ثقافة وفن

“كامل دولس”..خمسة أشهر عند البيضان

وُلد كامل دولس بفرنسا سنة 1864، وحل بالمغرب لتعلم مبادئ العربية وحِفظ ما تيسر من القرآن. في عام 1886، قرر الجوازَ إلى الصحراء عبرَ الجُزر الخالدات، حيث سيتعرف على الرحل وعاداتهم وغزواتهم.

ركب دولس سفينةَ صيد وحط بساحل مدينة بوجدور الحالية (رأس بوجادور بالنسبة للرحالة الغربيين)، وبما أن العلاقة بين الغرب والشرق كانت آنذاك متوترة (هل خَفت الآنَ حدةُ التوتر أم تغيرت فقط  أشكاله؟)، فقد جاء في هيئة تاجر جزائري مسلم، تفاديا لكل اصطدام مع الأهالي (إن شئنا استعمال لفظة عمت بها البلوى في المراجع الاستعمارية). لم تنطلِ حيلتُه أولَ الأمر على البدو، ذلك أن «المسلم لا يأتي أبدا من البحر، وحدهم الكفار يأتون من هناك»، كما جاء على لسان إحدى  الشخصيات النسائية للكِتاب، الذي هو عبارة عن مرويات مكتوبة بأسلوب فرنسي بالغ الأناقة والجمال (أسلوب القرن التاسع عشر المعروف، خصوصا في باب السرد). تضيف الشخصية النسائية المشار إليها وهي تخاطب دولس: « لا تخف، إبراهيم ولد محمد، أبي، إنسان طيب، ستبقى معنا في خيمتنا ولن يمَسك مكروه.» وقد تم تعزيز النص برسوم للفنان الفرنسي ذي الأصل السويسري جول جيراردي (1856-1938) وأخيه اوجين جيراردي (1853-1907)، أنجِزت انطلاقا من تصاميم أولية لدولس نفسه، وقد استُلهِمت من الرحلة  وهي تصور مشهدَ سطو على قافلة، ورود قطيع من الإبل بئرا، خيمة الشيخ ماء العينين، وصول قافلة الأعراب الذين يرافقهم دولس إلى تندوف، استقبال الوفد من طرف حاكم واد نون، منظرا عاما لعاصمة واد نون (ﮔليميم)، دولس نفسه وهو في هيئة محارب من قبيلة أولاد دليم تارةً، وتارةً أخرى في الأصفاد، فتاة بدوية تحمل له قدحا من حليب النوق، جَمعاً من البدو يؤدون صلاة الجماعة في العَراء، زيارة ولد البكاي للخيام، الخ.

جُرد كامل فورَ ظهوره بتراب البيضان من كل ما يملك (أغلب لباسه، سبحة جميلة كان يحملها معه، مسدس…)، وتم تقييده ولو أنه حاول بكل ما أوتي من وسائل الحِجاج إقناعَ القوم بصحة انتمائه للإسلام، حيث كان يصلي معهم، مثلا، تجسيدا لحسن إسلامه. اضطر إبراهيم ولد محمد إلى أخذه ضمن قافلة كاملة إلى حدود الساقية الحمراء (وفي الطريق شهد عملية نهب لحمولة إحدى القوافل وما رافقها من إسالة للدماء)- قلتُ: أخذه إلى الشيخ ماء العينين، يستفتيه في أمره،  ولما عاينه هذا قال: « هذا الرجل مسلم حقيقةً، انزعوا عنه القيود، ردوا إليه كل ما أخذتم منه واستقبلوه في خيامكم مثل أخ.» وهنا فكر إبراهيم في تزويجه من ابنته التي أبدت نوعا من التعاطف معه، تظاهرَ بالقَبول وطلب منه أن يمهله ليذهب إلى أهله فيُحضر مهرها، وبهذه الحيلة استطاع الالتحاق بمنطقة سوس، فمراكش والصويرة قبل العودة إلى بلده  ونشر مذكراته على صفحات مجلة « حول العالم » وذلك سنة 1888، وبهذا أتيح لنا نحن القراء من أبناء البلد الاطلاع على شهادة لا تخلو من أهمية عن فترة تاريخية مراجعها شحيحة إن لم نقل منعدمة. طبعا، شهادة دولس لا يمكن وصفها بأي حال بالموضوعية (وهل الشهادة شيء غير الانطباع الذاتي ؟)، بما أنه القطب الذي  تدور حوله رحى المغامرة التي يروي لنا تفاصيلها، غير أنه من الممكن، بقدر قليل من الفحص السقراطي، تمييزُ الغث من السمين فيما يحكي.

رافق دولس قافلة أولاد دليم إلى واد نون، ومنه بدأت رحلة رجوعه لوطنه: « في اليوم الموالي، انطلقنا في اتجاه واد نون، تاركين وراءنا الخيام. استغل كثير من الأعراب الفرصةَ للذهاب إلى سوق ﮔليميم قصدَ بيع بعض حِيرانهم. اشتملت قافلتنا على عشرين شخصا وخمسة وثلاثين جَملا.» عند وصول القافلة إلى ﮔليميم، قدم إبراهيم ولد محمد دولس للقائد دحمان ولد بيروك، حاكم المنطقة، وشرح له ظروف تواجده معهم ودوافع عودته إلى أهله، فلم يشك في أمره مطلقا. وبما أنه كان يرتدي زي السكان المحليين، فقد استطاع التجوال في المدينة في أمان تام. ولم يفته، في هذا المَقام، أن يقدم وصفا لما كانت عليه ﮔليميم آنذاك (هي الآن من أكبر مدن الصحراء): « شُيدت ﮔليميم على سفحِ مرتفَع، وسطَ بساتين تضفي على المكان جوا منعشا. أسوارها بها خمسة أبواب. يقطن اليهود حيا خاصا منها، كما في كل مدن المسلمين، لكنهم يحظون فيها بتقدير أكبر مما في باقي أنحاء المغرب. يُقام بها سوق كبير يرتاده بدو الصحراء،  ويلعب سكان واد نون دور الوساطة بين البدو وبربر سوس، يلبسون زي الصحراويين ويتكلمون لهجتهم. هذه المنطقة تديرها من وقت بعيد عائلة بيروك العريقة… الواد نوني البسيط منزلُ بيروك، الذي يستقبل الناس يوميا في سقيفته، مفتوح في وجهه… عندما تم تقديمي له كان بصدد الإشراف على تصفيح حوافر حُمُره وبِغاله. هو على جانب كبير من الثراء،  إلا أنه متواضع في مظهره ونمط عيشه. بعد أيام من الراحة، عبرتُ له عن نيتي في الذهاب إلى المغرب، فأتحفني بمَركب وجعل رهنَ إشارتي دليلا من جُنده. وبما أنه رآني في زي البدو، أعطاني جلبابا من الصوف الأبيض ونصحني بأن أفِد على أخيه عابدين، الذي كان آنذاك في زيارة للسلطان.»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *