مجتمع

ربع قرن في سجون البوليساريو.. عدي عليلوش يروي حكايته -2-

الحلقة الثانية:

الخائن الذي كان بيننا

يسألني عْدي كل مرة، ونحن نتناول الغذاء معا، أو نتمشى جنب البحر كسائحين قدِما من بلاد بعيدة، أو نرتشف الشاي الثقيل في محل هادئ:

ــ هل ضغطتَ على زرّ التسجيل يا أستاذ؟

ــ لا عليك عدّي.. فقط احْكِ. هذه التسجيلات لن أعود إليها سوى لتذكّر الأسماء والتواريخ والشخصيات وترتيب الأحداث والوقائع، وغير ذلك فإنني أرغب أن أعيش قصتك كي أستطيع نقلها. وكأني الذي كنت في الأسر. سأكتب لك يا عَدّي.. لأجلك ولكل أبناء الهامش الصّادقين من طينتك..

لا تقف عند الأحداث فقط. لا تكلف نفسك عناء الحديث بالعربية. تحدث بلغتك التي رضعتها من أمك ومحيطك عندما يتعلق الأمر بالذكريات والاسترجاعات والتأملات. وحدها لغتك الأم تستطيع أن تنقل أحاسيسك بصدق ودقة. تحدث بالعربية أو الحسانية أو الدارجة الجزائرية عندما يتعلق الأمر بأوامر الجلّادين وحوارات الضباط..

“تَاونْڭيمْت” يا عدّي.. (تفكيرك)، يُوصد عليك السجان أبوابه أو يرميك في حفرة غارقة لكن أنّى له أن يسجن “تَاوْنڭيمت”. فاحك أين يسافر قلبك وعقلك عندما تكون وحيدا، قل أي شيء شعرتَ به هناك، حتى ما يبدو لك تافها غير ذي قيمة، ففيه ضالتي وضالّة قارئ مُفترض..

لَمْلِم حكايتك يا عْدّي.. قصتك تجربة إنسانية فريدة لا يجب أَن تُدفن معك. فاقْصُص علينا كيف بدأ الأسْرُ؟

ينظر إلي مليا. عرفت فيما بعد أنه لا يراني الآن. نظراته تخترقني، ملامحي تشوهت في عينيه وتحولت إلى زميل أسير أو سجان حقير، وبدأ يُحرك شفتيه:

… من أين سأبدأ قصّتي؟ كيف لي أن أُلَمْلِمُهَا وقد تشَظّت أشلاءَ.. أَيُلَمْلَمُ الخَرَاب وهل يُجمع الزجاج بعد انكسار؟ أتستطيع سطور من الكلمات أن تفيد في نقل ما يشعر به أسير وما عاناه كل الدقائق، كل الساعات، كل الأيام، كل الشهور، فكل السنين التي اقتربت من الربع قرن؟

يستَحيل أن نختزل خمسة وعشرون سنة من الأحداث والعواطف والأحقاد والضغائن في بضعة أوراق، لكنني سأعود إلى يوم مشمس من أيام فبراير سنة 1976. بالضبط يوم الـسابع والعشرين منه.

توصّلتُ برسالة من أخي الكبير احساين، يدعوني فيها أن أحضُر عرسه بقريتنا البعيدة..

 للعرس في بلدتي طُعمٌ خاص، ولا أجمل من أن ترتدي زّيك التقليدي، جلباب أبيض جديد وسروال قندريسي وتعلق خنجرا قديما، وعلى رأسك عمامة بيضاء أو صفراء. تتخلّص لبعض الوقت من البدلة والبْرُودْكَان، وتُرَدّد مواويل الأفراح دون أن تتقيد باستعراض ولا أوامر..

لَم يتبقّ لموعد العرس سوى أقل من 10 أيام بحسب ما جاء في الرسالة، وإجراءَات طلب الرّخصة ــ أو بْرْمسْيُونْ بلغة العسكر من قَومي ــ تتطَلّبُ وقتا طويلا.

كُنتُ وقتها لا أقرأ ولا أكتب، والحُروف بالنسبة لي كانت كطلاسم السّحرة وتمائم الدّجالين.

طلبتُ من رفيقي الجندي الذي قرأ لي الرّسالة أن يكتب لشقيقي ردّا. انتزعت ورقة من دَفترٍ كبير كنت أَحتفظُ به بين أغراضي لمثل هذه المُناسبات. قلت له:

أكتب له رَدّا مقتضبا بالحرف بعد التحية السلام وما تُفتتَح به الرسائل:

“شقيقي العزيز.. وصلتني رِسالتك هذا اليوم فأفرحتني. بَارَك الله في عُرسك ورزقك صَالِح الذرّية. لا أستطيع الحُضور وأعتذر، فأنا في عُرْسٍ لا ينتهي لَيلَ نهار، بَلّغ سلامي لأمي الحَنُونة”.

كانت الكلمات قليلة وسط صفحة كبيرة بيضاء كالبرقيات المُكَلّفة. لكنها سنة الحياة؛ تَقِلّ الكلمات عندما يكون الخطبُ جللا.

قد لا يهمكم موضوع هذه الرسالة أصلا، لكني ذَكرته لأني كُنت فقط أريد أن أقول لأخي بأننا في حرب، وفي الحُرُوب لا تُمنح الرّخص للجنود. سيفهم مرادي ويجد لي ألف عُذر.

أنا جُندي يمشي فوق ألغام الصّحراء، فأَلِفَ أن تكون كلماته خفيفة كخطواته. جُبِلتُ على الكتمان ولا مندوحة لي من اختيار كلمات تقول كل شيء.. ولا تقول أي شيء.

وضعت الرسالة بنفسي في المظروف الأصفر، وإن كُنت لم أكتبها لكنني رغبت أن أتحسّس الورقة بأصابعي، كأعمى يتأكد بأصابع يديه إن كان طفله الذي لم يَرَه يُشبهه.

بَلّلتُ لصاق المظروف بلساني. أردت أن أنفث فيه شيئا من روحي ليصل أمي هناك خلف هذه الكثبان التي تذروها الرياح وترسم بها الحدود كل يوم.

 نحن هناك في الجنوب نجد غَضَاضَة في التعبير عن حُبنا لأمهاتنا ولأقربائنا لكن عدم التعبير لا يُفيد النفي أبدا. عندما تأكدت من إغلاق الظرف انتباني إحساس من دوّن وصيته الأخيرة ووقّعها ولا فرصة أمامه لإضافة شيء آخر.

سلمت الرسالة للجندي الصّديق. طلبت منه أن يضعها بنفسه في صندوق الثكنة البريدي صباحا أو يتكفل بإرسالها عبر بريد المدنيين بمركز المدينة.

صباح اليوم الموالي، جاءنا أمر من رؤسائنا بالانتقال من مدينة العيون إلى السمارة، بهدف توفير الحراسة الأمنية لقافلة من التجار الصّحراويين. سيعبرون تلك القفار محملين بمواد غذائية اشتروها من مدينة طانطان.

مهمتنا أن نُوفّر الأمن لتلك القافلة، خاصة مع تنامي هُجومات عصابات انفصالية، تطال المدنيين العزّل؛ من حافلات المسافرين وسيارات التجّار من الأشخاص الذين لا ذنب لهم سوى تواجدهم في المكان الخطأ في الوقت الخطأ.

كانت القافلة (يسمونَهَا الكُوفا) في جملتها تتكون من خمسين عربة؛ فيها شاحنات وسيارات من نوع لاندروڤر. كُنا حينَئذ إثنا عشر جنديا فقط. تُقِلّنا ثلاث عربات عسكرية. تتقدمنا سيارة جيب، بها أربعة جنود؛ السائق وحامل الراديو وعسكريان آخران.

 في الوسط شاحنة بها أربعة أفراد بينهم المسؤول عن الكتيبة. كنت أنا في سيارة الجيب التي في مؤخرة الركب، ومعي حامل الراديو وصديقي مصطفى وجندي سائق لا أعرف اسمه.

لا شيء يُرَى غير القِفار والرمال المتحركة كما تشتهي الرياح. لما تجاوزنا طريق بوكراع بقليل فجأة توقف أحد التجار. كان يسوق سيارة لاندروڤر. فتح الصندوق الأمامي للسيارة كما يفعل عادة من استشعر سخونة المحرك. كانت سيارتنا تتعقبه. لما تجاوزته ببعض الأمتار توقفنا للاستفسار.

 اتصل حامل الراديو بالمسؤول عن الكتيبة الذي يوجد بالشاحنة وأخبره أن تاجرا توقف عن السير. بلغة صارمة أجابه المسؤول:

ـ ليلتحق بالقافلة، وإذا لم يرغب فاتركه هناك. ولا تلتفت إليه.

أمر حامل الراديو سائق عربتنا أن ينزل ليأمر التاجر المتوقف بمواصلة المسير. أمرني أن أنزل مسلَّحا وأبقى بعيدا عنهم مستعدا لأي احتمال، وكذلك فعلت. كانوا ثلاثة أشخاص في تلك العربة. اقترب سائق عربتنا من الرجل الذي فتح الصندوق الأمامي وسأَلَهُ:

ــ مالك وْقْفتي؟

ــ المُحرك سخون!

ـ كايقول ليك المسؤول ، تْبّع الكُوفا ولَّا غَادي نْخلّيوك هْنا..

لم يستسغ لغته تلك. نظر إلينا نظرة تنم عن حقد قديم. صمت زُهاء دقيقة. أغلق الصندوق الأمامي. نظر جهة تلال صغيرة لا تبعد كثيرا عن موضع وقوفنا. نزع الشّال الأزرق الذي يلفه حول عنقه وقد تدلّى جزء كبير منه. جمعه بين يديه وقذف به بعيدا نحو السماء. تلقّفه ثم قَذف به نحو الأعلى مجدّدا، ثم فعل مثل ذلك للمرة الثالثة. صعد نحو سيارته وانطلق يتقدّمنا بسرعة جنونية..

تداولنا فيما بيننا داخل السيارة أمر تلك الحركة المشبوهة، ونحن نتعقبّهم بسرعة أقلّ. قام حامل الراديو بإخبار المسؤول بكل تلك التفاصيل. ولم تَمْضِ على قطعنا أقل من أربعة كيلومترات عن مكان توقفنا حتى وقع ما لم يكن في الحسبان؛ هجوم مسلّح من كل الجهات.

لم نتمكن من الالتحاق بزملائنا الذين يرافقون القافلة، فالهاجمون قطعوا أمامنا الطريق، وعزلونا نحن الأربعة عن البقية. حاولنا الدفاع عن أنفسنا بإطلاق النار، كما حاول صاحب الراديو الاتصال بالمسؤول بلا جدوى، ولا خيار لنا غير مواجهة قدرنا المحتوم.

تراءت لي دفوف فرح أخي والمهنئون يلجون الخيمة زُرافات وَوِحدانا. هل سأموت في هذه القفار بينما أخي يستعد لعرسه؟ أتفرح أمي بالعرس وفجأة تتلقّى خبر موتي. أيطغى صوت النواح ليحجب زغاريد الفرح. سيقول أهل الدوار إن حذاء العروس جالب نحس. يلصقون الشرور بحذائها، فهو أول من يتخطّى عتبه بيت زوجها، فما أن حطت بباب العتبة حتى فقدوا شابا في ساحة الحرب.

كنت أنا وصديقي نصوّب أعيرتنا تجاه المهاجمين والسائق يُرَكّز اهتمامه على السياقة، لعلنا نجد منفذا للهرب. سيارة لاندروڤير أخرى خلفنا لا يفصلها عن سيارتنا سوى شبرا واحدا.

أراد السائق أن يسرع أكثر وكأنه يتوسل إلى مُحرك هذه الدّابة أن يقدّم أقصى ما عنده، وأثناء ذلك خرج عن الطريق وبفعل الاصطدام بنتوءَات الطريق، فسقط صديقي.

سقط، فوقف يجري ويراوغ الرصّاص الذي انهمر عليه من الخلف. طلبت من السائق أن يعود للخلف لعلنا ننقد صديقنا من موت محقق وكذلك فعل.

كُنت أُصوّب بيد واحدة وأمد يدي لمصطفى، فاستطاع أن يمسك بي ويصعد للسيارة من جديد. كدنا ننجو هاربين، لكن رصاصة أصابت السائق في عظم العين اليسرى جعلته يمسك عينيه من الألم تاركا مقود السيارة لتذهب أنّى شاءت. فانقلبت بنا وكلٌّ في وجهة هو مولّيها.

كان صاحب الراديو مكسورا في رجله جهة الورك، يصرخ من الألم الشديد ولا مغيث، انهمر الدم من عين السائق اليسرى بعد إصابته بكسر أيضا. كنت أشعر بألم شديد في ضلعي اليسرى. تحسست بيدي موضع الألم، فإذا بعظم مكسور يكاد يثقب الجلد. قلت لصديقي دون وعي: اضرب يا مصطفى!

ـ آش غادي نضرب. شْدّونا ولاد الحرام.

شكّل المباغتون دائرة حولنا، ولم يتبقّ أمامنا سوى أن نرفع أيدينا نحو الأعلى منتظرين الأسوأ.

أن نرفع أيدينا نحو الأعلى منتظرين الأسوأ.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *