مجتمع

خالد بنسليمان: دعوني أروي لكم أمراً حدث لي الأحد

لم أعد أستقل حافلةَ النقل الحضري بالبيضاء منذ عشرين عاما. الأحد، حصل أن فعلتُ وأنا أنوي الذهاب إلى صديق حلاق بمركز المدينة.  قلت لنفسي: « اليومُ أحَد، نهاية أسبوع طويلة، وقد لا يكون بها ركاب كثر.» انتظرتُ، إذن، في ظل شجرة بشارع يعقوب المنصور وأنا أتساءل: « أما زالت الحافلات تتأخر عن موعد ظهورها ؟» بعد ربع ساعة، جاء رقم 19 قادماً من الحي الحسني. للوهلة الأولى، قلت: « لا بأس، رغم أنه في حالة سيئة جدا، فهو غير مزدحم.» فُتح الباب، فصعدت ومن سوء الحظ لامسَت ركبتي شخصا قاعدا إلى جانب السائق. لماذا يجلس هناك ؟ لا أدري، عِلما أن أغلب المقاعد شاغرة ! ما لبث الشخص أن قام فاستدار نحوي. هو أطول مني بقدر رأس تقريبا، وله ساعدان مفتولان، بهما آثار جروح غائرة. « مالك ؟» قال لي وهو يحرك يديه أمام صفحة وجهي. لم أفهم في البداية ردةَ فعله، فأخذتُ أنظر إليه مندهشا دون أن أنأم بحرف. أمام صمتي، كرر عبارة « مالك ؟» وقد رفع من صوته هذه المرة. تنبعث من فمه رائحة الكحول، ومن جحوظ عينيه قدرتُ أنه تحت تأثير جرعة قوية من مادة مهلوسة. « مقرقب» بكل ما تحمل الكلمة من معنى. هنا أدركت أن ثمةَ مشكلا حقيقيا. نظرت إليه في هدوء وقلت له: « ما مالي والو، لمستك دون قصد لأني لم أنتبه لجلوسك في هذا المكان.» عاد إلى ترديد عبارة « مالك » وهو يلوح بيديه قريبا من وجهي. رغم هذا تمكنتُ من إيصال النقود إلى السائق، فحصلتُ على التذكرة ووضعتها في جيبي. عدم اكتراثي به أجج غضبه، فأخذ يصرخ ورشَاشُ لعابه يتطاير في اتجاهي.  قد خرج للتو من السجن وهو مستعد للعودة إليه من أجل أمثالي، قال لي: « اليوم، سأصَفي أمك الفاعلة.» حاولت مبتسما تهدئته وإعادته إلى رشده، لكني أخفقت فقد كان مُصِرا على العنت. كلما نظرت إليه ازداد هياجه وأزبد وأرعد. انتابني شعور عميق بالشفقة على المسكين. قلت في قرارة نفسي: « ليس ذنبَه أن صار هكذا حيوانا يفترس نفسَه بنفسه.» أحسستُ أنه يقرأ ما يجول في خاطري، الشيء الذي ضاعف من سعاره، فأخذ يصيح ملء حنجرته: « سأوجعك ضربا !» رفع قبضته في اتجاه رأسي وهو يضطرب حنقا. فهمت من نظراته أني أمثل له كل الانحطاط الذي ينخر حياته. كنت في ذلك الوقت بالتحديد تجسيدا لكل ما يكرهه في نفسه،  مثالا حيا لكل ما لا يمكن أن يكونه أبدا. وضع يده في جيبه فأخرج مِشرطا من الحجم الكبير. عجيب هو تأثير مجرد نظرة بسيطة على الإنسان ! هي مرآة تعكس لك حقيقتك المُرة. كان في مواجهة مع روحه من خلال عيني. حقده الدفين يرتد إليه بواسطة إشفاقي عليه. أدركتُ هذا، فاستدرتُ أبحث عن مكان فارغ، رغم خطر المشرط. يستطيع طعني في أية لحظة. باستثناء صياحه، ساد صمت مطبق في جنبات الحافلة. جميع الركاب ينظرون إلينا دون أن ينبسوا ببنت شفة. قرأت الرعب في أعين النساء. أما الرجال فقد بدا لي بعضهم غير مبال بالأمر، وبعضهم مسرورا لأنه في منأى من الخطر. عدم النظر إليه قد زعزع ثقته بنفسه للحظات، فقد أدرتُ له ظهري واتجهتُ إلى وسط الحافلة. هنا، أخذ الرجال يرسلون إلي إشارات من خلال أعينهم، كأنهم يقولون لي باللهجة المحلية: « ما تدير راسك فيه !» عدم المبالاة المفاجئة هذه قد اعتبرها الرجل بمثابة إساءة صريحة لشخصه « الكريم». لا يجد ذاته إلا في الغضب، ولا تطمئن نفسه إلا برؤية الخوف في وجوه الناس.  بهدوئي قد رسمت له صورة نفسه البائسة.

اضطر معي ليثبت أنه موجود وأنه إنسان، لكنه لا يعرف إلا طريقة واحدة لذلك، فقد انطلق نحوي يريد، حسب قوله، قتلي. فكرتُ في خيار المواجهة  أقلبُ احتمالاته، عرفتُ ألا مجالَ لتعقيل الرجل، فباتت المواجهة أمرا حتميا. أنبذ العنف، وفي ذلك الوقت كنت مكرها لا بطلا. في عنفوان الشباب، قوي البنية، إلا أنه تحت تأثير الأقراص المهلوسة ، وأنا أفضُله بهدوئي وصفاء ذهني. الركاب، وقد تملكهم الذعر، قد أخلوا له الممر. انتظرت حتى اقترب مني بمسافة معلومة، فأمسكت بمعالق الحافلة ووجهت له ضربة قوية برجلَي في مستوى الصدر، فقدَ توازنه إثرها واصطدم بالزجاج الأمامي. تسارع إيقاع خفقات قلبي، ولم أعد أشعر بما وبمن حولي. لم يعد في الوجود إلا أنا وهو. ارتميت عليه قبل أن يسترجع توازنه. لا أذكر كيف اجتزت نصف مسافة الحافلة. أمسكت رقبته بيدي اليسرى، وباليمنى يده التي تحمل المشرط، أضربها على حاجز المدخل إلى أن ألقاه. لا أتذكر الكلام الذي كنت أصرخ به في وجهه. لم أنتبه إلى أني قد ضيقتُ الخناقَ عليه إلا بعد أن شاهدت الهلع في عينيه. لم أكن أتصور أني ما زلت أملك تلك القوة ، والحال أن رقبته سميكة. أحسست بأصابعي تنغرز في لحمه. لم يعد يقوى على الكلام.  بدا لي شاخصا من الخوف. لا أعلم ما كان يقرأ في ناظري إلا أن ذاك أشعرني بالخوف أيضا. خففت الضغط وطلبت من السائق التوقف وفتح الباب. أنهضته وسحبته في اتجاه الباب وأنا قابض على رقبته. « اغرب عن وجهي الآن»، قلت له. تمسكَ بالحاجز. وجهتُ له ضربة في مستوى الفك ليرخي قبضته، ودفعته بقوة نحو الرصيف. طلبت من السائق أن يغلق الباب وينطلق وكذلك فعل.

في ذلك الوقت فقط استعدت وعيي بالناس الذين يتابعون المشهد في صمت. الجميع ينظرون إلي في اندهاش. لم يكن ليخطر على بال أحدهم أني أقدِم على كل ذاك. الخوف باد على وجوه بعض النساء. بعض المراهقين ينظرون إلي راضين بما آلت إليه الأمور. أخذ الرجال يقولون لي بأنه كان علي أن أفعل ما فعلت من البداية، وبأني كنت مهذبا أكثر مما يجب مع ذلك الوحش. كنت أحاول استرجاع أنفاسي، إذْ دعاني أحد الركاب للجلوس إلى جانبه، وأخذ يمازحني. « كرفسك ولد الحرام»، قال وقد انفجر ضاحكا. شعرت أني أنا أيضا قد استسلمتُ للغضب، لكني سرعان ما تحكمت في أعصابي. غضب لا عهدَ لهؤلاء الناس به لدى أمثال الشخص الذي دخلت معه في شجار. رغم غضب الرجل الشديد لم يستطع القيام بأي ردة فعل اتجاه غضبي أنا الذي لم يدم سوى ثوان. الحقيقة أني ندمت شيئا ما على الضربة التي وجهتها له في مستوى الفك، لكني فكرت أني قمتُ بما يجب القيام به من أجل إبعاده عن الحافلة. لو لم أفعل لطال بنا العراك ولتعرض أحد الركاب لخطر ما. هبطت في أول محطة بعيداً عن المكان الذي كنت أقصده، فضلتُ قطعَ المسافة المتبقية سيراً.

كل هذا لأقول لكم بأن العنف راسخ في نفوسنا، وبأن الوحش الذي يختبئ فينا قد يطفو إلى السطح في أبسط فرصة تتاح له، وإذا حدث هذا لا تتركوا له سوى الوقت الكافي للخروج من الخطر المفترض وقوعه. أما إذا أسلستم له القياد، فسيؤدي بكم إلى مأساة. استنتاج آخر من هذه الحادثة: وسائل النقل العمومي بالبيضاء لم تعد أبدا مأمونة.

(ترجمة هيبتن الحيرش)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *