مجتمع

ربع قرن في سجون البوليساريو.. عدي عليلوش يروي حكايته -3-

الحلقة الثالثة:

الشبيه:

  يرتشف عدي من كأسه، يصمت قليلا، يتنهد، ثم يواصل حكيه عن ذكرياته، عن تلك اللحظة التي باغتهم فيها المهاجمون، إذ شكّلوا دائرة حولهم، صوبوا الأسلحة تجاههم ولم يكن أمامهم من حل سوى رفع الأيدي نحو السماء إعلانا للاستسلام ولو إلى حين:

أَمرُونا أن نبتعد عن السيارة التي كنا نحتمي بها، أطلق أحدهم رصاصة في الهواء كي نشعر بالذعر ربما. عرفت من تصّرفه ذلك أنه ليس عسكريا، فالعسكريون يعرفون أن صوت الطلقة لا يُخيف الجنود، لأنهم يؤمنون أن الرصاصة التي ستقتلك لن تسمع صوتها أبدا. هكذا قال لنا رئيسنا ذات يوم.

كنت أتمنى أن أتلقى واحدة في القلب، لأخر صريعا على أن أسقط بين يديّ رجال أجلاف، لكن تذكرت أمي والفرح العائلي وناس الدوار والعشيرة وزوجتي التي تنتظر عودتي هناك..

خطَونَا قليلا إلى أن ابتعدنا عن الآلية المنقلبة. ركض شاب نحوي. كان أسمر اللون وقد تبّثَ في مقدمة سلاحه الناري سكينا حادة (كلاش). فوهة الأسلحة مصوبة إلينا ورأس السكين في عنقي. أراد أن يطعنني كما يمزّق جمركي كيس بُنّ أو قمح شّكك في محتواه. أعرف أنه يستطيع أن يفعل ذلك ببرودة دم، لكن زميله تدخل ورفع السكين عن عنقي بواسطة سلاحه الناري. أمرني أن أصعد إلى سيارتهم، وماذا يستطيع الميت أن يفعل أمام غسّاله سوى الإذعان؟ حاولت الصّعود مرتبكا. قال لي الشاب الأسمر بسخرية:

ــ قل الآن عاش الملك!

قُلت بما تبقّى لديّ من جهد:

ــ عاش الملك والموت للخونة.

ضربني بشدّة بمؤخرة بندقيته وسط ظهري وارتطم رأسي بعمود حديدي. شعرت بِصعوبة التنفس لبعض الوقت. أَراد أن يُعيد الكَرّة لكن زميله منعه ثانية.

ــ إِمّا أن تدعه عنك أو أقتلك.

ــ ألم تَرَ كيف كان يهاجمنا بيد واحدة، وبالأخرى يجرّ صديقه.

ــ قَسما لأطلقنّ عليك النار إن لم تدعه عنك.

انطقوا بنا إلى واد يُدعى توكات. في الطريق تأكدت أن شابا كان في سيارة بها رشاش من نوع 52، سبق لي أن رأيته. وأنه تسلل إلى الموكب مع السيارات الخاصة التي استقدمها كومندار من مركز السمارة. إذ تفتقت مخيلة الكمندار قُبيل المغرب على أن يستقدم بعض المدنيين من مالكي السيارات لمساعدتنا في نقل بعض الجنود والعتاد، فاستقدم خمس سيارات من نوع لاندروفير يملكها صحراويون مدنيون. ومن تلك الخطوة تسلّل الانفصاليون إلى معاقلنا حسب تقديري. زلة بسيطة ارتكبها مسؤول كبير دفعتُ ثمنها رفقة زملائي من سنين عُمرنا المهدور.

قال لي بأنه كان يراقبنا منذ ذلك اليوم الذي ذهبنا فيه للعيون، فقلت له:

ــ “لقد تذكرتك، أنت الذي كنت ترتدي شالاً رماديا؟”

 صفعني ثم اختفى.

كُنت مُقيدا يسهل صفعي، لم أكد أتناسى ألم الصّفعة حتى ركضَ شاب في نفس عمري نحوي. أمسك شعري وبدأ يصرخ بكل قوة:

ــ “أنت محمد ابن عمتي فاطِمتّو التي تزوجت عسكريا، وسافر معها لتَكنةٍ بورزازات. أنت هو “.

كان يمسكني وكنت أنا مُصفّدا أنظر إليه في شرود دون أن أفهم مغزى كلامه.

ــ “يا محمد قل لهم أنك ابن عمتّي، إنهم إنهم لا يعلمون أنك صحراوي من العيون”.

ــ “أنا لست ابن عمتك. ربما قد أكون أشبهه. أنا اسمي عدّي. أنا أمازيغي من تازارين ولست من العيون كما تقول”.

لكنه لم يقتنع، ظل يُكرّر أني ابن عمته عليّ وعلى كل الذين كانوا هناك.

حتى عندما نقلونا إلى جبل توكات، كان هذا الشاب الصحراوي رفقتنا. بقيّ لصيقا بي، وكل مرة يكَرّر عليّ لازمته أني ابن عمته المتنكّر..

لمّا وصلنا جبل توكات، وجدنا بانتظارنا ضابطين جزائريين. أحدهما أمازيغي من تيزي وزّو أبيض البشرة بشارب مقصوص، والآخر أسمر اللون أشعتَ اللحيةِ.

بدأت صنوف التعذيب والاستنطاق. وقد نِلتُ من الصفع والركل والرفس والكي بالنار والضرب بالكابلي ما لم ينله بقية زملائي. بدأت حفلة الصفع وقت الظهر، ولم يتوقف الجلادون المتناوبون سوى في حدود الرابعة صباحا.

 يقال إن الملابس ترفع من شأن مُرتديها وتمنحهم بعض الدرجات، لكن ملابسي وقتئذ كانت وبالاً عليّ. كانت جديدة ونظيفة. لأني كنت قد تركت بدلتي العسكرية الثانية في طانطان، ولم أتوصل بأمتعتي حيث توجد بدلتي سوى بعد أن وصلتُ العيون، فارتديت تلك البدلة الجديدة، فاعتقد الضابطان ومن معهما أني المسؤول عن هذه الكتيبة، كما أنني كنت أطول الأسرى المقبوض عليهم، وأن الرّاديو كان موجودا بسيارتنا المنقلبة.

كانوا يعتقدون أنني برتبة ملازم، أو ملازم أول. ركّزوا كل جهودهم عليّ. لعلهم يحصلون على أسرار الجيش. يسألونني تحت الضرب عن أسماء الضباط وعددهم والجنود والعتاد والمعدّات والذخيرة. مخابئ الأسلحة وأوقات تغيير الحراسة والمداومة وغير ذلك.

لم يحصلوا مني بفضل الله على أي سر. كنت أعرف بعض أماكن السلاح والذخيرة رغم حداثة تواجدي بالثكنة. لكنني لم أبح بشيء، ليس فقط لأني أقسمت ألّا أخون ولو دفعت عُمري، وأن أدافع عن وطني كما يُدافع ابن عن أمه وأشدّ، تفنى الأم ولا يبقى لنا سوى ذكراها ويبقى الوطن خالدا.

لم أُخبرهم بأي شيءٍ لأني آمنت بأنهم سيقتلونني سواء بُحت بمكان العتاد أو لم أبح..

وأنا أومن أن الجندي قد يموت مردوما في خندق، ممزقا بفعل قذيفة أو انفجار  لغم، مرحوما برصاصة في القلب، مَطعُونًا بسكين في الصدر في اشتباك بالأيدي.. ربما قليلة هي صيغ الموت بالنسبة للجنود في ساحة الوغى، لا كالمدنيين الذين تُتاح لهم فُرص موت كثيرة!

لكن كل ذلك لا يَفْرُق شيئا بالنسبة لجندي اختار قدره وآمن به. لا يختلف الموت بشدة الألم الذي قبل صعود الرّوح إلى مكان ما. الموت موتٌ والسلام!

 والفرق الوحيد الذي أومن به هو أن تموت وأنت راض على نفسك، أو أن تموت وفي قلبك غصة.

قضيت ليلة طويلة كطريق الصّحراء. تتقاذفني أسئلة المستنطِقين الجزائريين وصنوف التعذيب التي أتلقاها من رجال البوليساريو، وإصرار ذلك الشاب الصحراوي على أني ابن عمّته الذي تنكر لصحراويته.

 تكسر أنفي وبدأت أنزف دما. حاولوا إيقاف تدفق الدم السيال حفاظا على حياتي كي أُخبرهم بما يريدون معرفته، لذلك جاؤوا بالقطن والماء والكحول دون جدوى..

نادى أحدهم على ممرضة تدعي فاطمتّو. بدأت بضربي على الوجه خاصة الأذنين. قالت إنها تفعل ذلك كي يتوقف النزيف! ولما لم يتوقف غابت بضع دقائق ثم عادت وقد جلبت روث حمار. أمرتهم أن يفتحوا فمي. لما امتنعت عن ذلك، فتحوه باستعمال سكين الكلاش، ودست كمية مهمة من تلك الفضلات فيه.

كان فمي مُمتلئا عن آخره بفضلات البهيمة حتى صعُب عليّ إغلاقه. حسبتُ الأمر صنفا من التعذيب المهين، لكن النزيف توقّف فجأةً وإن كنت أجهل سبب التوقّف. بدأ الاستنطاق من جديد والأسئلة الكثيرة والغبية أحيانا، والجلادون يواجهون صمتي بالركل والرفس والصفع إلى حدود الثالثة صبَاحا.

توقف الاستنطاق والتعذيب بعد أن وصل رجل قمحي اللون، طويل القامة بلحية سوداء. ساعدوني في المشي إليه، بعدما ارتبكت مشيتي من أثر التعذيب.

وجدته يعِدّ شايا على الجمر. أمرني بالجلوس، لما رأيته شعرت بأنه كان يشتغل في الجيش المغربي. يرتدي شورط وكندورة قصيرة وسلهاما أسود.

أعطاني كأسا من الشاي، ثم فتح مذكرة صغيرة وبدأ يدون معلوماتي بقلم رصاص قصير.

أسئلة رسمية واضحة، عن الاسم والنسب واسم الأم واسم الأب والدوار والعمالة والقبيلة التي أنتمي إليها. ذكرت اسم أمي واسم أبي دون أي تحايل،

قلت له بأني من بلدة النقوب، غير بعيد عن قيادة تازارين التي تنتمي إلى عمالة ورزازات (وقتها). أجبته بكل صدق ودون أن أتأخر عن أي سؤال.

سألني: واش سبق ليك شفتيني قبل هاذ النهار؟

لم أكن أَرى ملامحه جيدا، لأن انتفاخ وجهي بسبب اللكمات والكدمات يعيق انفتاح عيني بشكل كامل. رغم أني كنت إلى جواره، شعرت وكأنني أطل عليه من شقوق باب خشبي قديم أو كُوة بيت طيني.

مع ذلك فوجهه ليس غريبا عليّ. فقلت له:

ــ رأيتك بين سنتي 73 و74.

ــ أين؟

ــ لا أذكر، ربما في تنغير أو بُومالن.

نظر إليا مليا.  كانت نظرته إليّ لا تفيد النفي ولا التأكيد، نظرة شاردة محايدة. صمت قليلا ثم نطق:

ــ ليس هذا هو الذي تبحثون عنه.

كانت عبارته كرحمة نزلت عليّ من السماء. توقف الركل والرفس والكلام النابي. نمت مقدار نصف ساعة لأبدأ حياة أُخرى لم أكن أتصورّها..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *