُع والهوية الوطنية في فرنسا. وخلافاً للرأي السائد في جميع أنحاء العالم -أو الرأي في أوساط المثقفين والمفكرين الباريسيين على الأقل- فقد تبين أن الأمة الفرنسية ليست صاحبة قضية رئيسية.

وفي الدراسة الاستقصائية التي تم القيام بها الشهر الماضي عن طريق شركة الاقتراع الفرنسية Ifop، تبين أن أقل من 10% من المُشاركين في الدراسة الاستقصائية، قاموا بتحديد “العلمانية ومكانة الإسلام في المجتمع الفرنسي” على أنها القضية الأساسية التي تشغلهم حالياً. وعوضاً عن ذلك، تصدرت قضية “مكافحة البطالة” القائمة بنسبة وصلت إلى 27% من أصوات المُشاركين، الذين اعتبروها قضيتهم الأساسية. وتأتي بعدها قضية “مكافحة الإرهاب” و”مستوى الضرائب”. كما أظهرت الدراسة أن 56% من الناخبين يعتقدون أن الساسة “يتحدثون عن الإسلام بنسبة مُبالغ فيها”؛ بينما يظن ربع واحد فقط منهم أن الساسة لا يتحدثون عنه بصورة كافية.

في كتابه الأخير الذي نُشِر بعنوان Marque France (فرنسا.. العلامة التجارية)، يقوم فيليب لينتشينير، المتخصص الشهير في مجال العلاقات العامة، بالجدال في أن ميل بعض الأشخاص للإعجاب بساركوزي أو لوبان أو فالس، كان سبباً في المبالغة في تأرجح مبيعاتهم على وجه التحديد، والتقليل من الجمهور المؤيد لهم. ويؤكد لينتشينير أن غالبية الشعب الفرنسي لا ينطلي عليها مشروع قانون مكافحة المهاجرين ومُعاداة بضائع المسلمين. ويكتب إلى المشاهدين قائلاً إن تذكيره بانحداره من أصول Guals لن يساعده في إيجاد وظيفة أو تنمية عمله الخاص. وبالنسبة للأشخاص الذين يشبهون لينتشينير أو مواطنيه المؤيدين له، والمهتمين بالقضايا الواقعية مثل الاقتصاد، فسوف يتطلب الأمر أكثر من مجرد تخليهم عن التعلق الفرنسي، إلى صالح سرد قصصي عن الرفض المجتمعي والسياسي لجوبيه وماكرون، لكي يكون لديهم شيء يستطيعون تقديمه. ولكن على الأقل، تعتبر خطوة التخلي مرحلة أولى على الطريق. جاك وماري الفرنسيان مثلهم مثل يوسف وإبراهيم، يتوقان إلى سماع قصة جديدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *